د. عبدالعظيم ميرغني معارك بلا رايات حكى الوزير والأديب السعودي الراحل غازي القصيبي في كتابه "حياة في الإدارة" أنه في حوالي العام 1970 حينما كان استاذاً جامعياً صدر له ديوان شعر بعنوان "معركة بلا راية". حينها كتب أحدهم مقالاً صحفياً مثيراً، بلا توقيع، تحدث فيه عن الديوان كما لو كان نسخة جديدة من "رجوع الشيخ إلى صباه". ووجد بعض المتربصين في الديوان السلاح الفعال لمحاربة الرجل الذي أصبح، في نظرهم، رمزاً يجب أن يحارب ويحطم. فذهبت وفود عديدة للملك فيصل رحمه الله، تطالبه باتخاذ أقصى العقوبات ضد صاحب الديوان، فصله من الخدمة على أقل تقدير. طلب الملك فيصل من بعض مستشاريه قراءة الديوان ورفع تقرير إليه عنه، فجاءت إفادة مستشاره بأن الديوان لا يحتوي على أي شيء يختلف عما يضمه أي ديوان شعر عربي آخر. إلا أن الضجة لم تهدأ، واستمرت الوفود في مطالبتها بالعقوبة. فشكل الملك فيصل لجنة وزارية عليا لدراسة الديوان. وانتهت اللجنة إلى أنه لا يوجد في الديوان شيء يمس الدين أو الخلق. كانت هذه هي الأزمة الأولى ولم تكن الأزمة الأخيرة يقول القصيبي. ففي كل مرة كان هناك قميص عثمان آخر. وكان هناك ثمن باهظ لا علاقة له بالعمل يتمثل في محاولات إغتيال الشخصية، والدس الكاذب والتآمر الرخيص. ويضيف القصيبي رغماً عن ذلك كنت لا أشكو وأنا أحارب ألف معركة، عملاً بالمثل الإنجليزي القائل (على الذي لا يطيق الحرارة أن يغادر المطبخ). وقديماً لم تشفع "مغادرة (المطبخ) لفيلسوف المعرة وحكيمها أبو العلاء الذي شكى حين قال متسائلاً: ما للناس ولي وقد تركت لهم دنياهم! فقد لمس –رحمه الله- الداء في أصوله حين حسب أن ترك الدنيا يتركه في أمان، ولكنه لم يتركه في أمان فقد لاحقه أهلها بالقيل والقال، وهو أهون ما يمر بالرجال، كما يقول الأستاذ محمود عباس العقاد، والذي رد على من خاطبه قائلاً (إن الفلسفة خطر على أصحابها، لأنها ما زالت منذ كانت، تثير الظنون وتعرض المشتغلين بها للقيل والقال). رد بقوله إن الفلسفة مظلومة حيث كانت تتخذ في غابر الأزمنة ذريعة للتنكيل بمن انتسب إليها، يصيبون باسمها من الفلاسفة من كانوا يحسدونه على مكانة مرعية، أو يبغضونه لعلة ظاهرة أو خفية. فيظلمونه ويظلمون الفلسفة معه. ولو كانت الفلسفة هي العلة الصادقة لأصابت النكبات كل الفلاسفة بلا تمييز. ولكن الناس لم ينكبوا من الفلاسفة في الواقع إلا من كان ذا منزلة محمودة ومقام ملحوظ وإلا من دخل معهم في مشكلات السياسة ومطامع الرئاسة، أو كانت لهم عنده ثأرات يتحينون الأسباب لمجازاته عليه. وإلا فما بالهم نكبوا ابن سينا الوزير وابن رشد قاضي القضاة ولم ينكبوا الكندي والفارابي؟ فالكندي كان رجلاً ميسور الحال موفور المال، ولكنه اعتزل الناس، ولم يشترك معهم في مطامع الرئاسة، فتركوه يتفلسف كما يشاء. وكان قصارى ما أصابه من ألسنتهم أنهم تندروا ببخله، وزيفوا الأحاديث عن عشقه وغرامه، وسلم منهم في بدنه، إلا ما قيل عن وجع أصاب ركبته استعصى على العلاج. والفارابي نظر في محيط السموات وأعرض عن الأرض وما عليها وقال في رياضته الهندسية ورياضته النفسية، شعراً: (وما نحن إلا خطوط وقعن على نقطة وقع مستوفز؛ محيط السموات أولى بنا ففيم التزاحم في المركز!). فقالوا له: دونك وما تشتهي من محيط السموات، ودعنا وما نتزاحم عليه من هذه المراكز والنقاط فنجا من شرهم. أما ابن سينا فقد زج بنفسه بين المتنازعين من الأمراء والرؤساء، فزجوه في السجن وألجأوه إلى النفي وضيقوا عليه المسالك وعلموه طلب السلامة في زوايا الإهمال. قال تلميذه ومريده أبو عبيد الجوزجاني: "ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس، وأغاروا على كل أملاكه وصادروها، وسألوا الأمير قتله فعارضهم في ذلك ولكنه وافقهم على نفيه طلباً لمرضاتهم. وما كانت آفة الرجل إلا أنه أراد أن يكبح السلاح بالحكمة. أما قاضي قضاة قرطبة ابن رشد فقد جمع على نفسه بين حسد الوجاهة والنباهة وبين سخط العظماء ونكاية ذوي السلطان. فقد شرح كتاب الحيوان لأرسطو وهذبه وقال فيه عند ذكره الزرافة رأيتها عند "ملك البربر" ويقصد المنصور ملك قرطبة. وكان إذا حضر مجلس المنصور خاطبه مخاطبة الند للند بقوله: تسمع يا أخي! ولا يخاطبه بألقاب الملوك والخلفاء أو بصيغة الثناء والاحترام (يامولاي). فانتهز معارضوه من الفقهاء وحاشية الملك ممن عرفوا بعدائهم ونقمتهم عليه وعلى نظرائه من الفلاسفة هذا السلوك منه، فأوغروا صدر الملك المنصور عليه، فكان جزاؤه أن اتهم بالشرك وعبادة الكواكب! وقدموا بين يدي دعواهم عبارة كتبها عن بعض قدماء الفلاسفة وهي قولهم:" فقد ظهر أن الزُّهرة أحد الآلهة". أما تسميته للملك المنصور ملك قرطبة ب(ملك البربر) دون نسبته للعرب في قوله "رأيت الزرافة عند ملك البربر" فقد عاقبوه عليها بأن أدخلوا نسبه في سلالة بني إسرائيل. ثم نفوه إلى إلى بلدة بالقرب من قرطبة تدعى (أليسانه) سكانها من اليهود. فالعلة كل العلة في الناس لا في الفلسفة أو الشعر، والبلية في معاداة الرجال والخطر كل الخطر من الدنيا والخاصة الحاسدين لا من الدين أو العامة كما قال العقاد. كانت تلك قراءاتي في "معارك بلا رايات". وهي معارك لا منجاة لأحد من الابتلاء بها سواء اشتغل بالشعر أو بالفلسفة أو الإدارة أو الإمارة، وسواء زهد في الدنيا أو انغمس فيها.