الصخره التي تحطمت عليها أحلام الدوتشي بعد سقوط دولة المهدية، آلت شئون المدينة إلى الحكم الثنائي وظل قدرها يلاحقها حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكانت كسلا هي المدينة السودانية التي ذاقت طعمها المرير. وصلت أنباء الحشد المعادي والنوايا الإيطالية السيئة سبقت الغزاة إلى أهل المدينه فبدؤوا الاستعداد لمغادرتها طلبا للسلامة والنأى عن حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل . هكذا يكون مصير المدن المأهولة باثنيات متباينة عند اندلاع الحروب، تكون هشة أمام المصائب، وتحطمت هذه النظرية في المدينة المعجزة، هذه الصخرة التي تحطمت عليها أحلام الدوتشى موسلينى . كانت كسلا وعاءً ضم قبائل الشمال في تعايش حميم مع قبائل المنطقة بمختلف بطونها وأفخاذها، ووفدت إليها قبائل غرب السودان فكانت لهم نعم الدار في دار صباح، ولا زالت منطقة الكاره في كسلا مستقرا لبقايا الجهادية السود وأحفاد ضباط وجنود الكتائب السودانية التي شاركت في إعادة السودان ضمن جيش كتشنر، وعبرت بها واستقرت فيها قبائل الفلاتة والهوسا والبرنو بعد هجرتهم من أوطانهم لزيارة الأراضي المقدسة وصارت لهم فيها ديوم وأحياء وأخيرا فرق كرة قدم تنافس في الدرجتين الأولى والثانية. كان بها الحبش والقبط والاغاريق والبنيان (الهنود) الذين ما زالوا يملكون (غيتو) خاصا بهم في موقع مميز من المدينه له أبواب كانت تقفل ليلا، عاش فيها الصومال وبهم بالمشاركة مع البني عامر تأسست فرقة العرب الشرقية جاؤوها محاربين ولا زالوا يتمسكون بلقب (وريا) وأصل الكلمه WARIOR أي المحارب، استقر بها المناصير والشايقية والمحس بعد مجيئهم ضمن ركب السيد علي الميرغني في بداية القرن الماضي في رحلته من سواكن إلى كسلا فسكنوها وزرعوا ضفتي القاش وكسوهما اخضرارا، مدينة بكل ألوان الطيف ولأنها دار لسجادة للطريقة الختمية صارت مزارا ومقصدا للمريدين مما شكل مزيجا مدهشا من مجتمع المدينة من الجنسيات والاثنيات السودانية التي تمثل ذلك التفرد الذي تميزت به الشخصية السودانية في ذلك الركن القصي من الوطن. عندما بدأت الطائرات المعادية التحليق فوق سماء المدينة بدأت قوافل الهجرة العكسية، ولكن نفر كبير من المواطنين رفضوا فكرة الخروج من المدينة وبقوا فيها عاشوا ظروف الاحتلال المرير وكانت قرية الختمية وضرائح السادة المراغنة ملاذا يستجيرون به كلما حمي الوطيس إذ قرر السادة المراغنة البقاء في قريتهم الختمية عند سفح جبل التاكا حيث السجادة ومراقد أسلافهم . كان الايطاليون يدركون جيدا نفوذ المراغنة في المنطقة التي تحتلها جيوشهم ولا سيما أنهم عبروا المنخفضات الاريترية وهم في طريقهم إلى كسلا حيث ينبسط هذا النفوذ من مصوع إلى كسلا مرورا بمنطقة كرن وأغردات، اذ ينتمي معظم سكان الريف الغربي لاريتريا إلى الطريقة الختمية فقد شهدت اريتريا رحلات الاستاذ محمد عثمان الختم الأولى إلى المنطقة قبل زيارته للسودان وعبر أريتريا هاجر حفيده السيد محمد عثمان بن السيد الحسن إلى مصر بعد أن فقد الأمل في البقاء في كسلا أمام زحف وحصار جيش هدل للمدينة الوادعة وإلى أريتريا هاجر ابناه السيد بكري والسيد جعفر وصارت لهما في أغردات دار تضرب إليها أكباد الإبل وهاجر إليها بعض السودانيين خاصة أشراف خور بركة ليبقوا بالقرب منهما كانت الختمية في أيام الحرب مثل دار أبي سفيان مكانا آمنا لا يطلق فيه الرصاص ولا تسقط عليه القنابل وما أن تدوي صافرات الإنذار في سماء المدينة محذرة الأهالي من غارة جوية قادمة، يهرع الجميع ركضا نحو الختمية طلبا للسلامة ومن الطريف أن الدجاج والكلاب كانت تتسابق نحو الجبل كلما دوت صافرة الإنذار. أطبقت جيوش الطليان على المدينة وتقدمت إليها بمحورين اثنين: المحور الأول بين جبلي التاكا ومكرام وقد تعطلت القوة المتحركة في هذا المحور بسبب جندي شجاع صمد في مكمنه في طرف جبل التاكا المطل على طريق التقدم وكان يطلق نيرانا كثيفة من مدفعه الرشاش المتوسط من طراز مكسيم وأصاب أعدادا كبيرة من العدو إلى أن قصف الموقع بالطيران واندهش القائد الإيطالي عندما وجد هذا الجندي الشجاع ميتا وهو يحتضن رشاشه وكان يظن أن بالموقع جماعة مشاة مدربة تدريبا جيدا، ولا يزال البعض يطلق على صخرة الصمود تلك (جبل المكسيم) تخليدا لذلك البطل الشجاع . نجح الطليان في التقدم من جهة السواقي التي تقع جنوبالمدينة، وفجأة امتلأت المدينة بالجنود الإيطاليين من جهة الجبل واستمر تفقهم من الصبح حتى المساء وتركزوا في منطقة الحامية والسواقي لتغطية قواتهم من الطيران الانجليزي ومترسوا دباباتهم في ساقيتي السيد علي التي كانت تقع في مكان سوق هيكوته الحالي وجنينة السيد جعفر التي كانت تقع في مكان فندق هبتون الحالي والمدرسة التي تقع جنوبه وسيطر الطليان على وسط المدينة ومعهم اتباعهم الأحباش وآلياتهم وأسلحتهم الثقيلة وسيطروا عليها سيطرة تامة وانسحبت القوات الحكومية إلى نهر عطبرة ليعيدوا تنظيم أنفسهم استعدادا للمعارك القادمة بعد أن فقدوا حاضرة مديرية التاكا الاستراتيجية، وبدؤوا في حشد جيوشهم في منطقة كوبري البطانة . ويجمعون المعلومات عن العدو ويقلقون مضاجع الطليان في كسلا حتى اكتملت الاورط الوافدة من دارفور والقضارف وشندي بجانب قوات الحلفاء التي كانت تضم قوات هندية بالإضافه إلى مليشيات الباندا بكر التابعة للناظر بكر التي كلفت بمهام قتالية في قطاع القلابات، كانت الحرب القادمة هي المحك الحقيقي لقوة دفاع السودان التي تواجه أولى معاركها بعد التكوين أما الطليان في كسلا فقد أرادوا من الوهلة الأولى أن يظهروا (العين الحمراء) وقامت باعتقالات طالت حتى العريس الذي خرج معلقا سيفه الذي كان يعتبره جرتقا ضمن مراسم العرس ولم يكن يفطن إلى أنه كان يحمل سلاحا، ولكنهم سرعان ما فطنوا إلى غلطتهم وعادوا إلى رشدهم وحاولوا استمالة المدينة الرافضة للاحتلال، وبدؤوا في تعمير المدينة بدءا بالختمية حيث سيطروا على مياه نبع توتيل من مكان العين في موقع جنه جنه الذي يقع في مكان عال في الجبل وتم ذلك بتوصيل ماء النبع إلى الأسفل في مكان يتيح الماء لتكون في متناول اليد دون المكابدة في الوصول إليه بواسطة انبوب فولاذي (لا يزال يؤدي دوره ) ونحتوا في منطقة توتيل الحالية وعاءين لاستقبال مياه النبع وهي ما نطلق عليه بئر توتيل الحالية. واجتهد الطليان في ترميم مسجد الختمية حيث مراقد السادة المراغنة وإعادة بناء ما أصابه من خراب أيام المهدية انتقاما لدور الختمية في مواجهة الأنصار أثناء فترة الحصار، وظلت سقالات البناء التي استخدمها الطليان في مكانها حتى الآن شاهدة على ذلك الجهد الذي لم يقدر له الاستمرار بسبب انسحابهم المفاجىء من المدينة، قبل انسحابهم واصل الطليان جهدهم في تعمير المدينة وبنوا المسجد الكبير القائم حاليا، كما بنوا جسرا على نهر القاش (الكوبرى القديم) بعد أن كان الأهالي يعانون الأمرين في فترة جريان النهر في الخريف وكانوا ينقلون بين الضفتين بواسطة (العناقريب) التي كان يحملها ( التكارين ) على أكتافهم نظير أجر معلوم. كان العمل الاستخباري من قبل قوات الحلفاء نشطا، وكثير ما شاهد الأهالي الملازم طلعت فريد يتجول في المدينة بملابس رثة يبيع الدجاج والبيض وكان يظهر أحيانا في هيئة شحاذ يرثى له يتجول في المدينة يجمع العلومات ويحرض السكان على المقاومة دون أن يفطن له العدو بسبب تستر الأهالي عليه . كان طلعت فريد الذي صار لاحقا عضوا بمجلس قيادة الثورة في الانقلاب الذي قاده الفريق إبراهيم عبود في السابع عشر من نوفمبر 1958 كما كان واحدا من أبرز رجالات ذلك العهد، كان طلعت شخصية فريدة ومحبوبا في مجتمع المدينة خاصة بعد تأسيسه فريق الشباب الرياضي الذي انشق من فريق الميرغني الذي أسسه عام 1928 السيد محمد عثمان ابن السيد أحمد (راجل شمبات) شقيق السيد الحسن . كان طلعت فريد من أبرز اللاعبين في نادي الشباب الذي كان يضم كبار الموظفين وما زال كثير من الرواة والحبوبات يذكرون الأغنية التي تقول : يا طلعت سيب الكورة وأمشي شوف قيمة الدبورة بجانب طلعت فريد ضم حشد الضباط من قوة دفاع السودان عددا من الضباط منهم الزين حسن وأحمد مجذوب البحاري وحسن بشير نصر ومحمد نصر عثمان وكانوا تحت قيادة آمرهم اليوزباشى محمد نصر نمر. وأواصل