بل ريتشارد صن والحديث المعسول مع سمك القرش (4) مسرحية بكاء ليندا زوجة الصحفي المعتقل أمام الرئيس البشير خالد موسى دفع الله ذكرنا في المقال السابق أن بل ريتشارد صن أمر كابتن الطائرة بالعودة والهبوط مجددا في مطار نيومكسيكو لأخذ جواز سفره بعد أن أقلعت الطائرة واستقرت في مسارها الجوي إلى السودان. وكان صن يقدر صعوبة الدخول إلى السودان وعلى متن طائرة خاصة لمقابلة رئيس الجمهورية لإطلاق سراح مواطنه الصحفي سالوبيك دون جوازه الأمريكي وسمة الدخول الرسمية للبلاد. قبل أن يقلع بطائرته إلى السودان اصدر بل ريتشارد صن تصريحا صحفيا متفائلا قرظ فيه سالوبيك باعتباره صحفيا نزيها وموهوبا مؤكدا أنه بريء من تهمة التجسس. صحبته في الطائرة السيدة ليندا زوجة سالوبيك وآن ماري ليبنسكي المحررة في صحيفة شيكاغو تربيون.قال إن الحكومة السودانية قد لا تشاطره القناعة ببراءة سالوبيك لأنه دخل السودان وهو يحمل جوازي سفر أمريكيين وكذلك خارطة أقمار صناعية مفصلة لمناطق الحرب والقتال في دارفور. وقال صن شارحا ومدافعا: إن حمل جوازين يعتبر عاديا في عرف الصحفيين لأنه يجنبهما المشاكل في التنقل والترحال وقد برزت تلك الظاهرة أثناء سياسة الفصل العنصري للدخول والخروج من جنوب أفريقيا آنذاك، وبرر حمل خارطة الأقمار الصناعية بأنها تجنب الصحفي مناطق الحرب والقتال. إضافة لهذه المتاعب اعتقل سالوبيك وفي معيته مترجمه الخاص سليمان ابكر وسائقه إدريس عبد الرحمن وكلاهما من مواطني تشاد. وقال صن إن الحقيقة بشأن مترجمه أنه انتحل اسم سليمان أبكر كما انتحل الجنسية التشادية لأنه في الأصل سوداني الجنسية واسمه الأصل هو داؤود هاري وقد سبق وأن عبر الحدود إلى السودان ست مرات مترجما لصحفيين يكنون العداء للحكومة السودانية. المشكلة الثانية التي عززت شكوك الحكومة تجاه مهمة سالوبيك في دارفور هو استخدامه لسيارة بيك آب ماركة تويوتا وهي شبيهة بما يستعمله المتمردون في الهجوم على القوات الحكومية. التفت بل ريتشارد صن والطائرة تقترب من الأجواء السودانية إلى ليندا زوجة الصحفي المعتقل سالوبيك قائلا: عندما نلتقي بالرئيس البشير أريد أن أقابله وحدي. ولكن ربما أطلب منك أن تنضمي للاجتماع لاحقا. قالت ليندا حسب روايته مستغربة: حسنا سأفعل ذلك. ولكن كان بل ريتشارد يرمي إلى شيء آخر. قال لها مواصلا حديثه: أريدك أن تلتمسي من الرئيس البشير أن يطلق سراح زوجك لكن أريد أن تطلبي ذلك بشيء من الانفعال والعاطفة حتى يدرك مدى حبك لزوجك. وقال لها:لا بأس إذا ذرفت بعض الدموع أمام الرئيس البشير.قالت له ليندا: هل تريدني أن أبكي؟ فقال لها يجب أن يبكي أحدنا أمام الرئيس البشير إما أنا أو أنت. وإذا بكيت أنا فسأهدم كل شيء. قالت ليندا محتجة: ولكنني يا سيد ريتشارد لست شخصا عاطفيا. قال لها: حاولي أن تكوني عاطفية ولو لمرة واحدة أمام الرئيس البشير.قالت: حسنا سأفعل. وهنا تدخلت آن ماري المحررة في شيكاغو تربيون وقالت إنها مستعدة أن تبكي أمام الرئيس البشير أن كان ذلك سيساعد في إطلاق سراح سالوبيك. فقال له صن: لا..لا أريدك أن تبكي.. فقط أريد زوجته ليندا أن تبكي أمام الرئيس. ما إن هبطت الطائرة في مطار الخرطوم ليلا حتى وجدوا السفير الأمريكي ديفيد هيوم في استقبالهم بالمطار.قال هيوم الذي سبق وأن عمل مع ريتشارد في الأممالمتحدة بنيويورك: رغم أن الوقت أصبح متأخرا إلا أن الرئيس البشير يرغب في مقابلتنا. ورغم التعب الذي أحس به الجميع إلا أن بل ريتشارد صن قرر أن ينتهز السانحة ويضرب على الحديد وهو ساخن. ورتل السيارات الدبلوماسية يقترب من بيت الضيافة قال صن للسفير هيوم وهو ممتلئ بالتفاؤل لسرعة المقابلة مع الرئيس البشير "يبدو أننا لن نحتاج إلى المبيت في الفندق هذه الليلة". كان هيوم متشككا بعض الشيء. عندما التقى بل ريتشارد صن بالرئيس البشير وجها لوجه لم يبدأ الاجتماع بقول: سيدي الرئيس، إن هذا الموضوع قد طبخ مبكرا واتفقنا عليه مع سفيرك بواشنطون وأنا هنا لأتسلم الصحفي سالوبيك"، ولكنه بدأ الاجتماع مع الرئيس قائلا:" السيد الرئيس أنني أقدر وأثمن صداقتنا المشتركة التي استمرت عشر سنوات". وقال صن في كتابه "إنني ذكرت الرئيس البشير بتصريحاتي الإيجابية عن الحكومة قبل عشر سنوات عندما تم إطلاق سراح الطيار الأمريكي جون إيرلي من معسكر كاربينو". حسب رواية صن فقد بدأ الرئيس البشير الاجتماع منتقدا سياسة الولاياتالمتحدة تجاه بلاده. قال صن للرئيس: سأحاول أن أكون عادلا تجاهكم. وما أقوم به هو فقط إستجابة لطلب الإدارة الأمريكية للقيام بهذه المهمة. قال له الرئيس البشير: "يوجد أعداء للسودان داخل الإدارة الأمريكية رغم إشارات الصداقة التي نبعثها لواشنطون". قال صن في رده على الرئيس: ولكنني لا أمثل الإدارة الأمريكية. فاجأه الرئيس البشير بالرد قائلا: "ولكنك يا مستر صن ستترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة". قال صن محاولا التخلص من تعليق الرئيس البشير: ألتمس منك أن تطلق سراح سالوبيك وسأبذل لك آيات الشكر والتقدير وسأعمل على محو الصورة السالبة عن السودان في الصحافة. في مداخلته قال له الرئيس: هذا مستحيل لأن الصحافة الغربية تعادي السودان دون سبب. وبدأ صن يعدد أسبابا أخرى لإقناع الرئيس البشير بأهمية إطلاق سراح مواطنه ولكن دون استجابة فعلية من البشير. هنا خامره الشك في أن يكون السفير الخضر هارون قد خدعه في واشنطون لأن الرئيس البشير لا يتحدث في ذات الاتجاه الذي تم الاتفاق عليه. ويبدو من حيثيات الحوار الذي وثقه بل ريتشارد صن في كتابه (الحديث المعسول مع أسماك القرش)، حسب روايته يكشف الرؤى المتباعدة بين الطرفين. حيث تجنب صن في حديثه مع الرئيس البشير وفي حضور سفير بلاده هيوم التطرق لموضوع ترشحه للرئاسة وهو ما تأسس عليه التفاهم لإطلاق سراح سالوبيك. ووعد صن حينها أنه سيكون عادلا في التعامل مع السودان عند تقلده منصبا رسميا في الإدارة الديمقراطية القادمة كما وعد أيضا بإطلاق تصريحات إيجابية عن السودان والرئيس عمر البشير. في هذه اللحظة قرر صن أن يرمي بكرته الرابح حسب رؤيته حيث أستأذن الرئيس لمقابلة زوجة الصحفي المعتقل ليندا. وعندما دخلت ليندا إلى غرفة الاجتماع وقدمت التماسا عاطفيا للرئيس لإطلاق سراح زوجها انخرطت في موجة من البكاء حسب تفاهمهما السابق ولكنه قال: كان بكاء ليندا أمام الرئيس البشير أقل من توقعاتي، كنت أريده بكاء أكثر حرارة. هنا بدأ الاجتماع يأخذ منحى آخر حسب رواية صن الذي التفت إلى الرئيس البشير قائلا: إذا أطلقت سراح الصحفي سالوبيك سأقوم بحملة صحفية إيجابية لصالح السودان. ولكن مع مواصلة اعتقاله فإن الصحافة ستكون أكثر انتقادا لك. ضحك الرئيس البشير مستخفا من هذا القول وهو يبدو أكثر ثقة. قال له صن محاولا طريقة أخرى: ولكن هذا الصحفي لم يكتب تقارير سالبة وسيئة عنك أو عن بلادك. هنا أمتعض الرئيس في وجهه قائلا: لا بل قد فعل. وهنا أسقط في يد بل ريتشار صن. وقال معلقا على هذا الموقف:"يبدو أنني أرتكبت خطأ كبيرا إذ كان علي أن أتحرى الحقيقة قبل أن ألقي بهذا السؤال في وجه الرئيس البشير". رغم هذا الخطأ من جانبه قال صن واصلت حديثي للرئيس محاولا إقناعه مشيرا إلا أنني لا يمكن أن أعود خاوي الوفاض، وماذا أقول للعالم والصحافة: هل أقول لهم أنني فشلت في إطلاق سراح سالوبيك؟. هنا قال له الرئيس البشير: إنني سأطلق سراح سالوبيك ولكن ليس لأي من الأسباب التي ذكرتها. ولكن سأطلق سراحه من أجلك أنت فقط كصديق ليس إلا. وإنني لا أستفيد شيئا البتة من إطلاق سراحه. قال صن لنفسه: إنني لا أتفق مع الرئيس البشير في وصفه من أجل صداقتنا. لكن ليس هذا هو المهم. علي أن أحقق الهدف وأخرج بسرعة من هذه البلاد. وقال للرئيس البشير متعجلا: ولكن أين هو؟. قال له الرئيس البشير: ليس هنا. إنه على بعد آلاف الأميال من الخرطوم، إنه معتقل في دارفور. وهنا كاد قلب ريتشار صن أن يقع بين يديه. لأنه في هذه الأميال التي تفصل بين الرئيس البشير في الخرطوم وسالوبيك في الفاشر قد تحدث فيها آلاف المفاجآت وتبرز آلاف العراقيل والمعوقات لإطلاق سراحه. (ونواصل).