ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات الطفولة الأولى (مختصر حكايات واقعية) (1)


عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي
[email protected]
في خريف العام 1948 وفي موسم الحصاد (الدرت) أو قبله بقليل (أغسطس؟) وفي الصباح فرحت فرحا شديدا وألمت ألما كثيرا: توفي جاًرُ لنا في ريعان الصباَّ) وبكته البواكي بحرقة وتوشحن بالرماد الذي أُعِدَّ لهُنَّ كي "يتَكَتّحنَ" ولا يُفْعَلُ ذلك إلا عند المصيبة الشديدة والنازلة الأشد, ومِن عجَبٍ فإن الشيوخ ذوي المكانة هم الذين يأمرون الخدم والسرّيّات وبقايا الرقيق الذي آثر البقاء مع قومه موقناً أن ذهابه بعيدا لن يجلب له نفعا إذ الحرية وحدها لا تكفي, هؤلاء السادة هم قومه ورهطه وعصبته التي
ستؤازروه عند المِحَن, وما أكثر المحن من محل وجفاف ثم جوع وعُرْيٍ واضطرار لبيع الأنفس أو أكل الجِيف (وقد شهدت في نفس العام غليَ لحم الكلاب وأكله وشهدت بِعَيْنَيَّ الاثنتين قوما يحملون اقداحا خشبية ينتظرون بجانب الذبيحة حتى إذا دنا الذّباح (الضبّاح) من عنقها وكبّرَ وضعوا قدحا قبالة السكين فما أن تطاير رشاش الدم حتى يتلقَفَه القدح كله , ثم يطبخونه فيتجمد لبدا لبدا ويصير كما الكبد أو الطحال (أبودمّام) .ولا أعرف كيف يكون الجوع كافرا.
1 – وكان أولئك الأكَلَةُ سمر البشرة مزخرفةٌ جلودهم وبخاصة الأوجه والصدور ويتكلمون بلغة لا نعرفها. يأتزرون بسرابيل تستر عوراتهم/ن وتُلَبِّك نساؤهن شعورهن بشيئ يشبه العصيدة ولا أدري أكان ذلك بهدف تجميلاً أو وقايةً أوعلاجا, ولعله كان رمزا دينيا.. تلك النسوة وأولئك الرجال سمعت إحدى جداتي تناديهن بأسماء عربية وأخرى لا أفهم معانيها .كانت تمازحهن وتناديهم ب"بنات أبوي فلان وجدك فلان! (هم أقرباؤنا, فلم يختلفون عنّا, إذن؟!!) فتقول جدتي أن آبائهن من عشرة أجدادي وبعض سادتهم بينهم وبين أكابرنا أحلاف (الكتاب), ولاحقا علمت أن أهل الديم غالبا ما يتخدون لهم علاقات خاصة مع أهل القرى المجاورة (الضهاري) فهم يتسوقون في كل اثنين أو خميس ويتعبون في رحلاتهم مشيا على الأقدام من قراهم فلزم أن تحسن ضيافتهم.. وإلا لباعوا لتاجر آخر واشتروا منه ما يريدون, وغالبا ما كان هو الذي يحدد سعر البيع وسعر الشراء ولا يُسأل طالما أحسن الضيافة وأبدى اللازم من اللطف والتبسم وأهدى بشيء لناس "اولاد أبوي وعيال اختنا , ويا حليل أيام زمان لما كنا نساكنهم سفح الجبل. وكانت المضيف يوفر لهم الدقيق والماء والزيت والبصل و ويضعه لهم تحت الشجرة حيث يضعون أمتعتهم البسيطة ويعطون آنية فخارية (كلول أو دحلوب) فيطبخون بطريقتهم ويتناولون الطعام ولا شاي ولا سكر والتمباك مهم ولهم طريقتان في حفظه: إما أن يقطع من عجينته وهو لين قطعا صغيرة تكور في حجم النبق وتجفف ثم تؤخذ منه واحدة بعد الطعام حين الاسترخاء ويسمونه "الكدكر؟,
الشاب الذي أبكى رحيلُه الرجال والنساء والأطفال كان الاستاذ السيّد علي ود محمد أحمد ود مصطفى (رفاعة) من الذين وفدوا لكردفان مبكرا ومعه اخوته.
كان السيد علي من خيرة المعلمين, دمث الخلق عفّ اللسان, وكان شاعرا ورث موهبة الشعر عن أبيه الذي سمعته يبكي ويُمَنِّح: (أعلمه الرمايةَ كلّ يومٍ فلما اشتدّ ساعدّه رماني). دموع الشيخ أفاضت الدموع في جفون الطفل. وكسّر خالي لأمي عوده ولا اسمع برجل غيره اقتنى آلة للعزف آنذاك وعلمه العزف على العود عابدين (من ال عمدة الأبيض العمدة ابراهيم رمضان الذي بايع المهدي في الأبيض وخرج على محمد سعيد "جراب الفول) حاكم كردفال في التركية, أما عمنا بَكُر ود العصملي فقد كسّرّ القرامافون والاسطوانات جميعا, وقد نجت بعض الاسطوانات من الكسر ولكنها ظلت مهملة مرماة في طرف الصريف المصنوع من قصب الدخن أو العدار وكنت ألعب بشظاياها في ما بعد وارسم عليها بقلم الاردواز أو أكتب (لي قطّة صغيرة أسميتها سميرة, تنام في الليل معي وتلعب بأصابعي, أو أ, أسد, ت, تمر ب, بعوضة ..الخ) كنت أحب "الشخبطة عليها وكانت تكاد تبكيني, الموت, الموت. تذكرني به. وأذكر الأستاذ محمد عبدالماجد الذي اعترته حالة من الهيجان المصاحب للحزن والالم. عيناه احمرّتا وصار يخبط رأسه بكفيه وبقوّة من يعتقد الناس أن جريدة ذراعه واحدة, أو هكذا تبدو. ولم يهدىء خبطُ الرأس روعَه فاقترب من جذع شجرة "الحلومر" ولف يداه حولها كمن يريد عناقها وشرع في النطح الشديد المتلاحق فما وهنت الشجرة وما وهن الشاب, ولكنه رحل عنّا بعيدا بعد تلك المصيبة بأشهر أربعة . كاد قلبي ينسلخ من ذلك المنظر (منظر الشجرة وناطحها االحنون برغم أنف عناده وعنفوانه. ولما رحل محمد عبدالماجد لم ابك كثيرا, كأنما كنت أقرأ النهاية, حزنت حزنا مكتوما أُوأنقذتني السماء بإفراغها رباطة جأش عليّ, رباطةجأش قلما تتزل على طفل في الرابعة..
وفي ذلك اليوم وفي أثناء العويل والنواح كانت الأرض تعج بمخلوقات جميلة تزحف على الرمل الأصفر الناصع أو تتاطير من حولي تحت شجرة "الحلومر , التمرهندي" الفراشات مزخرفة والعصافير من فوقي تحط على الأغصان جيئةً وذهابا. والأضب ذات الحلاقيم تتربص والسحلية ذات الملمس الناعم والتشكيل الذي يحاكي فِرِك القرمصيص تتربص بالنمل الطائر, يخطف بسرعة كما البرق ويُلْتَهم. وتدور الأعين قبل اكتمال البلع في وجهة الأرضة السوداء الطائرة (السًمّين, وهو فعلا سمين ويؤكل في نواحٍ من السودان قصِيَّة يخلطونه بطحين السمسم, وين وين نلقا ليكُم لحم سِمّيْن, وهكذا كان يتمازح الصبيَة ),أنا قبالة كرنفال الدرت واكتساء الارض بحيوية مُلَوَنة. وفي غمرة اشتعال الحياة هذا تختفي بعض المخلوقات سريعا. حيوايات تتشكل وحيوايات تتهاوى. ومن جملة ما جذب انتباهي كائن يطير بصعوبةٍ, ولكنه يطير. في حجم التمرة "البركاوي" ويخبىئ جناحيه الشفافتين تحت غطائين قويين يبدوان وكأنهما نُجِرا من الخشب الثقيل وأحسن الصانع صقلهما ودهنما بمادة بنية اللون لامعة, ولا شيء يقارب شبهاً هذين الجناحيْن أكثر من خشب الكمنجة تساقطت عليه خيوط من الضوء عموديا, ولمّا كبرت أدركت شبها ثانياً: ساقيْ عمتنا ر, بت ع. كانت تجهد في الدُّخان وفي الدّهن حتى أسْمَرّ ساقاها – مع شيء من الاحمرار وملمس أتخيله ولم أّمُدّ أصابعي (كانت محتشمة وتكبر أمي بسنوات). كنت أحس بأن ذلك الكائن المُصَفّح يجد صعوبة في الطيران إلى الأعلى ولكنه يصر بالرغم من إصرار الجزء السُفْلِيِّ من جسده على التثاقُلِ إلى الأرض, ولا عُنق لهذا الكائن يفصل بين رأسه وصدره خطٌّ عريض يسدُّهُ ويفتحه كما المقصلة. أعجبني وأدهشني فقلت لأبي الذي يذرع المسافة بين بيتنا وبيت "الفُراش" جيئةّ وذهابا وكأنه يعاني من قلق شديد. يذهب لهم ويعود لي؟ فيم كان يُفَكِّر يا ترى؟ قلت لأبي: "أنا عايز دا". فأسرع ل "الدُّرْدُر", وهو غرفة من اللبن معروشة بقصب الدَخن في شكل قطّيِّةٍ عملاقة وجاء بخيط أخضر واحتال في قنص "أبو دِنْقا" - وأهل البحر يُطلقون عليه اسم "الكُدُنْدار". سعدت به وتسبسمت وتبسم ابي قبل أن يعاوده الحزن على السيِّد علي (ولعل هناك أحزانا أخرى يخفيها عني, قطعا هناك أحزان عرفتها بالتحليل في ما بعد, وسُحقا للإنجليز واللعنة على الحاجة الشديدة والمقت الشديد لذلك الإمام الذي يتخذ من "الخواجات" أولياء ينقل لهم خبر "العيال بتاعين المشاكل" ومُحَرِّضِيهِم ويتعهد المفتش ب "مرمطتهم" وتفريقهم أيدي سبأ, واللّقمة عندالله. لعلُّه من الغيب أُرْسِلَ الكُدُنْدار إلينا يُخَفِّفُ من عذابِ يومنا, و جوّ "الدّرَت" ودبيب الحياة في فناء الدار لّطّفّا جوّنا المأزوم.
ومضى السيد علي, ومضت أيام قلائل وصحبت الوالد في السفر إلى النهود حيث يقيم من بقي من أهله. لم يبق منهم الكثير. يعرف الحي الذي حللنا به عند معظم قاطنيه ب "فريق العمراب" ويعرف لدى أهل الدار بحي "أبو جلوف", وأهل الدار حمر وباسمهم كان يُعَرَّف المجلس الريفي, مجلس ريفي دار حمر, وتشابه هذه التسمية المليئة بالغرض "مجلس ريفي المسيرية" أو مجلس ريفي البديرية, وفيه نسبة للعرق, وكان معظم المجالس الأخرى ينسب فيها الى المَحَل, "مجلس ريفي شرق كردفان (أم روابة) , مثلاً. الغرض واضح: تخصيص الأحقية للقبيلة الغالبة عددا وفيه انتقاص لدور الأقليات النازحة وتأجيج نيران - في رأيي - , وتغلبت المصالح ولم تؤت تلك التسميات المُسِمّةُ ثمرةً مُرّةً , ولعل فضل ذلك يعود لعدم اصطدام الناس في سبل كسب العيش. كانت مجموعات لا تتداخل اختصاصاتها, فالمزارع مزارعٌ والراعي راعٍ , والحِرَفيُّ حِرَفيٌّ وكلٌّ يحتاج لبضاعة الآخر, والحُبُّ الحُبّ والتزاوج, ما أن يمرّ جيلُ واحد حتى يكون هذا ابن خال هذا أو ابن عمّ هذا, وتختلط الدماء ويتّحدون في الأحساس بالهموم (والمصارين تصفّرُ معا). ودعك عن هذا.
وفي النهود وقف الكومر امام بيت الطين المطليّ سوره العظيم بالروث والروث أبيض !! والروث الأبيض خُلِطَ بالجير, والجير في النهود أرخص من الروث (الزبالة). أُبُّهَة .. أبُّهَة, السور عظيم والباب فخيم وشجرتان كبيرتان داكنتا الخضرة تحرسان. أحسست بشيء من التضخم وبدأ جسدي النحيل في التّمَدٌّد, ما أروع رفقة الطّفل أباه في السفر لا ثالث معهما. فُتِح البابُ الذي تحجبه عن الديوان شجرة اللبخ. تتدلى منها عروق بعضها يعانق الأرض والبعض الآخر يقترب منها كمن يستعذب شمَّها وأُسْرِع في التسلق والتمرجح رافعا جسدي إلى الأعلى ومرخيا ساقيَّ "أُدَلْدِلُهُما" لأسمح لِقَدَمَيَّ برسم خطوطٍ في الرمل اللّيِّنُ. أحِسّ باللِّيْنِ ولا أشعر بالبرودة, فخلعت عنهما حذاء القماش الأبيض (ماركة باتا, وكان زهيد الثمن إلا أنّ لباسه الآن يكاد يكون اقتصر على البنات(وأشباههنّ) وقد شريته لابنتي هذا العام – في لندن – بما يعادل المائة دولارا , ومعادله بالسودان آنذاك كان مرتبّ محافظٍ لشهر كامل, أو يزيد , ولاُ أقول "سبحان مُغًيّر الاقتصاد" فقد غيَّره أنذال") وعلّمتُ التراب بماركةٍ غير مسجلّة, أنا هنا .. أنا هنا في وفي زهْوِ الكُدُنْدار (القُمُنْدان؟ أو كما كانت تطلق عليه ابنةُ أخٍ لنا يافعة (تيسير عبالمنعم محمد علي بخيت, تحت شجرة الليمون عند الباب بضاحية شمبات, في أوائل الثمانينات). و بَخٍ بخٍ لي الآن وزمان.
ثم ناداني فمشيت نحوه ودخل بي الغرفة اليمنى من الديوان, وسرير سفري (مشمع) كان مسجّىٌ في الصالة, وبها عناقريب وسجاجة (سجادة) والسجادة خشنة ومغبّرة صنعت من الوبر بخيوط بيضاء توازيها خيوط سوداء. خرج أبي وعاد يحمل طستاً وجردل ماء وصابونة. وساعدني في ملابسي , و ضع على طرف السجادة التي طوى جزءا منها وضع فيه الطست والجردل. غسلني على مهل ثم جففني بخرقة لا أذكرها تماما, ملاية؟ لا أذكر غير الاستمتاعٍ بذلك النوعي . كنت لا أحب الحمام وأنزل في الطست على مضض. تعودت من أمي دعكا شديدا ب "الليفة" التي تقطعها أمي من الليف الذي ينتشر بكثافة في الصريف الذي يفصل بين بيتنا جيراننا. يتدلى الليف بالجهة الأخرى ويثقل الحوش حتى يكاد يرميه. كان ليفاً بالغ الخشونة, أكرهه وأكره "السجاجة" فهي أيضاً خشِنة وفيها "يِتْفَسَّحْ النّمِل". استمتعت بما كان أسمعني أبي وما أسمعته ولا أذكر منه الآن شيئا . أذكر الفرح فقط, ولما كبرت أصبحت أشد الناس نسيانا للمفرحات وأقدرهم على استذكار المُؤَلِّمات ! ولا يُذْهِبُ حزني إلا ثلاثة:النساء والصلاة, أما الفنُّ فهو الطائر الذي يعلو بي في الفضاء وأجوب به العوالم الخفية, يا ليتني عرفته مبكرا, لا لا, لكنتُ الآن ميتا من الجوع. ميتاً, لا لا , لكنت اليوم حيّا كمَيّتٍ, هناك ألف طريقة لملء البطون, هل كنت سأطو على السُّلطة, ربما, ولكني ما كنت لأحفل بالحرف كثيرا , ناهيك عن الكتابة. أو يكون المصير في الموت شنقا أو بالرصاص, ويقال أن فيه حياة ؟! ولكنّ هذا وحلٌ "لضيض", فدعكم
وفي تلك الرحلة حفظت جغرافية الحوش وما يجاوره حفظاً تامّاً, ولكن لا أذكر معظم الناس وأذكر البقر والشجر. وفي الحوش الداخلي شجرة "شاوْ" تقطع منها المساويك (الأراك) وكأنّ الفرشاة خيرٌ منها ولكنها أطيب نهكةً وأرطب عودا, والمُحَيّرُ أن كبارنا يعتمدون عليها وتعمِّرُ أسنانهم معهم. فلا بد أن لعاداتهم الغذائية واستخدامهم غرغرة ملح الطعام أثرا مساعدا في صحة أفواههم. ورأيت ناساً يدعكون أسنانهم بالفحم الطري (وهي عادة متأصلّة عند الدينكا) ويقولون للتبييض ولكن يبدو أن الفحم يطهر الفم أيضا, أما رأيت كيف تضع بعض الأمهات فحمةً في درج الثلاجة منعا لرائحة "الزفارة" من الانتشار في الطعام وبخاصة في الصيف؟ لا أدري برغم التأمل2. وٍبيننا وبين مربط البقر من الناحية الغربية ّمنفذ (نفّاج) أقفُ في طرفه وأرقب الشمس تصْفَرُّ وتحمَرًّ لتغيب وكأن بها " حراق روح" أو رهقً من ابنتها النار وولدها النهار..وأسمع. أذاناً من هنا وآخرَ من هناك, يُفَرِّقانِ بعاعيت المغارب (عفاريت؟) . صوت حنونُ يسترحِم وصوتُ يزْعَقُ جئيراً ليطْرُد. وقد حفَّظني الخوفُ "الحمْدُوْ". والخوف من الشيْ لا يكون مرّتان, ‘فإمّا أن تصرعه من المرّة الأولى أو يَلبَسُك ذلك الشيء سروالاً ما حييت. والبقرُ يًرَجِّع "أُمْبُوووَّح, أُمْبُوووّح", يُنادي الصِّغارَ لِتَرْضع بِنهم وإلّا لَجَفَّفَ حلّابُ الحاجّة عشّة ضروعها. "شاخْ شاخْ" ويحلب "ناشِف". الضرعُ طرِيٌّ ليّن, والكفّان قويّان قاسيان شقّقْهما التعب والأكل الكَأَب "الكعب". والعجول تمدُّ اعناقها في فروج أمّاتها وتنصِبُ أذنابها أُفُقيا للوراء, تباعد بين أكُفِّ الناس وبين مربط اللبن. مسكينةٌ العُجول, تمُدُّ أذنابها فيسهُلُ على الناس جرُّها وتُودَعُ الحبلَ في الركيزة. وتكتفي بتبادل النظرات بعيونٍ "تِرقْرِقَ" حزنا جافّاً. ولم نكن قد سعًينا البقرَ في أبوزبدْ بعْدُ.
هممت بالانصراف, وقبل أن أدير ظهري رأيت شبحا يزاول . لم أتبين جنسه أو عمره. كان نحيفا ويحمل على رأسه ماعونا مستطيلا يلألىء منه خيطٌ معدنيٌّ رفيع, وتثبِّتُ الماعون ذراع تبدو كالعود المحروق , ويرتجف الساعد من حمل الماعون الذي لا يدلُّ مظهره على ثِقَل. أهذا طبقٌ من السعف مفلطحٌ أم هو صينية. لا بد أنها صينية لأن حافّةَ طبقِ السعفِ لا تعكس الضوء. ومصدر الضوء محمول في العود اليمنى التي ترقصُ وهناً ليرقص معها الفانوس. وينحني الشبح ويضع الصينية على الأرض في وسط مربط البقر. ثم يبدأ في أخذ ِ مما ثقُلَ به بطن الصينية, قطعا سوداء كّكِسَرِ الطوب الذي بولِغَ في حرقه, ويلقم كل بقرة قطعةً أو اثنتين. تتقدم كل بقرة في اتجاه الجسم النحيل وتحيّيه – مُقَدَّما - بخِوار رعويًّ يثلج سماعه أذن الجدة راجين الله و " البقر دا بيحفظ الجميل أكْتَر من سِيادو", تقولها في همس, ولا تعني بها سيدّها سابقا, ولكنْ تقصد بها جنس البشر اجمعين. وتركت البقر يسعد بقرمشة "السِقْدَةْ, الأمباز"ُ,كُرُمْ.. "كُرُم .. كُرُم. وسرحت أستأنس بخبر المرعفين ورأيه في الآدمين:
حُكِيَ أن مرْعَفيناً (ضبع) خرج يبحث عن فريسةً فلم يُوَفّقْ فاضطر يقصد قريةً صغيرةً مُتَطَرِّفَةً لعلّ كلابها تكون في غفلةٍ فيختطف له بَهَماً ممن اغترّوا بزهرة يفاعتهم فابتعدوا عن الحظيرة.
وفوجِىْ في الطريقِ برؤيةِ جُثَةٍ لا نَفَسَ لها ولا حِراكَ. "عجوزٌ مُكَرْكِبٌ حضرته الوفاةُ لأجلي ههنا, إنّ حَظِيَّ اليوم شحيح. على أيٍّ فهو حظٌّ تنزّلَ بِقَدَر, جِلْدٌ على عظم, واللحمُ قيراط!" ولمّا رأى الذرّ "الضّر" يقتحم الفم ويدخل ويخرج عبر المنخرينِ كاد يحرد (يزهد) تلك اللقطة التافهة. "أنا لا أطيق الأكل المُلَوّث, ولا سيما الجاف الحاف, ولكنّ أمعائي تُصَوِّتُ تَوَسُلَاً". واستسلم المرعفين. وجرّ الجسم الخفيف لطرفِ ثَمَدٍ ضحْضاح (بِرْكةٌ ضحلة) لغسله من الذّر وتلْيننِه بالماء. ثم أوى لشجيرةٍ صغيرة يستظلّ تحتها حتّى يتخلّل الماء جِلْدَ الميْتَةِ ويُرَطِّبَه. وأخذ غفوة. وبدأ الشيخ الذي أُغْمي عليه عطشاَ يفيق قليلا قليلا وارتشف قطراتٍ أنعشته فانقشعَ الخَوَرُ واسْتُرِدَّتِ القُوَّة. حاول الشيخ النهوضَ فساخت رجلاه في الطين واستنجد بيديه فانغرستا أيضا, ولم تبق إلا رأس تماثل ثمرة من جوز الهند طرحتها مؤخرة فيلٍ في حقلِ أرز. واستعان الشيخ بجذور نبتة "السِّتَّيْب, وهي نبتة من فصيلة البطاطا لا تنمو إلا في الماء , لذيذٌ طعمها, وتُذْهِب الجوع. وقد اهتمت بها الصين فزرعتها وعلّبتها وصدرتها. ونرجع لمحنة الشيخ. تمسّك بعرق السّتيب الغليظ ودفع بجسده قويا إلى الأعلى والأمام في آنٍ, وما إن علا إلا والتقت نظراته بنظرات المرعفين الراقد تحت الشجرة. هُلِع الشيخ فصرخ ونظر في السماء فشتم وهذر ولوّثَ, واشتدّ استمساكُه بالعِرْقِ غوْصاً للوراء. إنه يتجه الآن إلى أعمق منطقة في التُّرْدّة (مورد الماء). حيث اندسّ تحت كوم من الأعشاب الطافية, وهنالك كرَسَ , أنفه يسيل ولا يضايقه انكماشُ الآلة .سَبْحَلَ وحمْدَلَ سِرّاً وغاص. ودخل المرعفين في حيْصَباصَ.
وشرَعَ أبو حوَّا (كُنْية المرعفين) يلْعن وينْعَت:
"ودّ ابْنادِمْ عَفِن, ما بِنْدَفِنْ, ودابنادم صعبْ, ودابنادم كعَبْ, ودابنادِم ممسوخ, يَلْدُوه بأربعة ويكبر بإتْنين, شِنْ لَمَّ الطيرْ على الباقير؟! يتْشَعْلَقْ في الشَدَر, ويغْتِسْ في البَحَر, يدُق الحُراب ويطُق الهشاب, ودابنادم خاتي, أبو روحين بِقوم بعاتي, مقْلَبني وجرى, ودابنادم خرا (وكان أبوحوّة اشتم رائحةَ عصيدٍ طافٍ في البِرْكَة). كان لاقيتو اهجموا , لا ترحمو, بِسْراعْ بِسراعْ كَجِّمو, أحِّيْ أحَّيْ , يالتْنِي كَليتو حيْ, أُكْلو نَيْ أُكلو حيْ".
احترقت أحشاء المرعفينَ "حُرْقَةً" مُلهِمة انتشر خبرها في الحضر وفي البوادي وسمعت أصداءُ حكمتِه في كلَّ وادٍ.: في تلودي.والليري وكاكا التجارية, وكان جيرتنا في الجبال يعتقدون أن نهاية اليابسة هناك في ما وراء الجبال وأن كاكا لا أفقَ بعدها إلا البحر الذي تبترد فيه الشمس!
وانسللتُ من حوشنا الداخليِّ المهجور. لا أحد فيه! وحدّقتُ في موقع شجرة "الشاو". "لا بد أن جديَّ الاكبر (الفكي) كان يجلس هنا, هذا مكان الفروة وهنا كان يضع الركوة ويكسر صيامه المستديم. سمعت أنه يصل اربعة أشهرٍ صياما ويزيد كل اثنين وكل خميس. وهذان شهران مُتَفَرِّقان. و حظّه من الطعام "سَنْسَنَهْ, واحدة رقاقة كسرة" ربعة الجسم نحيل, أسمر البشرة, سُمْرةً يُجًلِّهيا بقيةُ صفارٍ اقتلعتِ السنونُ معظمه (ولا مخلوقَ يموتُ بلونهِ إلا دجاحةُ الوادي). لا يجالسه أحدُ في هذا المكان, ولا يتجرأ. إلا تلك السمراء التي ما أن تقدم نحوه إلا وتصنّع الابتسام وصدّقَ ما جاءت به من خبرٍ أو طلبت من عمل. لمْ تعُدْ أمَةً, إنها أمُّ والده الذي به يفاخِر, أمّ ابنِه الأسْود الذي سارت الركبان بمآثِره وتغنّت بها حرائِرُ البَدْوِ غير مبالياتٍ, فما أكثر السود في البلد, ولكنه كان المقصود (أزرق صُلّ الكراكِرْ *** باكِرْ مِنْ ريدَهْ مانِي مِنّاكِر , لا يُنْكِرْنَ حُبَّه يومَ الحٍساب). هنا يجلِسُ نِصْفَ قرفصاءَ, إحدى ساقيه لا "تنْعَقِلُ تماماٌ ولا تتمدّدُ تماماً, وهو من أثرِ رصاصة هَكْسَ باشا في شيكان, شيكان التي شتّتِ "الفُقَرا" في أصقاعٍ ما كان لَيرتادُها إلا صعاليكُ المغامرين. تورطوا في ثورة حسبوها أول الأمر بيضاء خالصةً, ثم بدا لهم أنها سوف تحْمًرُّ, ولن تَبْيَضّ إلا للمأمونِ جانبُهم. فتَنَصَّلوا. وأنكفؤوا على مصاحفهم, وتعلّموا أشياء جديدة. تعلموا انتظار المطر وحمل الفؤوس, ودوّروا حديد الحراب إلي مساحٍ (حشّاشات) والدروع الصدِئة قطّعوها بالأوقيّة للوزن على موازينَ أكُفّها اتُّخِذَتْ من القَرَع. ولا جُروفَ ولا سواقٍ ولا بناتِ أعمام. وعوّضتهنّ السمراوات عِوضاً كان أحسن. باعوا الأحصنة, تلك الدبابات العربية كان ثمن إحداهن يكفي لأربع رقابٍ يَدْخُلَنَّ بالدُّخولُ بهن إلى دور المُخْلَصين, وهكذا ثَنّى الفقرا (أضعف القوم) وثلَّثوا وربّعوا,وثقُلت موازينُ دنياهم: ازدادوا عِزّاً ونفراٌ, .
وتطلب أمُّ الأزرق من الشيخ أن يكتب "بَخْرَةً" (حرزا يكتب في ورقة ويُحرق ويستْشًق دخانُه ويُبَخَّرُ به) ويمتعض الشيخ فتُثْنيَه عنِ الرّفضَ نظرة من عينين حمراويْن (كنايةُ عن الشِّدَّة), فتدرك ما يدور في خلده وتطمئنه بأن النساء تُبْنَ من أنْ يأتيّنَّه ببياض (أجر الكتابة) لأنهن يعلمن أنه لا يَتَّجِرُ بِآيات الله ولكنه يقبل الهدية. والهدية تُقبل إذا كانت لبنا أو "غُباشة",( لبن حامض مخلوط بالماء.). والاحتراز مما يمكن تخزينه فيختلط بالمال اللازم لإخراج الزكاة (النصاب) . صاروا يًزَكون وهم من وفدوا بأكُفٍّ ملساء.
يرشُف الشيخ من اللبن ثم يتوضأ بماءٍ قليلٍ مكتفيا بغسلة واحدة لا تُجْزِىء إلا في هذه البلاد الظمئة حيث يُشترى إبريق الماء بعشرين ريالا لغسل جنازةٍ "محَّنَتِ" الناس, فهبوط الموت صيفاً مِحنة لقوم يكنزون البطيخ لأشهر حذر الهلاك عطشا. ويُسرع في الخروج من باب الديوان لإدراك العِشاء في المسجد. ويتبعه شيخان شابان, ابنه عباس و ابن اخته السارة مُبايِعة المهديِّ عنِ النساء في البقعة, السّارة بت أحمد ود مصطفى. وكان الدباغ قد فرغ لتوّه من خطّ مصحفٍ سيصير في يد أحد الصحاب. هذا بُعيْد استذكار الشيخين لأحد المتون وشرحه, وكانا يتباريان بإتيان شواهد الألفاظ والمعاني مما يتعشقان من الشعر الجزل. موسوعية لم تتوفر للفقيه نفسه3.
أمأ أبنه الاكبر فلم يكن موجودا معهم, لا بُدّ أنه صلّى المغرب مع الشيخ التجاني ود جسب
4 – وسكن جزء من هؤلاء النفر في أنحاء من السودان متفرقة. فبعضهم في ود مدني والبعض الآخر استوطن كوستي, أما زينب بت حسن(نوسة) فقد ارتحلت مع زوجها حاج أحمد وهو من الغبّاشة (آل الأغبش, مِكْرِنْجَه) وولدت له أبناء وبنات استوطنوا بورة السودان وأبرزهم أولاد الرّيح أبو الحسن وهو رجلٌ ثريٌّ مضياف يفتح أبواب بيته لعابري السبيل إلى جدّة وللطلاب العلم ممن لا تستوعبهم داخليات المدارس. والحياة ذكرى. "يا ولدي الحياة ذكرى" قالها الحاج حسنين لابنه ربيع ذلك التربوي المناضل الذي اعتقلته مايو في تهمة "مفبركة" عقابها الإعدام. ولمْ يُبْدِ العم حسنين خوَرا أو ضعفا, ولا غرابة فالرجل كان ممن عركته مناهضة الاستعمار في القلعة أتْبَرَه (عطبرة).
والتقوا في المسجد, كلهم الشيخ والأبناء, النور وعوض الكريم وعباس وعبدالماجد وصهرهم حسن ودّ الصويِّم وآخرون. وعقب الصلاة أومأ الفقيه لكبير أبنائه بللحاق به في فناء المسجد, فالتقاه على جانب من شجرة الحراز قُرب المزْيَرة. دنا الولد من أبيه . انحنى وقبّله في ظاهر اليد, وجلسا على بِرْشِ أبيض. الابن ضخم فاحم اللون , بدانته لا تكاد لا تبين لعِظَم السواعد وانتشار المنكبين (ولعله من أثر السِنْدانِ والمطرقة, فهؤلاء لا يكتفون بصياغة الحلي الذهبية والفضية, ينظفون ويزرعون ويحصدون ويُحَمّلون الُحُمُر الغِلال, ويطالعون, دعك عن القيام والصيام, حتى صعلوكهم لا ينام لأنه يُدْمِنُ تَشْقيقَ الليلِ مُتَعاً). ولولا أن الحضور يعرفونهم لاستغربوا من تواضع الأزرق مع هذا الشيخ الأغبر قليلِ اللحم. إنه يبدو ك"سِوْسِيو" فقست بيضته قبل قليل و اتخذ له عمامة جّدِّ قصيرة عسى تلائم رأسه الكبير وجبهته البارزة.(تندة تصر على ملاحقة أحفاد الأحفاد).
ويسأله الشيخ عما صار إليه أمر بناء المسجد بالمواد الثابتة, فيجيب بأن هذا الموضوع سيناقشه جماعة مع المأمور المصري, وتضم المجموعة رجالا كناظر الخط والشيخ كرسي وجديد والعمدة أبورنات وسرَ التجار حسين شلبي. والعركيين (عيال حمدالنيل). ومن السعوديين ناس الشيخ البابطين. وموسى الحِدِرْبي ,اولاد التاي .. وتطول القائمة, حتى النصارى أرادوا التبرّع ومن كِبارِهِم شكري عرقتنجي وفاضل نادر وأولاد سايِس وناس دَوْلَتْلِي وغيرهم. لا بد أن الشيخ وافق ابنه الرأي بأن الخواجات يستحقون الشكر ولكن "خيرٌ لهم ولنا أن يحولوا تبرعاتهم لصالح النادي الذي كانوا من أوائل المتحمسين لإنشائه", و(خبّر بذلك القاضي الشيخ على عبدالرحمن " الضرير" والأمير محمد أحمد صلاح التعيشي).. ثمّ تحدثا في أمور عائلية خاصة, وينبيء عن عمق الخصوصية .اقترب الولد من أبيه حتى تكاد جبهتاهما تتلامسا ويزداد الهمس. وقبل أن يفترقا يذكر الشيخ بأن المونة (المؤونة) كادت تنفذ. رفع الشيخ الغطاء الخشبي من تحت السجادة ونزل في الحفرة "المُبَلَّطة" ذات الدرجتين فلم يلق إلا جوّالين من الذرة و الدُّخن وهذه لا تكفي لأكثر من أسبوع واحد , على أحسن تقدير. البيوت الأربعة وطلاب العلم الذين خُصِّصَ لهم حوشٌ يلاصق المسيد, والبهائم. ويطمئنه الابن بأن هذا الأمر مقضيٌّ بإذن الله, لا سيّما وأنه استلم بالأمس حوالة نقديّة من عمه عوض الكريم القرشي بالأبيض وهي عبارة عن مبلغ استتُلِف أيام السنين العجاف, ولم يكن أُعْطِيَ ليسترجع, ولكنه التراحم والمعروف. المبلغ المستَلم أضعاف أضعاف الهِبَة القديمة. "ولله الحمد سترنا مع الطلاب والمعسرين من الجيرة الأحباب, وبخاصة أولئك الصغار الذين أوصىانا بهم أبوهم خيرا." (خرج أبو الأيتام ناحية الصعيد (الجنوب) لاستجلاب الريش والعاج ولم يُرَ لِحوْلين, وصُليَ عليه غياباً)."حال الدنيا".
أما الأمر الآخر فكان السؤالُ عن أمر الخواجة كَبَدِينو. كان كبيدينو الإغريقي أكمل بناء مسجد أبوزبد الذي شيدّوه بالمواد المحليّة قبل ارتحالهم للنهود. لا بُدّ أنه سيُبْدِع في بناء مسجد النهود وهو الأكبر مساحةً. إلا أن الشيخ كان يخشى أن "يتشيطن" النصرانيُّ عليهم ويتلاعب في تصميم المئذنة. "لا بد أن هذه المئذنة صمّمها مهندسٌ قليلُ الحياء" كما علّق أحد زوار المدينة المُهِمِّين في ما بعد. ولا يُعرف لماذا يزورها بعضُ طلاب العمارة الأوروبيين! يقولون أن طراز المعماري لهذا المسجد ذو خصوصية. ولا خبرة في المعمار لنا. وكلُّ ما نعرفه أن كبدينو قد صدق لما "تَنَبًّرَ" وصرّح بأنه بنى هذا المسجد ليعيش خمسين عاما, وبعد خمسين عاما بدأ البنيان في التصدّع, ولكن المئذنة قليلة الحياء ما زالت واقفة.
قلت أنني لا أذكر أن رأيت أحدا في بيت النهود, كان كمصيف الجِنّ غفّلنا أهلَه ونزلنا فيه خريفاً, لا يرفرف فيه إلا بعض عصافير وجِلَة, فالخفافيش تتدلى فيه من أغصان اللبخ ومن أعمدة سُقُفِ الغُرَفِ المهجورة, تتراص جنباً إلى جنبا كالجُند المذعورة اكتظ بها خندق تعفّنتْ فيه بقيّة أشلاء إثر غاراتٍ ليليةٍ مُتتالية. تتراص تلك الوطاويط الضخمة كجِرْبانِ الجِداءِ طُلِيَتْ بقطران الحنظل المسموم. لا شكّ أن قَلَح أسنانها الصفراء يورثُ السّعَر, كما يُشاع. وأعوذ بالهرب من رائحة تُطبِقُ على الرئتين طارِدة, لا تُطاق. إنها أشّدُّ من رائحة الصمغ عتّقتها الظرابين بالبولِ تكراراً تُرَسِّم حدود نفوذها. ثمّ أتخلّص هَرَباً, ولكن تبعتني نوبةٌ من الربو تخِذتُ من جسدي موْطِناً مستديما.
ولا أذكر أن أبي تركني لوحدي في ذلك الحوش, ربمّا كان يتعمد منحِيَ فرصا للتسلّل بعيدا عنه. فهل كلُّ ما وصفتُ كان أحلاما؟!. لا. تلك المشاهد حقيقيّة. فمن أين جاءت ؟ من فترة لاحقة؟ على أيٍّ سأزور النهود ثانيَةً, بعد عامٍ تقريبا, في 1950. يجب التزام الحذر, فذكريات الأطفال كلعبة الكراسي, تقعد في كلّ كرسيٍّ منها, ولكنك لن تذكر الترتيب فقِطَعُ الزمن, تتبادل المواقع. ويجهد الطفل في النسج وفي إعادة النسج, ولا يَفْتُرُ أو يَمَلُّ. ألِهذا قالوا "الطفلُ فنانٌ بطبعه"؟ ربما. فما الفنُّ في الأصل إلا كلَلُ النسجِ المُحْكَمِ من شتيتِ الأخلاط, والطفلُ أعلم.
وكنا نخرج من باب الديوان وفي الجهة المقابلة من الشارع تسكن أصغر عماتي (نفيسة) وزوجها عوض حامد سلمان. كنت ألعب مع بنتها آمال وابنها فيصل, وكلاهما يصغراني سِنّاً. لا شكّ انني كنت فرحا جدا. فلا إخوة لي ولا أقرباء في مثل عمري أو حتى أصغر مني. لا أحد. وهذه من وحشات الطفولة القاسية, تُنْضِجُك فيه مخالطة الكبار قبل موعدك, ولكنك تختزن الرغبة في اللعب والويل للحِلَّة لمّا ينفجِرُ هذا المخزون في ضُحى سنوات الشباب. ولا أحد يجلب لي السرور في ذلك البيت مثل السُرّة بت حامد حماة عمّتي وعمتها "من بعيد"إني لا أمًلُّها وأكاد أسألها تستكثر من ابتسامتها كلما دخلت الباب. هيفاء رهيفة كالريشة, أخالها عصفورة تطير للسوق لتلقط لي شيئا لذيدا وتعود حفِيَّةً باشَّةً تخفي يديها وراء ظهرها وعندما تدنو مني تبديهما وتبسطهما مليئتينِ نِعَماً, فول وهجليح ونبق وكِرْكِر, و"يا سلاااام".
ونرجع لأبوزبد. 52 ميلا لا غير. ولكنها عصيّة حتى على الكومر. وعصيٌّ عليًّ احتمال رائحة البنزيم(ن), فالعربة متوقفة تدقّ عجلاتها في مكانٍ واحد. ولكن الشجر يسير بجانبيها حثيثا. شجر الدروت (الصباغ) والهشاب والخشخاج, كله أعرفه ولكن الشذى هاهنا مختلف. عِطرُ مُرَكّز توَدُّ أن تملاْ منه رئتيك فيتطفلُ عليكم البنزين لإفساد هذه الفرصة التاريخية, فرصة "التّنَشُّق" اللذيذ.
وفي الظهيرة, عند اشتداد الحرِّ تقلّ الأشجار وتبيَضّ الرمال على جانبيٍّ الطريق, ينحسرُ العُشب ومن بعيد تلوح المئذنة الشمرور. ويبدأ الرُّكاب في لفّ عمائمهم التي كانت مُسترْخِيةً على أكتافهم طوال الرحلة.
واقتربنا من طرف الحلّة الغربي وكان بيتنا يقع في هذا الجزء من المدينةِ القرية جنوبيِّ المدرسة.
وقبل أن يتوقف الكومر ومن على بعد 300 مترا – تقريباً – ظهر شبح يندفع نحو السيارة بقوّة, واقتربت الفتاة رائعة الجمال عالية اللياقة. خالتي السرة , أسرعت لتتلقفني وتحتضنني. لم تك قد لبست الثوب بعد. فقط تغطي رأسها بطرحة خفيفة. لا بد أنها صغيرة لم تتزوج بعد ولا تفكر فيه. كيف علمت بمقدمنا, لا بد أن شخير اللوري سبق وصوله بزمن كافٍ للحاق الخالة بنا في ما وراء "الجباريك". قف عندك: لا بد أن هذه الرحلة كانت قبل العام , 1948وبسنةً كاملة, على أقل تقدير. فخالتي السرة وضعت وليدها الأول والأخير في 13/9/ . 1948 وهي الآن مجرد يافعة لم تحتجب بعد. لعلي كنت في الثالثة من العمر. أكاد لا أصدق نفسي. إلى أيٍّ عُمْر تمتد أبعد الذكريات؟ أفكر الآن في صديقتي الطاهرة العفيفة ذات الذهن الوقّاد. حدثتني ربيعة بأنها لا زالت تذكر يوم مولدها وكيف وضعتها القابلة في لفافة خضراء. يا للهول. أأكذبها؟ لا مجال. هذه البنت لا أحد يعهدها تكذب أو تُحَلَّي الكلام. وراجعت الكتب فوجدت لها شبيهات وأشباه. ولا شمارات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.