:: وفاة بهنس لم تعكس ملامح الجالية السودانية بمصر فقط، بل عكست ملامح مجتمع الثقافة بالسودان أيضاً.. محمد حسين بهنس، فنان تشكيلي، من أبناء أم درمان.. كان ناجحاً وطموحاً لحد التحليق بأعماله الفنية من فضاء معارض وطنه إلى فضاءات معارض الغرب والعرب.. غادر إلى مصر قبل عام ونصف ليعرض لوحاته هناك، وبعد إنتهاء فترة العرض قرر الإقامة بالقاهرة، ثم عاش متشرداً في شوارع القاهرة وتحت بناياتها التي تضج بالمثقفين والإعلاميين السودانيين.. يرتاد المقاهي نهاراً وينام على الأرصفة ليلاً، حتى وجدته شرطة الدقي - بتاريخ 12 ديسمبر - متجمداً من البرد والجوع على كنبة أمام مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، فنقلوه إلى المشرحة (مجهول الهوية)..!! :: رعاية المبدع والإبداع في بلاد الآخرين تكاد أن تكون علماً بحكم حاجة المجتمع إلى (المبدع والإبداع)، ولكن تلك الرعاية في بلادنا كانت –ولا تزال، وستظل- محض هتاف تهتف به حناجر الناس و أهل الساسة والثقافة في المنابر، ولذلك يعيش المبدع في مجتمعنا ميتاً إلا أن (يموت أخيراً)، أو هكذا كتبت يوم وفاة المبدع المحبوب محمود عبدالعزيز.. ورحلة حياة فقيد الإبداع محمد بهنس لاتختلف كثيراً عن رحلة معاناة فقيد الإبداع محمود عبدالعزيز، كلاهما كان يموت في اليوم ألف مرة من وطأة المعاناة قبل أن (يموت أخيراً)..!! :: للفنان بهنس أسرة وأهل وأصدقاء وزملاء إبداع بالداخل والخارج، ثم له وطن به جيش من وزراء وموظفي وزارة ومؤسسات مسؤولة عن رعاية الثقافة وتفقد أحوال المثقفين.. ومع ذلك، لم يتفقده أحد من ذوي القربى أو جيش المؤسسات الثقافية طوال أشهر (الجوع) و (الحرمان) و(التشرد).. وكذلك، لم يفقده أحد عندما غاب عنهم أسابيع كان خلالها يرقد في المشرحة مجهولا و (متجمداً).. وللأسف، هؤلاء هم الذين يبكون ويتباكون الفقيد بهنس اليوم، وكأنهم فقدوا (عزيزاً).. يبكون ويتباكون، وكأنهم لم يكونوا على علم بكل تفاصيل معاناة بهنس بالقاهرة.. علماً، فيهم من كان يحدق في بؤس حاله ثم يغادره (متحسراً أو لاعناً الحكومة والزمن)، ويفعل ذلك كأنه يقدم لهذا المبدع المتشرد ما هو (بحاجة إليه)..!! :: رعاية المبدع مسؤولية مشتركة تبدأ بالأسرة والأهل والأصدقاء ثم مجتمع الثقافة ومؤسسات الدولة.. ولكن للأسف، كل تلك الجهات المسؤولة (غير مسؤولة)، ولذلك يعيش المبدع غريباً ثم يموت - بالإهمال - مجهولاً أو معلوما، لتعاتب تلك الجهات المسؤولة بعضها وتشتم، أو هكذا سيناريو رحيل المبدعين.. والمؤسف، لن تثمر وفاة بهنس درساً ينشط دور الأسرة والأهل والأصدقاء بحيث يحسنوا (سلامة الرعاية)، وكذلك لن تثمر رحلة معاناة بهنس درساً يُنشط دور المجتمع بحيث يصنعوا منظمات وصناديق وجمعيات (حق الرعاية)..!! :: أما الحلم بأن تثمر رحلة معاناة المبدعين دروساً تُنشط دور مؤسسات الدولة الثقافية بحيث توفر لهم فقط (مناخ الإبداع)، فهذا حُلم بعيد المنال.. ولذلك، آي لأن كل الأطراف المسؤولة لا تتقن من الأعمال غير عتاب بعضها ثم التباكي، لن تكون مأساة الفنان بهنس آخر مآسي المبدعين في بلادنا.. فالقائمة التي يعكسها واقع حال رفاق بهنس بالخرطوم - وليس بالمنافي فحسب - تضج بمن يموتون كل يوم وهم أحياء.. أشباح بين الناس، و غرباء في وطنهم، ومشردون في مجتمعهم، فقط ينتظرون يومهم الذي يموتون فيه ( أخيراً)، ل... (نتباكى)..!!