عندما أغلقت شركة شيفرون الأمريكية آبار البترول في جنوب السودان في عهد الرئيس جعفر نميري في الثمانينات من القرن الماضي بحجة ان الظروف الأمنية في الجنوب لا تمكن الشركة من إنجاز عملها بالشكل المطلوب، وأن الظروف الأمنية تشكل خطراً على العاملين في الشركة ومعداتها، بل وفي زمن إن كان من حيث تنفيذ العمل أو في الانتظار من أجل ان تتحسن الظروف الأمنية. ولكن وضح بعد ذلك أن شركة شيفرون الأمريكية تعلقت بالأسباب الأمنية لتحقيق هدف آخر كان بعيدًا من أذهان وخيال أهل السودان من القادة والمختصين وأهل الاهتمام في ذلك الزمان واقتنعوا أن الأسباب الأمنية فعلاً هي وراء مغادرة شركة شيفرون للسودان ولم يدر بخلد أي واحد من أهل السودان ما كان يدور في أذهان الشركة الأمريكية ومن كان وراءها من أهل الإدارة الأمريكية بصفاتهم التنفيذية والتشريعية ومن ورائهم الشعب السوداني، وبسهولة جدًا مرت على أهل السودان أن مسألة الظروف الأمنية في الجنوب هي التي عجلت بمغادرة هذه الشركة وأفولها من أرض الأحراش في الجنوب ومغادرتها إلى أرض العم السام في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكما هو معروف فإن الإدارة الأمريكية كانت تريد ان تطمئن على الاحتياطيات النفطية في السودان وإلى مدى أن تكون احتياطيا داخل الأرض لتكون رصيداً لرفاهية الشعب الأمريكي إذا انخفض الإنتاج من دول الخليج أو حدثت ظروف سياسية أو تحولات دولية أو إقليمية في المنطقة التي تزخر بالنفط خاصة وأن هناك حرباً بدأت أو كادت تبدأ بين إيران والعراق خاصة بعد صعود آية الله الخميني إلى سدة الحكم في إيران عام «1979» والتي بدأت تشكل التوجهات نحو الحكم الإسلامي في إيران تهديداً للمصالح الأمريكية في المنطقة وخوفها من امتداد البحرية الإيرانية على العديد من الدول ذات الأهمية في المنطقة والتي تجاور إيران من عدة اتجاهات مثل دول الخليج وباكستان وأفغانستان ودول ما يعرف بآسيا الوسطى التي كانت تتمتع بأغلبية مسلمة رغم أنه تقع معظم تلك الدول تحت مظلة الاتحاد السوفيتي الذي يشكل القطبية الثانية في العالم والمنطقة أيضاً معروفة بأنها بحيرة «نفط» كل المناطق التي متوسطها البحر الأسود وهذا ما جعل الولاياتالمتحدة تفكر أن توجد في هذه المنطقة مستقبلاً وفي كل الخطط التي يشهدها العالم الآن. ولكن تبقى مسألة النفط السوداني هي محل نظر الإدارة الأمريكية حيث كانت تخطط أمريكا استخراج النفط في الفترة من 2016 وحتى عام 2020 وكما تتحسب الولاياتالمتحدة إلى التطورات الإقليمية والدولية من ناحية أنها تخدم أهدافها أو من الناحية الأخرى التي تشكل عائقاً لتحقيق أهدافها في أي منطقة في العالم. وبما أن التطور الذي حدث في السودان بقيام ثورة الإنقاذ الوطني في شهر يونيو 1989م وهو بالتأكيد موعد بعيد جداً من التاريخ الذي حددته الولاياتالمتحدة لاستخراج النفط السوداني في الفترة من 2016 2020م لرفاهية الشعب الأمريكي وليس لرفاهية الشعب السوداني ويمكن معالجة الأمر إذا استمر النظام الجديد أو تغير بحكم التجارب السياسية في دول العالم الثالث. والولاياتالمتحدة معروفة أنها تعمل بسياسة «النفس الطويل» ولا تستعجل النتائج وبالتالي تكون لها معالجة أو تطور لا يأتي في صالح خططها كما ذكرنا من قبل. وبالتأكيد أن الذي لم تتحسب له الولاياتالمتحدة هو أن يتجه السودان «شرقاً» ويذهب إلى الصين وماليزيا لاستخراج النفط السوداني بعيداً من الشركات الأمريكية والأوربية التي كانت يمكن أن تعيد الأمر من جديد إلى دائرة السيطرة «الغربية» على النفط السوداني ولكن كانت توجهات السودان «شرقية» من أجل الخروج من هذه الدائرة الغربية التي كانت أصلا مشغولة بتصاعد الهجمات على المصالح الأمريكية كما حدث الهجوم على سفارة أمريكا في دار السلام ونيروبي والهجوم الذي شنته أمريكا على السودان وأفغانستان كرد فعل على التطورات، وجاء الهجوم على برج التجارة في نيويورك ليدخل الولاياتالمتحدة في معركة جديدة مع الإرهاب، وانشغلت أمريكا بنفسها ووجد السودان الفرصة لينفذ مشروع «النفط» بعيداً من الضغوط الأمريكية. ولكن أمريكا لم تنس حلمها القديم بالسيطرة على النفط السوداني وبما أن الخطة الأمريكية تجاه النفط السوداني اصطدمت بالتطور الذي حدث في السودان ودخول الصين على الخط، ولكن أمريكا مارست ضغوطاً على بعض الشركات التي اضطرت لبيع أسهمها. فلهذا رأت أمريكا أن هذه الضغوط لا تمكنها من السيطرة على النفط السوداني ولابد من استثمار الظروف السياسية في السودان وتوظيفها لصالح الخطة الأمريكية بتوجيه النفط السوداني لرفاهية الشعب الأمريكي وليس لرفاهية الشعب السوداني. فجاءت الضغوط على السودان من أجل وقف «الحرب الأهلية» فكانت اتفاقية السلام التي نصت على مبدأ حق تقرير المصير لأهل الجنوب وكانت هذه النقطة التي بنت عليها أمريكا خطتها لاستعادة النفط السوداني لسيطرتها دون أن تدري القيادة في الإنقاذ الوطني بحقيقة هذا الأمر وغاب عليها عمق التفكير الطويل أو بعيد المدى كما غاب على قيادات «مايو» وشركة شيفرون أن تنسحب متعللة بالظروف الأمنية في الجنوب، ولم تدر حكومة «مايو» أن شيفرون أغلقت آبار البترول لتفتحتها في الوقت الذي تريد «2016 2020م» لمصلحة الشعب الأمريكي، وأيضاً غاب على حكومة «الإنقاذ» أن الهدف الأمريكي والتهافت الغربي على اتفاقية السلام وإقرار حق تقرير المصير لأهل الجنوب هو عودة السيطرة الأمريكية على النفط السوداني وعندما ينفصل الجنوب والذي توجد معظم الثروة النفطية فيه فإن السيطرة الأمريكية على النفط تكون أسهل في ظل وجود حكومة أو دولة جديدة بالجنوب وتصعب السيطرة في ظل وجود حكومة ذات توجهات إسلامية واستقلالية تسيطر على هذه الثروات. فلهذا اتجهت أمريكا إلى فصل الجنوب والسيطرة على الدولة الوليدة وعودة «حقول النفط» من جديد إلى واشنطن التي تركتها مجرد «مناطق» واليوم تجدها كاملة عمليات التشغيل. وبهذا العمل الطويل «طويل النفس» عادت حقول النفط السوداني إلى السيطرة الأمريكية من جديد خاصة وأن انفصال الجنوب أصبح مجرد مسألة وقت ليس إلا. ولكن تبقى السيطرة الأمريكية على النفط السوداني «ناقصة» حتى لو انفصل الجنوب وكما هو معروف فإن معظم النفط السوداني يوجد في أراضي «النوير» وليس في أرض «الدينكا» القبيلة التي تسيطر على الحكم في الجنوب وهي القبلية الأكثر عددًا من حيث السكان، ولكن تبقى بدون أهمية كبيرة للولايات المتحدة والتي عينها على «النفط» وبالتالي حتى تضمن الولاياتالمتحدة سلامة حقول النفط وآبار البترول فلابد أن تنظر إلى الأمر من زاوية مختلفة وكما أشرنا إلى أن الولاياتالمتحدة يمكن أن تعيد خططها إذا تسببت التغييرات الدولية والإقليمية دون تحقيق أهدافها. والأمر بالنسبة للجنوب واضح فإن مؤشر المصالح الأمريكية يتجه نحو «النوير» لحماية حقول وآبار النفط والاستفادة منها، وأن كثرة «الدينكا» لا تفيد فإن أمريكا أبادت «الهنود الحمر» وهم قلة وافدة من أوروبا القديمة، وأن أمريكا يمكن أن تحمي «الأقلية» أو «الأسر الصغيرة من أجل حماية مصالحها وبالتالي أن كثرة عددية الدينكا وسيطرتهم على الجنوب قد تنتهي ما دامت تلك الكثرة والسيطرة تتعارض مع المصالح الأمريكية. فالمؤشرات تقول إن القائد «سلفاكير» قد يواجه مصيرًا مجهولاً باعتبار أن دوره السياسي ينتهي بنهاية الاتفاقية وتقسيم السودان وانفصال الجنوب وبالتالي تبدأ مرحلة جديدة في جنوب السودان تتفق مع المصالح الأمريكية تقتضي إزاحة «سلفاكير» كما اقتضت المصلحة الامريكية مقتل «جون قرنق» بسبب توجهاته «الوحدوية» التي تصطدم بالمصالح الأمريكية في الجنوب، وبالتالي فإن وجود سلفاكير سيتعارض مع المصلحة الأمريكية والتي تضع عينها على أرض «النوير» والقائد رياك مشار وهو الذي يتفوق على سلفاكير من الناحية الأكاديمية والقدرات وإمكانات القائد. وقد يكون سلفاكير قد وضع يده على «الخطر» في حوار مع جريدة السوداني، حيث أشار إلى أن رياك مشار يقيم دولة داخل دولة، وهي إشارة إلى أن نفوذ رياك مشار أصبح قوياً داخل حكومة الجنوب التي يسيطر عليها «الدينكا». ومن خلال المؤشرات فإن نهاية سلفاكير على الطريقة الأمريكية أصبحت مجرد مسألة وقت والذي ينتهي دوره بفصل الجنوب لتبدأ مرحلة جديدة في جنوب السودان بعيداً عن سلفاكير. تذكرة هذا المقال نشر في الثاني من ديسمبر 2010م في صحيفة (الصحافة ) أي قبل انفصال الجنوب بمائتي يوم والآن تداعيات الأحداث في الجنوب تتجه إلى ما أشار إليه هذا المقال خاصة في الدور الأمريكي في الصراع الجنوبي بسبب النفط.