أوشك المثل المصري "إش لمّ الشامي عالمغربي" أن يغدو فاقداً الصلاحية، وقد كان المثل في ذروة ازدهاره بليغاً من أكثر من وجه، ولعل أظهر ما في بلاغة المثل إشارتُه المتوارية إلى أن كل لقاء بين مشرق العرب ومغربهم لا يتم بوساطة مصرية يُعدّ أمراً غريباً. وإذا كان في التاريخ غير البعيد للعالم العربي وجغرافياه ما يبرِّر منشأ المثل بدون مجهود في التنقيب فإن سيرة الحياة على أيامنا هذه لم تعد تجعل من لقاء الشامي والمغربي فحسب أمراً اعتيادياً، بل إن طاولة في مطعم ارتدته البارحة بمدينة خليجية ضمت هندياً وباكستانياً ونيبالياً لم تفلح في إثارة دهشتي لأكثر من برهة قبل أن أدرك أنني في زمن العولمة، وعليه فإن تكتُّل الجاليات الطبيعي في الخليج بات من السهل تفكيكه لدواعي العمل في شركة متعددة الجنسيات على سبيل المثال. الأمر ذاته تكرر البارحة أيضاً في ردهة أحد المولات بالمدينة نفسها ليلاً، فمنظر إفريقي وأوربيَّين وثلاثة عرب وآسيوي على طاولة ليست بعيدة منا أثار داخلي المشاعر ذاتها: الدهشة لبرهة ثم الانصراف انشغالاً بتجليات العولمة الأخرى التي يعج بها المول عولمي الفكرة بامتياز. رجوعاً إلى الشامي والمغربي تحديداً فإن لقاء الاثنين في بلد أيٍّ منهما على سبيل الاستضافة النادرة لدواعي العمل أوالزيارة لم تكن مسألة مستبعدة ولكنها كانت بمثابة الشذوذ الذي يؤكد القاعدة القاضية بغرابة اللقاء في الأصل أيّاً كان مكانه وزمانه. الآن بات التلفزيون في تقديري أظهر تجليات اللقاء الشامي المغربي اعتياديّةً، فالفضاء الممتد جعل العالم سوقاً مفتوحة للجميع يدلي فيها كلٌّ بضاعتَه ويكون نصيبها من الرواج حسب اجتهاده وحظه، والعالم العربي ليس بدعاً في هذا، بل إن اللغة والتقاليد المشتركة تجعل سوق الفضاء العربية أكثر قابلية للإغراق بالبضاعة من قبل التجار وأشدّ إغراءً بالإقبال من قبل الجماهير على المعروض من البضاعة، وغني عن القول سوى من باب التذكير أن الأفكار من أظهر المقصود بالبضاعة المعروضة على أسواق الفضاء حتى إذا تشعَّبت مفاهيم الأفكار وتشابكت فتمخضت عن البضائع بمدلولها المادي المراد صراحة من الكلمة. الأهم في سياقنا هذا هو ما يسفر عنه لقاء الشامي والمغربي ليس فحسب فيما يتعلق بنتائج منازلة فنية أو فكرية على موضة البرامج الفضائية وإنما فيما يخص المقارنة بين استجابات الطرفين طباعاً وسلوكاً تجاه المواقف التي يتضمّنها اللقاء. والحق أن المقارنة التي لا مفر منها في أي لقاء من ذلك القبيل ولو كان عابراً لا تسفر عن غير ما تسفر عنه المقارنة التي تخضع لتجربة معايشة مشتركة بين الطرفين إنْ في العمل أو غيره من مناحي الحياة. كلتا الشخصيتين الشامية والمغاربية (على عموم صيغة الجمع على الطرفين) انغمست في مظاهر الحياة المدنية منذ القدم بحيث يصح القول في كلتيهما أنها شخصية ذات حضارة عريقة، ولكن الفوارق التي تكتنف هذا التعميم لا يمكن المرور عليها كالكرام دون افتضاح في التقييم، فالشخصية المغاربية إجمالاً لا تزال على أواصر غير مُنكَرة ببداوة لا تتغلغل في كل شخصية مغاربية بالضرورة ولكن تتداخل على صورة تماس يومي بتفاصيل الحياة وإن في بعض بلاد المغرب العربي أكثر من غيرها من الجارات، فمظاهر البداوة في الجزائر وليبيا أظهر وأكبر لا ريب منها في تونس ولعلها كذلك مقارنة بالمغرب إلى حد ما. إزاء ذلك فإن مظاهر اختراق البادية للحياة الحضرية في الشام أقل تأثيراً باستثناء الأردن وغير قليل من نواحي فلسطين، وأحب أن أشير باستمرار إلى الفارق المهم بين البادية والقرية وأنماط الحياة وطباع الناس في كلتيهما، فالقرية ليست من المفترض أن تكون سوى نموذج مصغر للمدينة، لكنها في كثير من أنحاء العالم العربي أوشكت أن تكون بمثابة المرحلة الانتقالية - زماناً ومكاناً – بين البادية والمدينة. ولا تزال المباراة الثقافية بين الحضر والبادية من أظهر دواعي اضطراب تقييم مجتمعاتنا العربية، بل من أظهر دواعي اضطراب تلك المجتمعات في الأصل. ولكن أجلى أسباب اختلاف ردات الفعل بين الشخصيتين الشامية والمغاربية - إنْ في أية مواجهة بين الاثنتين أو على صعيد استجابات الحياة اليومية لأيّ منهما بصفة عامة – يعود في تقديري إلى الواقع التاريخي (أرجو أن يجوز التعبير) الذي جعل الشخصية المغاربية عرضة لتلاقحات عرقية وتجارب حضارية بعضها على النقيض من بعض، بينما جعل واقع تاريخي مختلف الشخصيةَ الشامية في مهب تلاقحات عرقية وتجارب حضارية لا أقول متجانسة وإنما أقل تناقضاً بكثير مما ظل عليه الحال مع رصيفتها المغاربية موضع المقارنة. أسفرت التجربة الحضارية المشار إليها لكلا الشخصيتين إذن عن تجليات كثيرة مغرية بالقراءة والتحليل، لكن أهم ما في الأمر أنها منحت الشخصية المغاربية قدراً أكبر من التواضع والانفتاح على الآخر بصفة عامة وعلى الآخر العربي على وجه الخصوص، في حين منحت الشخصية الشامية قدراً أكبر من الاعتزاز بتفوق عرقي أشد نقاءً إذا كان التعويل على اللون مجرّداً. ولكن يجب الانتباه إلى أن الشخصية الشامية تثق في أن لديها ما يتجاوز البشرة الأكثر بياضاً من معايير التفوق الداعي إلى الزهو، وأظهر أسباب التفوق الشامي - التي تجبُّ ما يصاحبها من أسباب بعضُها مستنكَر - هو السيادة المشرقية على سُدّة الثقافة والتاريخ العربيين، ولا ريب أن للشام يداً طولى في كثير من أسباب التفوق المشرقي على مدى التاريخ المذكور. غير أنه يجب باستمرار مقاومة إغراء النظر إلى الشخصية المغاربية على أنها قريبة في استجاباتها النفسية والعملية إلى شخصيتنا السودانية عندما يتعلّق الأمر بمواجهة مشرقية، فالشخصية المغاربية على انفتاحها وتواضعها لا تعدم من النديّة أو ما يتطلّبه الأمر من المكر لمقارعة الشخصية المشرقية (الشامية هنا) حجة بحجة ومكايدة بمكايدة، وليس مثلنا عاطفة مقابل الحجة وغضباً تجاه المكايدة. بيد أن الشخصية المغاربية عندما يعز على العرب أن يفهم لسانها فإنها تختبئ خلف لسان شامي لتبسيط عاميتها وليس وراء لسان مصري هو الأوسع تأثيراً وأسهل استيعاباً لدى العرب، ولكن هذا لا يجب أن يمنح الانطباع في المقابل بأن المغاربة أقرب مزاجاً إلى أهل الشام منهم إلى المصريين، فتلك مسألة لا أقول معقدة وإنما ليس من الحكمة معها الاستجابة إلى إغراء المقارنات والقولبة في الأحكام، فالواضح أن لكلتا الشخصيتين الشامية والمغاربية – فضلاً عن الشخصية المصرية - مزاجها وانفعالاتها الخاصة، ومن الخير أن أثبت تحوّطي في الوصف "مغاربية"، فالتفاصيل البينية للشخصيات القومية في المغرب العربي تحمل من التفاصيل ما قد يجعل استجابات بعضها في هذا الموقف وذاك أقرب إلى استجابة شخصية شامية منه إلى استجابة جارة لصيقة، وأظهر من ذلك على صعيد المفارقة أن الشخصية القومية في البلد ذاته أيّاً ما كان تحمل تفاصيلها من الخصائص ما يجعل بعض أبناء البلد – باختلاف البقعة والثقافة – أقرب إلى الشخصية القومية في بلد مجاور منه إلى المُجمع عليه على سبيل التعميم من تفاصيل الشخصية القومية في البلد الذي ينتمون إليه.