قذف المؤرخ البريطاني هولت بسؤال في غاية الدقة والأهمية وهو "لماذا لم تندلع الثورة المهدية في عام 1823م رغم توافر كل الظروف والمعطيات حيث كان المجتمع السوداني في اعلى درجات الغبن والظلم والاحتقان من آثار الغزو التركي المصري خاصة حملة الدفتردار الانتقامية والتي خلفت اكثر من مئتي الف قتيل؟؟ فهل الظلم يشكّل مادة كافية لانفجار الثورة؟؟" عزى هولت اندلاع الثورة المهدية في عام 1882 إلى ما أسماه اللحظة الثورية والتي تشكلت بفعل التراكم، لان الظلم وحده لا يصنع الثورة بل الوعي بالظلم هو من يقود إلى الثورة، وضرورة أن يتشكّل ويتعمق هذا الوعي في كل الطليعة الاجتماعية المنوط بها إحداث الثورة والتغيير وان تتحرك قوى التغيير تحت تأثير إيديولوجيا أو فكرة مثالية أو عقيدة مع بروز قائد ملهم يتحلى بصفات العظماء والكاريزما والقدوة والتجرد هكذا كانت شخصية الإمام محمد أحمد المهدي محفزة للقيادة وملهمة لالتفاف المجتمع السوداني حوله مما أهله لقيادة الثورة حتى تحقيق النصر، وهنا تكمن قدرة العظماء في صناعة التغيير وتحريك الجماهير وان كان البعض يرى بأن التغيير اذا توافرت شروطه فإن وقوعه ظاهرة حتمية كما يرى فردريك انجلز، لذلك في اعتقادي أن القيادة السياسية للدولة ادركت بدنو اللحظة التاريخية للتغيير من عبر التاريخ والتجارب الماثلة حالياً في العالم العربي ولأن التاريخ ماكر يضمر الشر والانتقام لمن لم يتعلّموا منه أو حاولوا تكراره بطريقة اقرب إلى المأساة كما يرى هيغل لذلك اختار الرئيس البشير أن يقف في الاتجاه الموجب لحركة التاريخ في القضايا الوطنية الكبرى، ومن حسن الحظ أن القيادة أدركت دروس التاريخ وهي تمتلك القدرة على تحديد الاجابة حتى لا يأتي يوم ولا تمتلك فيه تحديد الاجابة وهنا تكمن عبقرية القيادة التي تسبق الآخرين بالوعي والإدراك بضرورة الاصلاح والتغيير وهذا الوعي يتجلى في الاقلية المبدعة كما ذكر فولتير، وعبر التاريخ كانت هذه الاقلية اما مدنية أو فلاسفة أو مفكرين ولكن تأتي هذه المبادرة الخلاقة من قيادة ذات خلفية عسكرية فهي تنبيء بأننا نرسم الخارطة الصحيحة لمستقبل الوطن السياسي والدستوري والمرتكزة على الحرية والديمقراطية وتداول السلطة ، لذلك فإن رؤية الحزب الحاكم فيها اعتراف بوجود ازمة وطنية مستفحلة تستدعي الحوار مع اطياف الاجتماع السياسي السوداني المدني والمسلح وهذا تغيير في لغة الخطاب السياسي للحزب الحاكم، وفيه ايحاء ذكي بأننا كحزب حاكم اخفقنا في إدارة الشأن الوطني بمعزل عن الآخرين ونريد أن نتعاون مع القوى السياسية لإنقاذ السودان قبل أن يقع في شفير الهاوية وهذا ينم عن الحس الوطني، والرؤية هي ثمرة حوار سري وعلني مع القوى السياسية والنخب الوطنية وفي هذا توسيع لدائرة المشاركة والاستنارة بالرأي الآخر ولا يمكن أن يتداعى هذا الحشد النوعي من القيادات السياسية السودانية للاصغاء إلى مسرحية أو خديعة من قيادة الحزب الحاكم، وقيادة الدولة مدركة تماماً بأن التغيير قادم لا محال ولن تضحى بمصداقيتها وتخسر الرهان الاستراتيجي على قيادة مبادرة الاصلاح الوطني الشامل مقابل تكتيكات ظرفية، والرؤية بدأت بقيمة الحرية كأصل للحراك السياسي والاجتماع الانساني وهذا تطور فكري للذهنية الحاكمة التي كانت تدير الشأن الوطني بمنهج احادي اقصائي، والخطاب فيه اعتراف بأن الدستور والانتخابات لا قيمة لهما دون تحقيق الاجماع والتراضي الوطني وفي هذا اعتراف العقد الاجتماعي ينبغي أن يعبر عن الكل دون تهميش أو ابعاد وابتعاد عن العقلية الهيغيلية التي ترى بأن الثقافة الكلية تسود وان الجزء والخصوصية الثقافية تعبر عن ذاتها من خلال الكل والفكر السياسي الاسلامي متهم بأنه هيغلي النزوع والتفكير، وكذلك فان الرؤية فيها اعتراف ضمني بأن كل الانتخابات السابقة كانت محض شرعيات ناقصة أوجدت مزيدا من حدة الاستقطاب والتنازع الوطني، والرؤية فيها اعتراف بكل قوى وفصائل الاجتماع السياسي السوداني المدني والمسلح ودعوة لهم بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحلحلة أزماتنا الوطنية المتفاقمة، وفيه دعوة لتعزيز وبناء الثقة بين أبناء الوطن وذلك من خلال المقاربة الذكية التي طرحها الرئيس من اننا قدمنا التنازلات الباهظه للحركة الشعبية لتحرير السودان في اتفاقية نيفاشا ونحن على طرفي النقيض الفكري والايدولوجي من اجل السلام والوفاق والوحدة والتزمنا بذلك رغم النهايات المؤسفة والتي قادت إلى انفصال جزء عزيز من الوطن، وهذا يؤكد أن اصل المشكلة سياسي وجذر الازمة خلاف تنوع وليس تناقضا وتضادا وهذا يدل على أن الحزب الحاكم مستعد للحوار مع القوى السياسية الوطنية دون شروط مسبقة أو سقوفات وخطوط حمراء وأن كل القضايا مطروحة للحوار والنقاش الحر والطليق، والخطاب فيه اعتراف بخطل السياسة الخارجية التي عزلتنا اقليميا ودوليا وهذه اشارة للمجتمع الاقليمي والدولي ودعوة لتطبيع العلاقات على اساس المصالح المشتركة وايحاء بأن النظام تحلل من النزعة الايديولوجية الدغمائية الصماء، والخطاب فيه اقرار بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب بأطنابها الوطن ودعوة للاجتماع السياسي السوداني والنخب الاقتصادية لطرح آرائهم وأفكارهم للخروج من عنق الزجاجة، والخطاب فيه اعتراف بأن المؤتمر الوطني يريد أن يكون جزءاً من الحل لأنه لا يملك العصا السحرية لحلحلة الأزمات الوطنية، وانه يريد أن يكون جزءاً من المستقبل السياسي السوداني ولا يريد الهيمنة الأحادية أو الكنكشة في الحكم، والخطاب فيه اشارات إلى جدلية الهوية السودانية واعتراف بأننا كأمة سودانية من جذر حضاري واحد اصله كما ذكر محمد المكي ابراهيم نتاج (توليفة من نتاج اقوام السودان فيها من ألحان الكوشيين والنوبة وفيها من مذاقات دارفور وصديري أدروب وقلانس الجعليين وشعر البطانة وحتى العربية التي فينا فهي مطوعة إلى لسان عربي وكلام لا يفهمه إلا من نشأ في احضان الثقافة السودانية والتي هي نسيج وحدها) وهي دعوة للتحلل من العصبية والقبلية، وصفوة القول بأن الرؤية تسعى إلى صياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس لحكم راشد، ودستور دائم يعبر عن نبض الأمة، ونظام سياسي يحقق الاجماع الوطني والاستقرار السياسي والتنمية المستدامة والرؤية فيها اشارة ايحائية ذكية وهي أن الوطن ووحدة الامة مقدمة حتى على قضية الحاكمية والشريعة وهذه قاعدة دينية (..خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ .. (94)) سورة طه، والخطاب فيه احترام للقوى السياسية الوطنية وذلك لأن جاء في شكل اطروحة كلية وفي ذلك رسالة بأننا كحزب سياسي شخصنا الداء والعلل الكامنة وراء التخلف والقعود الذي اصاب الدولة السودانية، ونطلب من الآخرين المزيد من التشخيص ثم التحاور جميعاً لوضع الدواء وصناعة المستقبل كشركاء في بناء السودان الجديد حتى لا يقع الخطاب في مظنة الاستعلاء وقول المتنبيء (فيك الخصام وانت الخصم والحكم) ولعل كعب اخيل الخطاب انه صيغة بلغة صفوية عالية وعسيرة الهضم على شرائح المجتمع السوداني ولذلك يحتاج إلى حراك اعلامي كثيف للتوضيح والتفسير وهذه اللغة لا تتسق مع توصيف عنوان الخطاب بأنه موجه للامة السودانية، وهذه اللغة حمالة الاوجه قد تزرع بذور الشك والريبة وسط القوى السياسية الوطنية، ولعل الملاحظة الاخرى والتي لعب الاعلام فيها دورا كبيرا في تشكيل الرأي العام هي المزايدة في التنبؤات والتكهنات والتي ذهبت بعيدا وابعدت النجعة، لذلك كانت ردة الفعل العام تشاؤمية وازالة هذه الحالة تتم بالشروع الفوري في اطلاق عملية حوار واسعة مع القوى السياسية والاجتماعية السودانية لتفكيك هذه القضايا الكلية ووضع الآليات العملية لتنزيلها لارض الواقع، وان تبدأ بإطلاق عملية عفو عام لحملة السلاح ودعوتهم للحوار حول هذه القضايا ونرى أن انسب آلية للحوار هو المؤتمر الدستوري الجامع والذي يستوعب كل القوى السياسية الوطنية والاجتماعية والنخب المؤثرة في مجرى الحياة السياسية السودانية ثم الخروج بتوصيات عملية وخطط تشغيلية ملزمة التنفيذ تحدد الآليات والاطر التنفيذية التي من خلالها تدار عملية تنزيل هذه الافكار لارض الواقع تحقيقاً للانتقال الدستوري الآمن والمستدام.