عندما قرر الرئيس الأمريكي بل كلنتون تعيينه عام 1996 في منصب مندوب واشنطون الدائم في الأممالمتحدة، قال عن سيرته الذاتية أمام الصحفيين في البيت الأبيض أنه "عاد الأسبوع الماضي من السودان حيث جلس في قطية رئيس إحدى فصائل التمرد في أحراش السودان وتناول اللحم المشوي معه من أجل إطلاق سراح ثلاثة من الأسرى". كان كلنتون يشير إلى طائرة الصليب الأحمر التي نزلت عن طريق الخطأ في ونروك وهو معسكر كاربينو كوانين بعد توقيعه إتفاقية الخرطوم للسلام وكان يقودها طيار أمريكي وتحمل أسلحة صغيرة وخمسة جرحى من فصيل جون قرنق فتم أسرهم جميعا لمدة أربعين يوما. وجاء بيل ريتشارد صن وكان حينها عضوا في الكونغرس وفي معيته سفير السودان في واشنطون مهدي إبراهيم وتفاوضا مع كاربينو في أحراش الجنوب من أجل إطلاق سراح الطيار الأمريكي ومرافقيه. وعندما جاء إلى الخرطوم عقد مؤتمرا صحفيا في قاعة الصداقة وسأله عبد الدافع الخطيب وكان وقتها مديرا للإعلام الخارجي عن الثمن السياسي الذي سيقبضه السودان مقابل مساعدته في إطلاق سراح المواطن الأمريكي جون إيرلي ومرافقيه في طائرة الصليب الأحمر، فقال إنه جاء بصفته الشخصية وليس ممثلا للحكومة الأمريكية لذا فهو لن يعد بشيء. و ارتسمت خيبة الأمل في وجوه الجميع. كان بيل ريتشارد صن ذي الأصول المكسيكية والسحنة الداكنة قد تدرج في مسالك السياسة الأمريكية والحزب الديمقراطي وصار عضوا في الكونغرس ووزيرا للطاقة وحاكما لولاية نيومكسيكو ومندوبا دائما لواشنطون في الأممالمتحدة. وقصد والده أن يرسل والدته لتضع حملها في أمريكا بعد أن عبرت الحدود من المكسيك ليعطي طفله الجديد فرصة أفضل في الحياة ويحمل الجنسية الأمريكية بالميلاد وليس التجنس. ونشط بيل ريتشارد في التدخل لإطلاق سراح الأسري والتوسط لدى الحكومات في العراق والسودان وكوريا الشمالية وغيرها. وجاء إلى السودان مرتين لإطلاق سراح اثنين من مواطنيه أحدهما الطيار جون إيرلي الذي وقع في أسر كاربينو عندما كان يقود إحدى طائرات الصليب الأحمر عام 1996 والآخر الصحفي بول سالوبيك الذي تم اعتقاله في دارفور عام 2006 لدخوله البلاد دون تأشيرة وحامت حوله شبهة التجسس. كانت النصيحة التي قدمها له مكتب الصليب الأحمر في الخرطوم أن كاربينو يعاني من مشكلة التركيز وعدم الالتزام بموضوع التفاوض وهدف الزيارة. وقال بالفعل طفق كاربينو يحدثني عن وحشية العقوبات الأمريكية ضد السودان. ولكن في تقديري أن كاربينو الذي عيره بأن له إحدى عشر زوجة تحدث بعقل سياسي مفتوح في شأن العقوبات وتأثيرها على مشروع السلام الذي عرف باتفاقية الخرطوم للسلام واشترك في توقيعه مع الحكومة حينها كاربينو ورياك مشار وأروك طون ولام أكول. بدأ كاربينو التفاوض بطلب مبلغ 100 مليون دولار لإطلاق سراح الأسرى والطائرة. ولكن انتهى التفاوض باستخدام كل عناصر المكر والدهاء الأمريكي إلى إطلاق سراحهم مقابل 5 أطنان أرز، 4 سيارات جيب، 9 جهاز راديو ومسح صحي للأمراض المستوطنة في المعسكر. كان الفرق شاسعا بين ما طلبه كاربينو وما انتهت اليه الصفقة. استخدم بيل رتشاد صن الخطاب العاطفي في مفاوضاته مع كاربينو. عندما مسح بعينه المعسكر أدرك أن نوعا من المرض يفتك بالأطفال وعلم أن إبن كاربينو توفي قبل يومين من قدومه وأن ابنا ثانيا يحتضر الآن. طلب صن من كاربينو أن يزور ابنه في العيادة وعندما رآه أدرك أنه يحتضر. وعندما عاد إلى التفاوض معه في القطية قال له مستخدما الخطاب العاطفي. يمكنني أن أوفر لك المبلغ المطلوب للفدية 100 مليون دولار، لكن لن يفيدك في شيء لأنك تحتاج إلى المعونات وليس المال. وقال له: أنت تمتلك القوة ولكن حاجتك أشد إلى مساعدات إنسانية وطبية عاجلة لإنقاذ هؤلاء الضحايا من المرض. وأضاف يمكننا أن نجري مسحا للأمراض ونوفر العلاج وأن نقدم لك ماءً نقيا للشرب حتى تخف من وطأة الأمراض في المعسكر. وبعد أن تم ذبح النعجة التي كانت تحوم حول القطية وتناول الجميع وجبة الغداء، وافق كاربينو على هذا العرض فأخذ بل ريتشارد صن مواطنه وأقلع بطائرته إلى جنيف حيث انتظره مؤتمر صحفي حاشد، حكي فيه بطولته في السودان. أصدر بيل ريتشارد صن كتابا ضمنه إنجازاته وقصصه في مجال التفاوض لإطلاق سراح الأسرى في معظم بقاع النزاعات تحت عنوان "الحديث المعسول مع أسماك القرش" وخصص فيه فصلا عن مغامرته الثانية في السودان لإطلاق سراح الصحفي الأمريكي بول سالوبيك المعتقل في دارفور. وقد كنت شاهدا وطرفا أثناء المفاوضات الأولى مع السفير الخضر هارون القائم بالأعمال حينها في واشنطون عندما التمس بل ريتشارد صن مقابلة الرئيس البشير لإطلاق سراح مواطنه. وقال صن إن مغامرته الثانية في السودان علمته درسا بليغا في التفاوض وهو أن المفاوض الحاذق يجب أن يضع اعتبارا خاصا للتوقيت والزمن. وعليه أن يغادر فورا مسرح الحدث بالسرعة الفائقة عقب تحقيق هدفه وحصوله على مبتغاه. وقال إنه في السودان فضل الإقلاع بطائرته للولايات المتحدة بدلا من الدخول إلى قاعة المؤتمرات لمخاطبة الإعلام. لا يمثل السودان في ذاكرة بيل ريشتارد صن وعقله السياسي سوى بقعة موبوءة بالعنف والصراعات، وبعد عشر سنوات من حادثة تدخله الأولى مع كاربينو كوانين لإطلاق سراح الطيار الأمريكي جاء إلى السودان في عام 2006 للتدخل مرة أخرى والتفاوض لإطلاق سراح بول سالوبيك الصحفي الأمريكي الذي كان يبلغ حينها من العمر أربعة وأربعين عاما، ويعمل في صحيفة شيكاغو تربيون وحصل على جائزة بولتزر لتقريره الصحفي عن الجينوم البشري، وحصل على جائزة بولترز مرة أخرى لتغطيته الحرب في الكونغو الديمقراطية. وقد بدأ سالوبيك تاريخه الصحفي بطريقة غريبة إذ تعطلت دراجته النارية في مكيسكو سيتي وأضطر أن يعمل مراسلا لصحيفة محلية لتغطية نشاطات الشرطة مقابل إصلاح دراجته النارية. بعد حصوله على جاتزتي بولترز غادر صحيفة شيكاغو تربيون وعمل مراسلا حرا لمجلة (ناشيونال جيوغرافيك) في إفريقيا. عندما حاول عبور الحدود المشتركة بدراجته من تشاد إلى السودان تم القبض عليه بواسطة مجموعة عسكرية صغيرة كانت تتصدى لهجمات التمرد في دارفور. و عندما خاف على حياته طلب منهم على الفور تسليمه إلى الجيش السوداني لأن أفراده أكثر تفهما لوضعه وسيتعاملون معه وفقا للقانون. قال صن إن زوجة سالوبيك ليندا طلبت منه التدخل لإطلاق سراح زوجها فوافق على المغامرة من جديد في السودان بعد عشر سنوات من تفاوضه الناجح مع كاربينو كوانين.