لم يترك لي الناعون سهلا تسير فيه مرثيتي مرتاحة. من تلك السهول التي برقت فيها نادية فكرة، وسارت معنى، وركضت غزالة. كان الأنموذج الأسطع لإنسانية المهنة، فهى من القلائل والقليلات الذين واللائي أنسنوا مهنة الإعلام بإضافة وجدان إنساني على التقرير، الحوار، التحليل والخبر. تعود معرفتنا للقاهرة في تسعينات القرن الماضي، كانت القاهرة وقتئذ مركزا يتجمع فيه السودانيون بأهلين. أمل العودة للسودان "بطيارة فتحي". وأهل القبول للهجرة. لم تكن نادية ضمن الفئتين لأنها كانت تعيش هناك حاملة اسئلة لم تجد لها إجابة حتى لحظة رحيلها الموجع والداوي. ولأنني "قطعت العشم في طيارة فتحي" توجهت نحو الخيار الثاني فوفقني الله لهجرة موحشة مازلت أعالج جراحها وآثارها وما فاضت به علي من المواجع وقلة الحيلة! في العام 2000عدت للقاهرة مشاركا في البرنامج الشعري المصاحب لمعرض القاهرة الدولي للكتاب وكان صديقي الشاعر المصري محمد أبودومة قد خصص لي ليلة شعرية خاصة أمها جمع من السودانين، كانت نادية همزة وصل تلك الليلة، الداعية لها والحفية بها، وبعد نهاية الليلة، أهدتني أبيات شعر كتبتها أثناء قراءتي!. مثلما النساء الأنيقات يتقنّ اختيارهن للزينة والأسورة والأقمشة، برعت نادية في اختيار سؤالها، وبرعت أيضا في اختيار صديقاتها وأصدقائها. لم أقابلها في القاهرة إلا مرفوقة بالزين أحمد محمد ذلك الجبل الانساني المبرأ من كل زلة، رحل هو أيضا قبلها ليجهز لها فضاءً تسكنه! ما كنت حياً كي أصدق أننى حي ولا أهداب للموت لأحلم أو فضاء لكي أطير لكن صوتا من وراء السور راح يشرّع الأبواب بين الضفتين حيث تنشقت عيناي من خلل الدخان شميم أيديهم كانت نادية صيغة إعلامية جميعة، لاتميز الاعلام على أساس الجنس، كانت في الصحيفة والشاشة والأثير والأسافير، وظلت تسير بأسئلتها على الأرض، كل ذلك على قاعدة المحبة والنص والتساؤل. لم تكن علاقتنا في السودان يسيرة مثلما كانت في مصر، وتفسيري لذلك أن مصر كانت حصارا محدودا لكن السودان حصار فسيح. كانت أسئلتها في القاهرة محدودة، واتسعت هنا لتناسب "الحصار الفسيح"!. صار لا وقت لاسترجاع الماضي في هذا السهل الممتد الذي تمتد معه مئات الأسئلة فتوزعت بين الصفحات والشاشات والإذاعات والفيس والمواقع ناطقا رسميا باسم نادية مختار!. كنت أقرأها كل يوم، وأشاهدها كل يوم، كأنما هى مثنى نفسها، تتواجد في مرة واحدة على كل المنابر كأنها تشطر روحها وتوزع نفسها لأكثر من نصف!. تسنمت منذ ولادتها الصحفية مملكة من حرائق الروح، وصوبتها نحونا مثل الاستغاثة فتلألا ينبوعها كاليمامة في الشمس!!!.