د. عبدالعظيم ميرغني نبوءة نهرو لا زالت تتحقق الزمان: حوالي مثل هذا الوقت من عام 1955م. المكان: اندونيسيا. الحضور: وفود 29 دولة أفريقية وآسيوية -من بينها السودان- معظمها على وشك نيل استقلالها. المناسبة: رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو يلقي كلمته في اليوم الثاني لمؤتمر باندونق: "أيها السادة، أنتم تثيرون فزعي. نعم أنتم تثيرون فزعي، وإلى درجة الموت. إن كثيرين من أصدقائنا هنا يتحدثون عن الحرية والإستقلال. كثيرون، وخاصة رفاقنا في أفريقيا. إنني عَدَدتُ كلمة "الحرية و الاستقلال" في حديث ممثلي الحركة الشعبية في كينيا وروديسيا (زيمبابوي حالياً)، فإذا هي كثيرة، كثيرة جداً. المندوب المحترم من كينيا كررها تسع عشرة مرة، ومندوب روديسيا كان أكثر تواضعاً فقد كررها ست عشرة مرة فقط، وليس بين الذين سمعتهم أمس واليوم من لم يكررها عشر مرات على الأقل. أريد أن أسألكم: ماذا تعرفون عن "الحرية والاستقلال"؟ ماذا نعرف عن "الحرية والإستقلال"؟ إذا تصورنا أنها إعلان المستعمر القديم بأنه سوف يسحب حامياته من أراضينا، ثم يوقع معنا قصاصة ورق، فهذا هراء. ذلك سهل، وهم على استعداد لأن يفعلوه غداً. ولكن ماذا بعد؟ هل سألتم أنفسكم هذا السؤال؟! قلت لكم إنكم تثيرون فزعي، لأنكم لا ترون ما هو أبعد من مواقع أقدامكم. تشغلون أنفسكم باللحظة التي مضت وليس باللحظة القادمة. تطلبون الاستقلال؟ حسناً، وتطلبون الحرية؟ حسناً جدا. سوف يعطونكم ما تطلبون. لم يعد في ذلك شك، لأسباب كثيرة. أولها، أنه لم يعد في مقدورهم أن يسيطروا عليكم بقوة السلاح. وثانيها، أنهم لم يعودوا راغبين في السيطرة عليكم بقوة السلاح. فانتشار الأسلحة الصغيرة بعد الحرب العالمية الثانية جعلكم أقدر على المقاومة المسلحة. واختلاف أوضاع العالم جعلهم في غنى عن استعمال السلاح. إذن فإنهم سوف يتنازلون ويوقعون معكم قصاصات ورق تبين ذلك. حسناً، ثم ماذا بعد؟ سوف تتولون المسئولية، وسوف تجدون أنفسكم رؤساء لشعوبكم. لديكم قصور رئاسية، وحرس وسيارات رئاسية وربما طائرات، ليس هذا هو المهم! ولكن هل ستجدون لديكم سلطة رئاسات؟ لست متأكداً. سوف تجدون لأنفسكم سلطة على رعاياكم، ولكن لن تجدوا لأنفسكم سلطة على غيرهم. رعاياكم سوف يطلبون منكم (جوائز) الاستقلال، ومن حقهم أن يتوقعوا تحسناً في أحوالهم بعد الاستقلال: فهل لديكم ما تعطونه لهم؟ أشك كثيراً. لماذا؟ لأنكم جميعاً منهوبون، ومواردكم منهوبة فعلاً، أو هي مرتبطة بنظم دولية تواصل عملية نهبها. وإذا لم تكن لديكم سلطة غير سلطتكم على رعاياكم، وإذا كان هؤلاء سوف يطالبونكم بما سوف تكتشفون أنه غير موجود، فماذا ستفعلون؟ تغيرون اتجاه سلاحكم من أعدائكم القدامى إلى أعداء جدد سوف ترونهم داخل بلدانكم. بعضكم قد يتحمس ويعلن أمامنا بأن لديه موارد ولكنها مستغلة من آخرين ولصالحهم، وأنه ينوي استردادها من أيدي غاصبيها. حسناً، فعلها "مُصَدَّق" في إيران وأمم البترول، فماذا كانت النتيجة؟ وجد نفسه في طريق مسدود بالحصار، ثم وجد نفسه في السجن بالانقلاب المضاد. إن مستعمريكم السابقين رتبوا أنفسهم قبل أن يوافقوا على الاستقلال، وأقاموا أوضاعاً جديدة تستبدل أعلامهم القديمة بأعلامكم الجديدة. ولكن هل سيغير هذا من واقع الأمر شيئاً؟ سوف تجدون أنفسكم أمام مشاكل، وسوف يندفع بعضكم إلى أن يطلب من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي قروضاً. فهل سألتم أنفسكم من هؤلاء الذين يسيطرون على صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي؟ نفس جلاديكم السابقين، فأي وضع هذا الذي يستنجد فيه الضحية بالجاني. لن تكون هذه هي المشكلة الوحيدة التي تواجههكم. فحقوق الحرية التي ناضلنا من أجلها كأوطان، سوف تحدث أثرها داخل هذه الأوطان نفسها. بمعنى أن جماعات كثيرة وأقليات عرقية وعنصرية ودينية متعددة داخل أوطانكم سوف تطالب بحقوق في الداخل سكتت عليها لأنها اختارت ألا تكسر الوحدة الوطنية في ظروف المطالبة بالاستقلال. ولكنها بعد توقيع قصاصة الورق سوف تجد أن الفرصة ملائمة لتطالب بترتيبات خاصة، نوع من الحكم الذاتي، أو نوع من تحقيق الهوية الذاتية. ربما يكون هناك تشجيع من قوى السيطرة القديمة، فقد تعلمت بتجربتها أن تتعامل مع الأقليات من كل نوع. أهذا كل شئ؟ لا، لأنكم سوف تجدون أنفسكم بعد الاستقلال في مشاكل حدود مع جيرانكم. فخرائط معظم بلدانكم خرائط جديدة رسمها الإستعمار. في بعض مناطق أفريقيا تحددت الحدود بالنقطة التي وصلها رحالة من هذا البلد، أو شركة من ذلك البلد. ماذا ستفعلون؟ هل ستدخلون بعد الاستقلال في حروب مع جيرانكم؟ مع بعضكم؟ حسناً، سوف نجد أنفسنا في سباق تسلح مع هؤلاء الجيران. سمعت بعضكم يتحدث عن عضوية الأممالمتحدة، وكأنها ملكوت الله، تطلبون فتجابون! هل هذا صحيح؟ الأممالمتحدة بلا فاعلية. ربما يقول لي بعضكم إن دخول عدد كبير من الدول حديثة الاستقلال إليها سوف يحقنها بالفاعلية. أخشى أن العكس سيحدث. أستطيع أن أرى المستقبل أمامي بوضوح، حين يصبح عدد أعضاء الأممالمتحدة مائة وعشرين أو مائة وأربعين عضواً، حسناً فليكن عددهم كذلك، وليكن بينهم مائة دولة حديثة الإستقلال، فما هو أثر ذلك؟ أثره كارثة محققة. هل هي مسألة عدد أصوات. وماذا سيفعل عدد الأصوات بالأممالمتحدة. كيف يمكن ان تقبل الولاياتالمتحدة أن يتساوى صوتها مع صوت كوستاريكا، أو يقبل الاتحاد السوفيتي أن تصبح قيمة صوته هي نفس قيمة صوت أفغانستان. لن يقبلوا المساواة في عدد الأصوات، أو في قوة الأصوات. وبصراحة شديدة فإنني معهم، فالقوة الحقيقية في العالم لا يمكن أن تتحقق بعملية حسابية، تجمع أو تطرح فيها الأصوات. إنني لا أقصد أن أزرع الياس في نفوسكم، ولكنني أريدكم أن تستشعروا أن كلمة "الاستقلال" وكلمة "الحرية" ليستا تعبيرات "فرايحية"، وإنما أثقال ومسئولية، مسئولية مخيفة. كانت تلك مقتطفات من الدرس، عفواً الخطاب الذي ألقاه نهرو في مؤتمر باندونق. وكأنه كان يستشف الغيب ليصف ما جرى في بلداننا بعد استقلالها وما يحدث حالياً في جنوب السودان بعد ستين عاماً من مؤتمر باندونق.