للأشياء الصغيرة تأثيرات عظيمة. وقد تعرض الأشياء الصغيرة على الواحد منا فلا يأبه لها ولا يقيم لها وزناً فتعبر الخاطر دون أن نتوقف عندها، واذا فعلنا لربما غيرنا وجه الدنيا. ففي القرن السابع الميلادي وقعت تفاحة من على شجرة أمام ناظري نيوتن فحول الواقعة إلى مناسبة لاكتشاف نواميس الجاذبية الكونية. وفي ستينيات القرن الماضي تأمل جيمس واتسون في ظاهرة ترافق البكتيريا في أزواج (ذكر وانثي)، فخلص إلى أن نظام الوراثة لدى الباكتيريا مثله مثل نظام وراثة لدى الكائنات الأكثر منها تعقيداً وتركيباً بنيوياً لأنها هي أيضا تأتي في أزواج (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)) سورةالمرسلات، وخلص من هذه الملاحظة الصغيرة إلى أن التركيبة البنيوية لجزئ المادة المورثة (الدنا DNA) لابد أن تكون تركيباً مزدوجاَ فسبق إلى اكتشاف الحلزون المزدوج الذي أودعه الله سر الحياة، فحاز بفضل هذه الملاحظة الصغيرة على جائزة نوبل (بالاشتراك مع زميلين آخرين)، ومكن باكتشافه هذا من إحداث ثورة في علوم البيولوجيا قيل إنها أعظم شأناً من نزول الإنسان على سطح القمر. ونظرية دارون في النشوء والتطور وأصل الأنواع التي شغلت العالم والعالمين انطلقت من أصل ملاحظة صغيرة عابرة مفادها أن أهالي مجموعة جزر قالاباكوس يمكنهم تحديد الجزيرة التي ينتمي إليها أي من السلاحف العملاقة التي تعيش في تلك الجزر بمجرد النظر إلى حجم القدح المنكفيء على ظهر أي منها. ونظرية الفوضى Chaos Theory التي يعتقد بأنها أحد أعظم ثلاث نظريات عرفها القرن العشرون عرضت فكرتها على عالم الإرصاد الجوي إدوارد لورنز كملاحظة صغيرة أثناء معالجته لإشكالية تتعلق بالتنبؤ بالأحوال الجوية حينما اكتشف أن الانحرافات المتناهية في الصغر عند البدايات تؤدي إلى حدوث تغيير عظيم على المدى البعيد, وانحراف مهول عند النهايات. وخرج لورينز من تلك الملاجظة الصغيرة بنظرية الفوضى التي تفترض أن الخفقات الدقيقة لجناحي فراشة في هونكونج يمكن أن تؤثر تأثيرا عظيماً على مسار إعصار في تكساس أو إثارة عاصفة ترابية هوجاء في الخرطوم أو إلى الحيلولة دون حدوث أي منهما. والأشياء الصغيرة جميلة كما يقول عنوان كتاب الفيلسوف والاقتصادي الألماني فريتز شوماخار "small is beautiful" الذي اصدره في اعقاب الثورة الزراعية الخضراء في ستينيات القرن الماضي، بعد أن تردد أن هذه الثورة قد حققت نجاحات ضخمة ومفاجئة في انتاجية الحبوب الغذائية. وقد لقي الكتاب رواجاً منقطع النظير وتمت ترجمته الى عشرين لغة عالمية، وعدَّ من ضمن المائة كتاب الأكثر تأثيرا في حياة الناس لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعزا شوماخار تحقيق نتائج مفاجئة وضخمة وسريعة في انتاج الحبوب الغذائية إلى التغير الحادث في سلوك الإنسان تجاه الطبيعة، وإلى نظرة الإنسان الخاطئة إلى ذاته بأنه ليس جزءاً من الطبيعة أو عنصراً من عناصرها بل كقوة خارجة عليها، تسخرها وتسيطر عليها. ومنتقداً الثورة الزراعية الخضراء برغم مكن اسهامها في توفير الغذاء لمئات الملايين من الناس نسبة لاعتمادها بصفة أساسية على نظم فلاحة أحادية المحصول، وعلى عينات من التقاوى عالية المتطلبات الفلاحية (ريّ مكثف وأسمدة ومبيدات بتروكيمائية، وآليات زراعية ثقيلة، الخ) تفوق طاقة الفقراء، علاوة على ما صاحبها من أضرار بيئية وصحية للإنسان والحيوان نتيجة للإستخدام المكثف للكيماويات. وقد خلص في كتابه "الأشياء الصغيرة جميلة" إلى أن الازدياد في إنتاج الغذاء لا يقود بالضرورة إلى إزدياد مماثل في الأمن الغذائي. وأن الجوع لا يسببه نقص الغذاء ولا يمكن إزالته بإنتاج المزيد من الغذاء، بل أنه في أحيان كثيرة تتواكب الزيادة في إنتاج الغذاء مع ازدياد وتيرة الجوع والدليل على ذلك أنه رغم مضي أكثر من نصف قرن على الثورة الخضراء الأولى لا زال هناك قرابة المليار جائع في العالم. كما أوضحت تجارب الثورة الخضراء الأولى حتمية الامتثال لضرورات مبدأ التنمية المؤزرة المدركة لاحتياجات الإنسان من دون تحطيم للبيئة الطبيعية، وضرورة الاستثمار القائم على الاستغلال المتوازن للموارد لا الاستخدام الأحادي الذي يركز على التوسع في زراعة المحاصيل الحقلية دون غيرها كما فعلت دول كثيرة من بينها أمريكا التي عانت من تلك الآثار ومن جراء الجشع والاستعمال الخاطئ للتكنولوجيا حينما توسعت الزراعة الآلية في إنتاج الحبوب الحقلية في الغرب الأوسط الامريكي –الذي تشابه ظروفه ظروف السودان- فاقتلعت الرياح وحدها ما قدر بمئات ملايين الاطنان من التربة الصالحة للزراعة، فأدى ذلك الاستغلال الخاطئ إلى هدم مقومات التربة وترتب عنه أكبر انحطاط في تاريخ الاقتصاد الأمريكي. قارن شوماخار في كتابه أيضاً بين الحضارات وأبان أن الحضارة التي تقوم على الموارد المتجددة (كالغابات والزراعة) هي أرفع وأسمى من تلك التي تقوم على الموارد غير المتجددة (كالبترول والمعادن)؛ نسبة لأن بمقدور الأولى الاستمرار والاستدامة بينما تعجز الثانية عن تحقيق ذلك فتنضب وتزول وتتلاشى. الأولى صديقة للطبيعة ومتناغمة مع البيئة بينما الثانية معادية للطبيعة ناهبة لها ومدمرة للبيئة. الأولى تحمل شارات الحياة بينما تحمل الأخيرة شارات الموت. ومضى شوكاخار ليحلل أسباب الفقر الطاحن الذي يجثم على المجتمعات النامية ليعزوه إلى التأثير السلبي والتشويش الذي أحدثته الثقافة الصناعية الغربية على الثقافات التقليدية ذاتية الاكتفاء. ومن ثم دلف لتحليل مسببات علل وأسقام المجتمعات الغربية الحديثة ويعزوها إلى اعتمادها على الضخامة bigness. وانطلق من تحليلاته تلك ليقترح نظاماً بديلاً يقوم على الجمع بين المعارف التقليدية والعلوم الحديثة لاستحداث تقنيات وسيطة تعتمد على هياكل عمل تنظيمية تتسم بصغر الحجم، عمادها الثروات الطبيعية والأيدي العاملة المحلية. فاحرص عزيزي القارئ على الالتفات للأشياء الصغيرة، فهي ذات تأثيرات عظيمة.