:: إيقاع توالد القضايا في بلادنا يكاد أن يتجاوز إيقاع متابعة الصحافة، وكثيراً ما تكون قضية اليوم في الخاطر حتى منتصف النهار، ثم نتفاجأ قبيل المغرب بقضية أخرى تفرض ذاتها بأهميتها، ولذلك نداعب مدير التحرير: (الليلة ماف طريقة لعمودين تلاتة؟).. وهكذا تقريباً حال كُتاب الصحافة مع كثافة قضايا البلد، أي صار الكاتب منا كالذي يدخل مزرعة دواجن ليختار منها (فرخة سمينة)، ولكن يعجز عن الاختيار من كثافة الدواجن.. وهذا بمثابة اعتذار لأحباب تأخرت عن عرض قضاياهم، ولهم علينا حق النشر قريباً بإذن الله، أكرر اعتذاري. :: والمهم؛ في خضم تلاطم أمواج قضايا المال العام، ظهرت ملامح أزمة في مكان آخر، ولم تجد النقاش، ونخشى أن تتفاقم هذه الأزمة لحد الكارثة، أي كما كل أزمات البلد التي يحولها التجاهل إلى كوارث. قبل أسبوع، أصدرت رئاسة الجمهورية توجيهاً بأيلولة المجلس الطبي ومجلس التخصصات الطبية ومجلس المهن الصحية، إلى وزارة الصحة، وهذا قوبل برفض بعض الأطباء ثم المجالس ذاتها، حسب تصريحات صحفية.. فالمجالس كانت تابعة لوزارة تنمية الموارد البشرية، فأضحت تابعة لوزارة الصحة. :: أولاً، المجلس الطبي.. جهاز رقابي منوط به مهام تنظيم ومراقبة ومحاسبة المرافق الصحية و(مهنة الطب).. وبكامل الاستقلالية تضمن الأجهزة الرقابية (سلامة الأداء).. نعم، في السواد الأعظم من دول العالم يتبع المجلس الطبي لوزارة الصحة.. ولكن الحقيقة التي لا مفرَّ منها، كانت ولا تزال وزارة الصحة في السودان إحدى (بؤر الصراع)، أي كثيراً ما تتغلب مراكز القوى على (السيستم).. وهي - أي وزارة الصحة - بوضعها الراهن غير مطمئنة بحيث تشرف على جهاز رقابي بحجم المجلس الطبي.. فالأفضل - لاستقلالية المجلس الطبي بالسودان - ليس التبعية لوزارتي الصحة والموارد البشرية، بل لمجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية.. مثل هذا الجهاز يكون أقوى حين يستمد سلطته الرقابية من أعلى جهة سيادية بالبلد، بريطانيا وفرنسا وإيرلندا نماذج. :: ثانياً، مجلس التخصصات الطبية.. مهامه هي تحسين مستوى الخدمات الطبية بالإشراف على تأهيل وتدريب الكوادر الطبية في كل التخصصات، وكذلك يضع أسس تقويم الشهادات التخصصية بمستوياتها العلمية والفنية بالتنسيق والاشتراك مع الجامعات.. نعم، مثل هذا المجلس - وبهذا التخصص - يجب أن يكون تابعاً لوزارة الصحة (الجهة المختصة بكل مهام المجلس)، ولا أدري بأي معيار كان يتبع لوزارة لا علاقة لها – من قريب أو من بعيد – بالتخصصات الطبية، وأعنى وزارة تنمية الموارد البشرية؟.. وفي كل الدول العربية، تتبع مجالس التخصصات الطبية لوزارات الصحة، فالوضع طبيعي.. ولكن في السودان، موطن الأوضاع غير الطبيعة، تم تأسيس وزارة تنمية الموارد البشرية من (حزم مجالس مهنية)، لا تمت إلى مهام الوزارة بأية صلة، ومنها هذا المجلس.. فالغاية كانت (تأسيس وزارة)، وليست (تأسيس مؤسسية). :: ثالثاً، مجلس المهن الصحية.. جهاز رقابي أيضاً، ومنوط به مهام تنظيم ومراقبة وتفتيش ومحاسبة (الكوادر الطبية المساعدة) مثل: التمريض والمعامل والمساعدين الطبيين وغيرهم.. وبما أنه جهاز رقابي، يجب أن يحظى بقدر كبير من الاستقلالية أيضاً، أي كما المجلس الطبي.. وعليه، أيلولة مجلس التخصصات الطبية إلى وزارة الصحة (قرار موفق)، ولكن أيلولة المجالس الرقابية إلى هذه الوزارة بحاجة إلى (إعادة نظر).. وكما قلت، فالاستقلالية التي تستمد سلطتها من أعلى سلطة سيادية هي التي تكسب الأجهزة الرقابية (قوتها).