:: كاركاتيرست ذكي يُجسد واقع حال المال العام.. امرأة تصطحب طفلها المخنوق وتقف أمام الطبيب وتصرخ: (ألحقني يا دكتور، الشافع بلع جنيه، وخايفاهو يموت)، فيطمئنها الطبيب بمنتهى الهدوء: (ما تخافي يا حاجة، في ناس في البلد دي بلعت مليارات وما جاتم الحبة).. و(ما جاتم الحبة)، إشارة ذكية لعجز الإرادة السياسية عن فعل شيء لمن يبلع المال العام بغير حق.. واليوم، لا يلتقي الصديق بصديقه - أو الجار بجاره أو الطالب بزميله - وإلا يكون ما يحدث للمال العام ثالثهما، أو هكذا صدى (الحس الشعبي).. واستنكار المجتمع لما يحدث لماله لحد تحويل الأحداث إلى أنس مجالس (وجه مشرق جداً)، إذ لا قيمة لمجتمع اللامبالاة والخمول والخوف و(أنا مالي)!!. :: وبالبرلمان، يتحدث رئيسه الدكتور الفاتح عز الدين عن حال المال العام بالنص القائل: (انحراف كبير ومعيب لأداء الدولة، والقوانين السارية لا تسعف بمواكبة التجاوزات بالمال العام، وأمهلنا لجنة التشريع شهراً للفراغ من تعديل القوانين المتعلقة بالمال العام، والاستعانة بالخبرات الفنية بوزارة العدل لوضع عقوبات رادعة)، هكذا حال المال العام.. ولكن، حال القانون ليس كما يصفه رئيس البرلمان، فالقانون الجنائي مواكب للتجاوز - والمتجاوز - لحد (الإعدام).. وقديماً عندما حكمت إحدى المحاكم على مدان بالإعدام ابتسم المحامي فغضب موكله المدان والمحكوم عليه بالإعدام، فبرر المحامي ابتسامته قائلاً: (والله لو ما أنا القاضي ده كان قطعك حتة حتة).. وبما أن بالقانون الساري نصاً يعاقب مختلس المال العام بالإعدام، فلسنا بحاجة إلى قانون أقسى من ذلك بحيث يعاقب المختلس بعد الإعدام بالقطع (حتة حتة)!!. :: واللجنة التي أمهلها البرلمان شهراً لتعديل القوانين المتعلقة بحماية المال العام، لن تأتي بما عجزت اللجان السابقة عن الإتيان به.. نعم لن تأتي بجديد، فما الذي أقسى من السجن والإعدام - الوارد ذكرهما في القانون الساري - لينتظر البرلمان والناس والبلد ثلاثين يوماً، وهي فترة صياغة عقوبة جديدة وقاسية بقلم تلك اللجنة؟.. فالأزمة ليست في القوانين، ولكن في الأجهزة المنوط بها تطبيق القوانين بالعدل والمساواة.. فالسجون تضج بالعامة والمحكوم عليهم بالسجن والغرامة في جرائم التزوير والاختلاس حسب نصوص القوانين السارية، فما الذي يحول بين هذه النصوص السارية و(غير العامة)؟.. والإجابة تشير بكل وضوح إلى أن الأزمة ليست في القوانين ولكن في (حماتها)!!. :: وزارة العدل - منذ زمن بعيد وإلى يومنا هذا - هي أكبر عائق أمام تحقيق العدالة في قضايا المال العام.. نعم، تخرج القضايا من دهاليز الأجهزة بضجيج الصحف وجهد المراجع العام، ثم تواصل سيرها بسلاسة إلى وزارة العدل ونياباتها ولجانها وتقف عندها، ثم تموت ب(التحلل والتلجين).. ومساحة الزاوية لن تسع الشواهد والنماذج (سابقة كانت أو حالية).. وكذلك لم يكن مدهشاً للناس عدم ترحاب وزارة العدل ونياباتها - وبعض مراكز القوى - بمفوضية مكافحة الفساد ذات السلطات (الواسعة والمطلقة)، فماتت المفوضية المركزية في ذات اللحظة التي كان فيها الخبراء بجامعة الخرطوم يُعدون قانوناً يمنح الجندي سلطة التحقيق والتحري - في قضايا المال العام - مع كل الدستوريين بلا استثناء وبلا (عائق حصانة).. وعندما يخرج وزير العدل السابق للناس قائلاً بالنص: (أنا أدافع عن أزهري ومحيي الدين حرصاً على المشروع الحضاري وحتى لا يتم تفكيك الإنقاذ)، فمن حق الناس أن تتساءل بشك وريبة: إذن ماذا كان يفعل لغير هؤلاء عندما كان وزيراً للعدل؟.. وعليه، ما لم يُولد جهاز مركزي لمكافحة الفساد بعيداً عن وزارة العدل، فعلى البرلمان صياغة قانون يُكسب الوزارة ولجانها ونيابتها شرعية (إعاقة العدالة).