برغم كل شيء ورغم الخلاف السياسي الواسع حول الوضعية السياسية بين النظام الحاكم ومعارضيه بجميع اتجاهاتهم ومناهجهم التي وصلت حد الاقتتال بالسلاح أقول وأصر على أن الحل الوحيد لتجاوز الحالة السودانية الراهنة هو الحل السلمي ونهج التطور السياسي والدستوري فهو الأسلم والأفضل لبلادنا وللجميع بديلاً من العنف والاقتتال والعمل العسكري تمرداً أو انقلاباً فهذان لم يورثانا غير الأحقاد والإحن والفجور في الخصومة. لننظر كيف صارت بلادنا منذ أن حمل الناس السلاح لحسم الخلاف السياسي سواء بالتمرد والثورة المسلحة أو بالانقلابات العسكرية.. لقد كان أول تمرد عسكري في أحداث توريت بالجنوب قبيل الاستقلال بأشهر فماذا حقق ذلك غير موت أبرياء سواء من المواطنين المحليين أو أولئك الذين ساقتهم أقدارهم للعمل في الجنوب من أجل تعليم أبنائه أو تطوير الأداء في الخدمة المدنية أو إدارة بعض المشروعات الاقتصادية لصالح مواطني الجنوب فكانت النتيجة الحتمية للتمرد وموت الكثيرين هو تردد ورفض كثير من أبناء الشمال العمل في الجنوب مما أدى لمزيد من التخلف.. فاستمرار التمرد بدعوى التخلف والتهميش لم يكن ذلك إلا لخوف الشماليين من أن تتكرر أحداث التمرد الأول في توريت. لقد أدى التمرد العسكري في الجنوب إلى المزيد من تخلف الجنوب عن الشمال. صحيح أن سوء الأداء في المركز والصراعات السياسية فيه والتهميش المستمر للأقاليم وتركيز التنمية في المركز دفع الحركات الإقليمية في الغرب والشرق التي بدأت سلمية عقب الاستقلال للاندفاع للعمل المسلح بمرور الزمن.ولكن كما قارنت في مقالات سابقة كيف أن إقليم كتالونيا في إسبانيا وعاصمته برشلونة استطاع عن طريق التعليم ورفع القدرات والعمل الاقتصادي الدؤوب أن يصبح أقوى إقليم في إسبانيا بعكس إقليم الباسك الذي اختار العمل المسلح تحت حركة ايتا فتخلف إقليمهم. لنتصور أن الجنوبيين وأهل الشرق والغرب وجبال النوبة والنيل الأزرق وكل المهمشين اختاروا العمل المدني السلمي بالتدافع السياسي وبالتعليم والتطور الاقتصادي مستفيدين من مواردهم المحلية الهائلة وتجنبوا العمل المسلح هل كان للانقلابات العسكرية منذ عام 1958 أن تجد المبرر بل بتأييد الشعب السوداني منذ أول بياناتها بسبب الخوف لدى الشعب من انفراط الأمن مما دفعهم للموافقة المبدئية على الانقلابات للأسف الشديد، صحيح أن الشعب انتفض مرتين ضد الأنظمة العسكرية الديكتاتورية عندما ساءت الأمور وفشلت أنظمتها ويمكن للشعب أن يفعلها مرة ثالثة فليس هناك ضمانات لغير ذلك سيما وأن نجاح ثورات الربيع العربي قد تشجع على ذلك في ظل أوضاع اقتصادية بالغة السوء وانتشار الفساد وسوء الإدارة وضعف المشاركة السياسية الحقيقية والضيق بالحريات. ورغم ذلك فإني أؤمن بأن الحل ليس في العمل المسلح بل في المزيد من التفاعل السياسي السلمي والتطور الدستوري. حتى كثير من أبناء الحركة الإسلامية الذين أصيبوا بإحباطات كثيرة ويعتقدون أن نظامهم الذي أقاموه وساندوه لأكثر من عشرين عاماً لم يعد يلبي أشواقهم أفضل لهم أن يصلحوا الأمور بتدافع سلمي فلديهم فرص واسعة مثلما حدث في البلاد الأخرى بشرط ألا يحصروا نفسهم في العصبية التنظيمية بل ينفتحوا على الآخرين خاصة الأجيال الجديدة قواعد الأحزاب التي سئمت من قياداتها التقليدية. أما الحركات الإقليمية التي اتخذت من العمل العسكري نهجاً لها فأفضل لها التدافع السلمي بدلاً من أن تخسر قياداتها بالموت فينعكس ذلك تخلفاً ومزيداً من الفقر في مناطقهم. اتعظوا بتجربة الصومال لقد وصل العنف فيه حتى داخل البرلمان كما حدث أمس.. يا للفضيحة.