ثورات شعوب وتهاوي عروش تقرير: ماهر أبوجوخ سيبقى العام 2011م محفوراً في ذاكرة الشعوب العربية وتاريخها باعتباره قد شهد أحداثاً غير مسبوقة أو متوقعة قلبت رأس المعادلات والتوقعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك البقعة بشكل دراماتيكي وغير مسبوق، فشعوب تلك المنطقة التي ظلت محكومة بأنظمة سياسية قمعية وباطشة منذ نيل دولها لاستقلالها من الحكم الاستعماري ثارت على حكامها الذين اعتقدوا أن عقود البطش والخوف روضت شعوبهم وأسكتتهم عن مطالبهم في الحرية وهو ما دفع بعض هذه الأنظمة للتفكير في التحول لجمهوريات وراثية ينتقل حكمها من الآباء للأبناء باعتبارهم الأقدر على إكمال مسيرة أسلافهم والاستمرار فيها، إلا أن الشعوب العربية كان لديها رأي آخر أثار دهشة حكامهم وحلفائهم الإقليميين والدوليين. حصيلة الربيع العربي في العام الحالي تمثلت في الإطاحة بحكم (3) رؤساء هم التونسي زين العابدين بن علي والمصري محمد حسني مبارك والليبي معمر القذافي، وانقضي ذات العام دون أن يشهد نهايات حكم الرئيسين اليمني علي عبد الله صالح والسوري بشار الأسد اللذين يواجهان تنامي كبير وسط شعبيهما للمطالبة بإسقاط حكميهما وإن بدا المشهد فيهما محكوماً بمعطيات داخلية وإقليمية ودولية أكثر اضطراباً من الزعماء الثلاثة الذين ستشرق شمس العام الجديد على شعوبهم للمرة الأولى لسنوات وربما لعقود بدون رؤسائهم الذين اعتادوا على استهلال العام وانهائه بكلماتهم ووعودهم ووعيدهم. انعدام الحريات الحيثيات والظروف المرتبطة بكل ثورة من الثورات الشعبية الثلاث التي نجحت في إنهاء حكم رؤسائها في العام الحالي وتلك التي لا تزال وقائعها تتفاعل وتتأجل مشاهدها الختامية ربما للعام القادم قد تبدو مختلفة في بعض التفاصيل ولكنها في خاتمة المطاف تتفق على عدد من القضايا التي تعتبر بمثابة قاسم مشترك بين جميع تلك الثورات. لعل أول قاسم مشترك بين جميع تلك الثورات هو انعدام الحريات العامة الحقيقية في البلدان التي تفجرت فيها الثورات، وصحيح أن المعطى الخاص بالحريات يتراوح بشكل نسبي فنجد أن النظام الليبي السابق على سبيل المثال كان لا يقر ولا يعترف في مؤسساته بأي شكل من أشكال التعددية السياسية والحزبية وتنعدم فيه الحريات بشكل كامل ولا يوجد إطار سياسي يسمح له بالممارسة إلا حركة اللجان الثورية، وينطبق ذات الأمر بشكل أقل حدة في سوريا بفارق بسيط بوجود مجموعات حزبية ديكورية تتقاسم الوجود السياسي مع حزب البعث الحاكم والمهيمن على الأمور بشكل مطلق وبالتالي فإنها لا تعد بمثابة معارضة للنظام بقدر ما هي شريكة للنظام القائم. المشهد العام التونسي والمصري واليمني قد يختلف عن الأوضاع في كل من ليبيا وسوريا فصحيح أن الحزب الحاكم في الدول الثلاث المذكورة آنفاً يهيمن ويسيطر على الحياة السياسية في تلك البلاد ولكنه يسمح بوجود رمزي للمجموعات السياسية المعارضة بجانب وجود مساحات سياسية وإعلامية تتيح توجيه انتقادات للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية –تختلف درجاتها بين الدول الثلاث- مع وجود اتفاق بين الثلاثة في جعل الرئيس (خط أحمر) لا يجوز المساس به أو الطعن فيه. تغول الأسرة الحاكمة رغم أن الدول الخمس التي انتظمت شعوبها في الربيع العربي هي بمثابة جمهوريات دستورية فإن السمة البارزة فيها تغول أسرة حكامها وهيمنتهم على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في البلاد، بل أن بعضها شرع فعلياً في ترتيب أوراقه الداخلية تمهيداً لنقل السلطات للأبناء استهداءً بالتجربة السورية بتنصيب الرئيس الحالي بشار الأسد بما في ذلك إعادة حياكة وتفصيل النصوص الدستورية لتتلاءم مع القادم الجديد، وهو ما فتح الباب أمام تدشين حقبة تحول الحكم الجمهوري الرئاسي الثوري لجمهوريات ملكية ب(التوريث). وباء الفساد ترتب على تغول أسرة الحكام في الدول التي انتظمت في الربيع العربي إصابة دولها بداء الفساد الاقتصادي بأشكال مختلفة، فليبيا التي تصنف من ضمن أغنى الدول جراء عائداتها النفطية العالية أهدرت وبددت ثرواتها في مغامرات قيادتها السياسية إقليمياً ودولياً فتدعم الحركات المسلحة المعارضة للحكومة السودانية في الجنوب ودارفور وتغدق في دعمها حتى على حركة (ايتا) الأسبانية المطالبة باستقلال إقليم (الباسك الأسباني) ومنظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي المنادي سابقاً باستقلال أيرلندا عن المملكة المتحدة، وبجانب ذلك فإن المحاسيب من أبناء أسرة القائد الحاكم والمتنفذين في الحكم استأثروا بالامتيازات الاقتصادية التي مكنتهم من جني ثروات ضخمة. بخلاف النموذج الليبي الذي يتمتع بموارد غنية جراء مبيعاته النفطية، فإن النماذج الأخرى دشنت لحالة واسعة من الفساد والاحتكار لطبقة الأسرة الحاكمة وبطانتها من المقربين لها الذين أثروا ثراءً فاحشاً وكدسوا ثروات مهولة نتج عنها إنتاج فئة رأسمالية مازجت بين المال والنفوذ السياسي، ومضى بعضهم لمراحل متقدمة إذ شرعوا في تصفية الممتلكات العامة للدولة بغرض الحصول على العمولات وطال هذا الإجراء الأراضي والمنشآت العامة للدولة الرابحة والخاسرة. نجد أن الفساد والفقر صنوان متلازمان فما ظهر الأول إلا وكان الثاني ناتجه وترتب على ذلك تزايد التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بين أفراد الشعب واستئثار فئة محدودة بالثروات في وقت يشتكي فيه السواد الأعظم من الفقر والبطالة. قنوط ورجاء حينما هبت رياح الربيع العربي على المنطقة العربية وتأثر بها عدد من الدول فإن تلك الأنظمة راهنت بعد يأسها وتيقنها وقنوطها من إمكانية وجود سند شعبي لها على التوازنات الإقليمية والدولية وحالة الخوف المستقبلي من قبل المجتمع الدولي من إمكانية أن يفضي سقوط أنظمتها لنشوب حالة من الفوضى في المنطقة. بدا في أحيان عديدة أن التوازنات الإقليمية والدولية ستعرقل مسار الثورات الشعبية العربية سيما أن القوى الغربية الرئيسية ستكون في المحك في مواجهة خيارات صعبة ما بين شعاراتها ودعواتها الخاصة ب(الديمقراطية) من جهة ومصالحها الحيوية التي تخدمها تلك الأنظمة والتي بدت في أحيان عديدة متعارضة ومتصادمة مع التوجهات الشعبية. تطورات الأحداث على الأرض أظهرت مقدرة تلك القوى الإقليمية والدولية على الممازجة بين دعمها لتطلعات الشعوب واستمرار مصالحها وكان ضحايا ذلك التحول هم الحكام –كتخلي واشنطون عن دعمها للرئيس المصري السابق حسني مبارك رغماً عن مساندته في الأيام الأولى للثورة المصرية أو موقف الدول الخليجية من حليفها الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بتقديمها لمبادرة تفضي لتنحيه عن الحكم-وشرعت تلك الأطراف في ترتيب أوراقها بفتح قنوات اتصالها مع الحكام الجدد تمهيداً لحقبة جديدة مثلما فعلت الصين وروسيا اللتان ساندتا نظام القذافي في مواجهة معارضيه وتسعيان حالياً بعد زوال حكمه وانتصار الثوار للبحث عن تأمين لمصالحهما الاقتصادية، ولعل ذات القاعدة تنطبق على إيران التي بدأت تتراجع عن مواقفها الداعمة بشكل مطلق للنظام السوري الذي يعد حليفها الرئيسي والأساسي في المنطقة. توظيف الخوف بشكل متطابق فإن الأنظمة الثلاثة التي انهارت في تونس والقاهرة وطرابلس والنظامين المرتنحين في صنعاء ودمشق تسعى وبشكل مكرر من التخويف بأن بديلها في حال زوال حكمها هي التنظيمات ذات الخلفيات الإسلامية ومضى بعضها للحديث علناً عن إمكانية وصول تنظيم القاعدة لسدة الحكم في بلادها، ولعلها راهنت على حالة الخوف والرعب التي تنتاب الأوساط الغربية عموماً والأمريكية على وجه الخصوص من إمكانية تواجد (القاعدة) على سدة الحكم في أي من تلك البلدان. تطابق النهايات الشعوب العربية التي انتظمت في حراك ثورات الربيع العربي اختلفت مسببات ثورتها مع وجود سمة أساسية لها تتمثل في أن جميعها بدأت بسقوفات متدنية في بدايتها عبر إثارتها لقضايا مطلبية أو دعوتها لإصلاحات هيكلية في بنية الأنظمة القائمة، إلا أن العنف الذي جوبهت به من قبل السلطات أفضى لنتيجة عكسية فبدلاً من قمعها أدى لرفع سقف مطالبها وانتقالها لمحطة الدعوة لإسقاط النظام. بذات القدر فإن مسار الثورات وتطورها اختلف من بلد لآخر فعلى سبيل المثال فإن انحياز الجيشين التونسي والمصري أسهم في تقليل حجم الضحايا وسط صفوف الثوار في تونس ومصر ومثل كرت ضغط على القيادة السياسية ودفع برأسي النظام لتقديم استقالتهما في خاتمة المطاف، فيما أدى وجود مليشيات حزبية مسلحة وعنيفة في ازدياد أعداد الضحايا في كل من سوريا وليبيا ونتج عن هذا العنف تولد حالة من العنف المضاد في ليبيا أدت لتحول الثورة الشعبية المدنية لثورة مسلحة مدعومة من أطراف إقليمية ودولية خاض فيها الثوار معارك عسكرية ضد القوات الموالية للنظام الليبي. اللعب بالنار في خضم الأزمات التي جابهت عدداً من الأنظمة العربية التي هبت عليها رياح الربيع العربي لجأ بعضها لمحاولة خلق حالة من الاستقطاب الداخلي العنيف بين المؤيدين والمعارضين-ولعل هذا ما حدث بشكل واضح في كل من اليمن وسوريا بشكل أكبر من بقية النماذج- والهدف من هذا الأمر هو محاولة تأكيد تحليها بدعم وسند شعبي ولعل خطورة هذه الأمر يتمثل في خلقها لانقسامات عميقة وعنيفة وسط مجتمعات تلك الدول ربما يكون لديها تداعياتها وتأثيراتها على المكونات الاجتماعية وشكل العلاقة المستقبلية فيما بينها. عودة الإسلاميين يعتبر الإسلاميون هم أبرز المستفيدين من ثورات الربيع العربي وهذا ما أظهرته نتائج الانتخابات الأخيرة التي نظمت في كل من تونس ومصر مؤخراً، لكن على المدى البعيد فإن التزامات ومسؤوليات الحكم التي ستلقى على عاتقهم ستجعلهم أمام تحديات حقيقة، وبدا واضحاً أن حركة النهضة الإسلامية في تونس تمضي صوب إقرار نموذج حزب العدالة التركي بقيادة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وتجنب أي احتقانات سياسية داخلية مع الأطراف السياسية الرئيسية ولعل حالة الانفتاح تلك ترتبط بشكل وثيق من انفتاح حركة النهضة وقيادتها واحتكاكها بالأوساط الغربية إبان سنوات المنفى والمعارضة للنظام السابق. بالنسبة للإسلاميين المصريين فإنهم يبدون في وضع أكثر دقة وصعوبة من نظرائهم التونسيين فالتقديرات السياسية جعلتهم أبرز المنادين بمهادنة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي للوصول لمحطة وعتبة الانتخابات التي حظي حزب الحرية والعدالة –التابع للإخوان المسلمين- على المرتبة الأولي فيها فيما حل حزب النور ذو التوجهات السلفية على المركز الثاني.. لكنهم بدأوا مؤخراً يظهرون تبرماً من وضعية المجلس العسكري، وبجانب ذلك فإن النظام المصري يبدو حتى اللحظة ورغم مرور ما يقارب العام على سقوطه محتفظاً بجزء كبير من مكوناته التي لا تزال حاضرة على المسرح السياسي. سيكون التحدي العصيب أمام المجموعات الإسلامية في البلدان التي هبت عليها رياح الثورات العربية هو مقدرتها على تطبيق برامج إصلاحية تسهم في معالجة الاختلالات الاقتصادية وإدارتها لملف العلاقات الدولية والخارجية بشكل يحافظ على مصالح شعوبها من جهة ويحيد محيطها الإقليمي والدولي ويجعلها تلتزم سياسة عدم التدخل لإسقاط حكمها. مر العام الأول من الربيع العربي والذي شهد ثورات عديدة للشعوب نجح بعضها في دك عروش رؤساء خططوا ليكونوا ملوكاً فيما لا تزال كراسي بعضهم تترنح وآيلة للسقوط وتنتظر فقط اكتمال معطيات وظروف (السقوط).