سُئِلَ الدكتور الترابي في أحد الحوارات الصحفية: "السودان إلى أين؟".. أجاب ضاحكاً: "لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء" (صحيفة السوداني 10/ 10/ 2013م).. وأكاد أجزم أن الدكتور الترابي أراد أن يشير بإجابته تلك إلى أن النكبات السياسية التي اعترضته في سنواته الأخيرة كانت من الأقدار التي لا يمكن لأحد أن يتنبأ بها.. فالترابي سياسيٌّ ذكي وقد خطط جيداً لمستقبله السياسي وتقلد منصب رئيس البرلمان وكاد أن يصل إلى قمة السلطة في البلاد؛ ولكن فجأة انهارت كل أحلامه وجُرِّدَ من كُلِّ سلطاته.. فلو كان الترابي يعلم أن كل ذلك سيحدث له بين ليلة وضحاها ما كان سيفوت عليه أن يُغَيِّرَ من خططه واستراتيجياته لِيَتَمَكَّنَ من تحقيق طموحاته السياسية.. ولكنه لا يعلم الغيب!.. بل لا يوجد فينا - نحن البشر- من يعلم الغيب.. فلو كان أحدنا يعلم أن زواجه سينتهي بالطلاق في المحكمة لما تزوج منذ البداية.. ولو عَلِمَ المسافر أن طائرته ستنفجر في الجَوِّ بعد إقلاعها لما ركب فيها وعَرَّضَ حياته لذلك الموت الرهيب.. إذ لا يمكن لعاقل أن يسعى بقدميه إلى ميتة تتفحم فيها جثته في الهواء أو تنفجر وتتطاير أشلاء يستحيل التعرف عليها بعد ذلك.. بل لا يمكن لعاقل أن يسعى بقدميه إلى ركوب سيارته لو عَلِمَ أن قدميه ستنكسران في الحادث الأليم الذي سيقع له في ذلك اليوم. فماذا عسانا أن نفعل وقد وقع القضاء؟ العقلاء يُسَلِّمُونَ بالأقدار بِنَفْسٍ راضية وهُمْ يعلمون أن ما حدث كان خارج إرادتهم.. وليس من سبيل إلى تغييره: يقول الإمام الشافعي: "دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطِبْ نَفْسَاً إذا حكم القضاء".. وقد شاهدتُ أناساً كثيرين يتقبلون القضاء بنفوس طيبة.. لا يتذمرون.. ولا يجزعون.. ولا يلومون أنفسهم على ما وقع لهم.. فاللوم والتذمر لن يغيِّرا شيئاً.. بل سيفتحان باباً للوساوس والهواجس لا يمكن سَدُّهُ أبداً.. فَمَنْ يتذمر سَيُدْخِلُ نفسه في حلقة مفرغة من الافتراضات العبثية من شاكلة: "ماذا لو لم أسافر في ذلك اليوم؟ فهل كانت ساقي ستنكسر إذا مكثت بالبيت؟ ولِمَ يحدث ذلك معي وحدي من بين كل أولئك الناس؟" وهذه أسئلة شيطانية لا إجابة لها البتة.. فإذا ساورتك مثل هذه الأسئلة عليك طردها قبل أن تُفْقِدَكَ صوابك.. فأنت لا تدري ما كان سيحدث لك لو مكثت في بيتك.. فربما كانت خسارتك ستكون أكبر حينئذٍ.. إذن ارضَ بقدرك الذي قسمه لك الله سبحانه وتعالى.. ارض به حتى لو وقع معك وحدك من بين كل الناس.. فهل تعتقد أنك مميز عن الآخرين ليصيب ذلك القدر غيرك ويتركك أنت؟ أم أنه لديك تأمين ضد المصائب والأقدار؟ فالرضا بالقدر يريح أنفسنا وأعصابنا ويزيح عن كاهلنا حِمْلَاً ثقيلاً.. ويخفف علينا هول مصيبتنا ويساعدنا في تجاوزها بسلام.. أما التذمر فسيتلف أعصابنا ويعمينا عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسيجعلنا نعيش بقية حياتنا في نقمة وشعور بالأسى.. أعرف أناساً كثيرين فقدوا ثرواتهم ولم يصبروا على ذلك وكان مصيرهم أن أصيبوا بالجنون أو أن يقضوا بقية حياتهم في التحسر على ما فقدوه.. وأعرف آخرين فقدوا ثرواتهم وتقبَّلوا ذلك بِنَفْسٍ طيبة ثم ثابروا واجتهدوا واستطاعوا أن يكسبوا أكثر مما فقدوه.. فالمصيبة في حَدِّ ذاتها لا تحطم الإنسان بل ما يحطم الإنسان هو استجابته لتلك المصيبة.. انظر حولك الآن وسترى الكثيرين ممن صاروا حطاماً نتيجة لمصائب أصابتهم قبل عشرات السنوات.. انظر وسترى عشرات المُطَلَّقَات اللائي يعتبرن أن ذلك الطلاق هو نهاية الحياة.. وسترى عشرات المفصولين من العمل ممن لم يعودوا قادرين على الخروج من بيوتهم ليختلطوا بالناس.. وسترى عشرات الشباب ممن صاروا مدمنين بعد أن فُصِلُوا من جامعاتهم أو فشلوا في تجارتهم. وانظر حولك أيضاً وسترى من واجهوا المصائب والصعاب بالصبر والإيمان واستطاعوا أن يتجاوزوها بسلام.. فهنالك من فقد ابنه الوحيد وفلذة كبده وتجاوز تلك المصيبة بالصبر الجميل.. وهنالك من أصابه مرض خطير في ريعان شبابه وتقبل ذلك بنفسٍ طيبة ولم يزده ذلك إلا إيماناً.. معتصم شقيقي الذي يكبرني بعامٍ واحد أصابه الفشل الكلوي قبل عدة سنوات مما جعله يلازم ماكينة غسيل الكلى لأشهر ثم أجرى عملية زراعة كلية تبرع بها له أخي عبد اللطيف.. فأين معتصم الآن؟ معتصم الآن سعيد مسرور يعمل في محله التجاري ويقضي يومه بين الزبائن ومطالعة الكتب التثقيفية وقد صار مرجعنا في فوائد الرياضة والأعشاب والطعام الصحي وشرب الماء.. ولم يعد يذكر أنه يعيش بكلية مزروعة.. بل لم يعد لديه وقت للشكوى والتذمر. وبشير محمد عبد الباقي صديقي وزميل دراستي سابقاً في كلية الآداب جامعة الخرطوم.. قبل عشر سنوات تقريباً أُصِيبَ بكَسْرٍ في فخذه أثناء نزوله من إحدى الحافلات.. وبعد التشخيص أخبره الأطباء أنه مصاب بسرطان في العظام.. وأنه ليس أمامه علاج سوى بتر رجله.. وبُتِرَتْ رجله بالفعل في مستشفى الجامعة.. كنا وقتئذٍ طلاباً في السنة الثانية وكانت تلك من أكبر المصائب التي واجهناها في الجامعة.. ولكنني أذكر جيداً أن بشيراً كان هادئاً مطمئناً.. لازمناه في المستشفى بعد العملية.. كان يضحك معنا ويمرح.. وكنا نتناول معه وجباته الشهية التي يقدمها له المستشفى.. فأين بشير الآن؟ سافر بشير إلى الأردن ورجع إلينا بِرِجْلٍ صناعية جميلة.. رجع بشوشاً أنيقاً كما كان.. وتابع جلسات علاجه الكيميائي في صبر وثبات.. وما لَبِثَ أن التحق بكلية الفنون جامعة السودان وتخصص في التصميم والخط العربي.. كان يَدْرُسُ صباحاً ويعمل في التصميم بالحاسوب مساءً.. وما إن أكمل دراسته حتى وَجَدَ فرصة للعمل في شركة زين للاتصالات.. قبل شهرين تقريباً اتصل بي ليدعوني إلى زواجه.. وجدته في أحسن حالٍ وكأنه لم يتعرض لتلك المصيبة الأليمة.. هذه هي قصة صديقي بشير كما عايشتها تماماً.. ومثلما استطاع بشير أن يتجاوز تلك المصيبة ويواصل حياته ليحقق أحلامه، فإن كل واحدٍ منا يستطيع أن يواجه ما يحدث له مهما كان.. فإذا وقعت الأقدار فإن أفضل ما يمكننا أن نفعله هو الرضا ومواصلة الحياة.. ولنتذكر دائماً قصيدة الإمام الشافعي: "دَعِ الأيَّامَ تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ.. وطِبْ نَفْسَاً إِذَا حَكَمَ القَضَاءُ/ ولا تَجْزَعْ لِحَادِثَةِ الليالي.. فما لِحَوَادِثِ الدُّنْيَا بَقَاءُ/ وكُنْ رَجُلَاً عَلَى الأهْوَالِ جَلْدَاً.. وشِيمَتُكَ السَّمَاحَةُ والوَفَاءُ/ وإنْ كَثُرَتْ عُيُوبُكَ في البَرَايَا.. وسَرَّكَ أنْ يَكُونَ لَهَا غِطَاءُ/ تَسَتَّرْ بالسَّخَاءِ فكلُّ عَيْبٍ.. يُغَطِّيِهِ -كَمَا قِيْلَ- السَّخَاءُ/ ولا تُرِ للأعَادِي قَطُّ ذُلاً.. فإنَّ شَمَاتَة الأعْدَا بَلَاءُ/ ولا تَرْجُ السَّمَاحةَ مِنْ بَخِيْلٍ.. فَمَا في النَّارِ للظمآنِ ماءُ/ ورِزْقُكَ ليس يُنْقِصُهُ التأني.. ولَيْسَ يزِيْدُ في الرِّزْقِ العَنَاءُ/ ولا حُزْنٌ يَدُوْمُ ولا سُرُورٌ.. ولا بُؤْسٌ عَلَيْكَ ولا رَخَاءُ/ إِذَا مَا كُنْتَ ذا قَلْبٍ قَنُوعٍ.. فأنتَ ومَالِكُ الدُّنْيَا سَوَاءُ/ ومَنْ نَزَلَتْ بِسَاحتِهِ المَنَايا.. فلا أرْضٌ تَقِيهِ ولا سَمَاءُ/ وأرْضُ اللهِ واسِعَةٌ ولَكِنْ.. إذا نَزَلَ القَضَا ضَاقَ الفَضَاءُ/ دَعِ الأيَّامَ تَغْدِرُ كلَّ حِيْنٍ.. ولا يُغْنِي عَنِ المَوْتِ الدَّوَاءُ". فيصل محمد فضل المولى هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته