على حين غفلة مني. على حين انتباهة من صديقي اللدود نشأت الحلبي، صرتُ عجوزًا ( قمطريرًا)! ظل هو – ابن الحلبي- يصيحُ فيّ ياعجوز.. ياعجوز، متى ما رآني وحدي، أو بين الصحاب، حتى حسبته- ذات حلم- أنه سيحملني إلى جبّانة (أبوهامور) في ضحى الغد، ويرثني في صبيحة اليوم التالي، ويطير إلى نيكاراغوا، تلك التي يحلمُ بها، وأحلمُ.. ولا يدري أي منا سبباً وجيهًا لهذا الحلم المزدوج، العجيب! قلتُ- ذات تصابي- وكان المطرُ يُنقط.. وكان ذا الشيب الذي يقهقه- الآن- في رأسي وحاجبىّ، قد بدأ يضحكُ ليبكيني، إن الجسد قد يشيخ، لكن القلب أحياناً- لا! قلتُ ما قلتُ، وكان المطرُ الذي يُنقط، قد صحّى، في مكان ما من رأسي (الضاحك) بيتاً قديماً من الشعر، زادني صبوة، وتصابي عن تصابي: تقولُ العازلاتُ، علاك شيبٌ أهذا الشيبُ يمنعني مراحي؟ في يوم المطر الذي كان ينقط، كنتُ أتذكرُ صاحب البيت المتصابي، وكان ببيته الشهير هذا، صنو قلبي الذي لا يشيخُ، وكان.. وكان بيته روح كل أبيات الشعر التي كنتُ أحشو بها، دماغي حشواً( وسوء كيلة) وكان.. وكان البيت روح غناي! اليوم- ولا مطر ينقط: مطر، مطر، مطر في هذه الصحراء، ولا سيّاب، ولا صبيّة، ولا تصابي- ماعدتُ أتذكر البيت الشهير، ولا صاحبه- صاحبي- ولا العازلاتُ، ولا، ولا .. يا أيها الذي علاك شيبُ، وعلاني! ماعدتُ أتذكره- فقط- أن صديقي ابن الحلبي نشأت، ما انفك يصيح فىّ (ياعجوز.. ياعجوز) متى مارآني أتصابى( في تي شيرت) فاقع اللون، يسر الناظرين، أو لم يراني، في (شورت)! لماذا يريد لنا ابن الحلبي هذا، وأمثاله، أن نحشر ما تبقى من أجسادنا التي كانت، في ألوان ترابية، تذكرنا بالتراب الذي سننتهي إليه، وينتهي إليه، هو.. وينتهي إليه كل حي، وإن.. إن طالت سلامته! لماذا يريدنا، ألا نُفرح أنفسنا- ولو مجازاً- ونحن في نهاية العمر؟ لماذا يظل يذكرنا، أن أوانا فات.. فات؟ لماذا يريدنا أن نبكي على أنفسنا، قبل أن يبكي هو علينا، أو لا يبكي على الإطلاق، على رجل ظل ينبهه- في كل مرة- أنه.. شاخ، ولا يحس ولو مرة واحدة، بوخزة واحدة، في ضمير شبابه؟! أنا شختُ؟ بلى. الحلبي على حق.. لكني- ورب الصبيات في شارع الحمرا- شختُ بهدوء غريب، وإلى الدرجة التي ما انتبهتُ، إلى أنني أصبحتُ فعلا عجوزاً، إلا بعد صيحته الستين، في ظرف ثلاثة أيام، فقط! الستين؟ بلغتها بهدوء عجيب، وما أرغبُ إلا في ازدياد! هو –الحلبي- بينه وبين نفسه، يتمنى لو يبلغها.. ويتمنى لو يتجاوزها.. بل ليتمنى لو يُصبحُ عميد سن البشرية! لن يصبح عميدًا، إلا على جثتي، لذلك هو لا ينفكُ يذكرني بشيخوختي، ليرميني في أقرب جبّانة، بالسكتة العجائزية! ياعجوز! رفعتُ عيني. كان هو- الحلبي، ودالهرمة. للمفارقة كنتُ أقرأ- في تلك اللحظة بالتحديد- في حديث للممثلة سلمى حايك، عن الشيخوخة،وما إذا أكانت هي- سلمى- تخاف أن تشيخ في يوم ما. قالت: لا أفكر فيها. الذين يفكرون في الشيخوخة، يشيخون بصورة أسرع! قلت للحلبي، وأنا أضيف إلى جملة سلمى جملة مني : "والذين يُعيّرون العجائز بها، أيضا!"ً لم يفهم ابن الحلبي. هذا عهدي به منذ أن صار يرميني بالكهولة. هذا مافهمته من ملامحه. لم أرد أن أفهّمه، وأنا لستُ- أصلا- فهّامة. أعطيته الخبر، ليقرأ بنفسه، ويفهم، ورحتُ.. رحتُ في شيخوختي، أتذكر الأيام الخوالي.. أستعيرُ ما استطعتُ صوت الفنان الطروب ود البادية، وأدندنُ.. أدندن، وأتخيل... أتخيّلُ بنت الجيران التي كانت وكانت، تروح تشبُ في وله بأذنها إلى فمي، من فوق الحيطة: "يا أول حب، وآآآخر حب، حبك نار، وكلو ودار.. ونا منو بقول آه يارب!!