هل تعاني من حالة شغب عمراني؟ (2 -2) المهندس دامِر برانكو: الخرطوم تحاول أن تجد لنفسها هوية معمارية جديدة لتتناسب مع التطورات المعمارية الحديثة التي طرأت عليها د. علي مادبو: (.......) في هذه الحالة يمكن مُعالجة الشغب العمراني الذي ألمَّ بالخرطوم وزير التخطيط العمراني (الأسبق) بالولاية: الخرطوم لم تجد مساحة زمنية تجعلها تتفرَّغ لضبط العمران ونشر الخُضرة!! مدير الإدارة العامة للمباني: لا أرى تناقضاً في الشكل المعماري لمدينة الخرطوم بل هي من أجمل المدن حسب رأيي تحقيق: ياسر الكُردي في حوارٍ صحفي (سابق) أجراه الأستاذ ضياء الدين بلال لصالح صحيفة (الرأي العام)؛ سُئل د.منصور خالد، العائد لتوِّه إلى الخرطوم بعد أن غاب عنها طويلاً –آنذاك- عن ملاحظاته حول تلكم المدينة فأجاب بقوله: (إنَّ الخرطوم ورغم المباني الأسمنتية الكثيرة التي انتشرت بها لكنها تعاني من حالة شغب معماري).. هذه العبارة أليست كفيلة بأنْ تجعلنا (نُحقِّق) في موضوع التخطيط العمراني بصفة عامة؛ ليس في مدينة الخرطوم وحدها بل في الولاية قاطبة؟ إذا كانت الإجابة نعم، فما هي ضوابط التنمية العمرانية؟ وهل هناك تشريعات وقوانين واضحة يسيرُ على هديها العمل؟ وما هي الاشتراطات الصحية والبيئية الواجب توفَّرها؟ وماذا عن الخرطوم بشكلها المعماري الحالي؟ وضعنا هذه الاستفهامات على (منضدة) أهل الاختصاص والمعرفة بهذا الملف، ومِنْ ثمَّ توجَّهنا تلقاء وزارة التخطيط العمراني بالولاية، لنخرج بإفادات أوردنا الجزء الأول منها في حلقة الأمس واليوم ندلف إلى الحلقة الأخيرة. نُبذة تعريفية لنبدأ هذه الحلقة بسؤال عن شكل المباني في مدينة الخرطوم والإجابة حسبما قال ل(السوداني) المهندس "دامر برانكو يوسبيانتش" المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ورئيس قسم التدريب بكلية العمارة والتخطيط، هي أنَّ هناك أكثر من طابع لشكل المباني في مدينة الخرطوم بحيث يُمكن تجميعها في ثلاث مجموعات على النحو الآتي: أولاً: المباني السكنية ذات الطابق الأرضي فقط لها طابعها الخاص ومعظمها مبانٍ ذات حوائط حاملة من الطوب الأحمر والسقف بلدي أو بلاطة خرسانية. ثانياً: مبانٍ سكنية متعددة الطوابق من طابقين إلى خمسة طوابق لها طابعها الخاص عبارة عن مبانٍ هيكلية خرسانية والمباني من طوب بمختلف أنواعه. وثالثاً: مبانٍ تجارية وإدارية لها طابعها الخاص معظمها مبانٍ هيكلية خرسانية أو فولاذية في بعض الأحيان تمت تكسيتها بالحوائط الزجاجية أو باستخدام التكسية الخارجية من ألمنيوم (cladding). وهكذا يمكننا القول بأن مدينة الخرطوم تحاول إيجاد هوية معمارية جديدة لنفسها لتتناسب مع التطورات المعمارية الحديثة التي طرأت عليها. ثقافة العمارة ويضيف المهندس برانكو قائلاً: "بما أنني متخصص في الدراسات البيئة العمرانية للمباني فأقول إن طريقة استخدام المعالجات في المباني هي التي تحدد كفاءة المبنى ومناسبته للطقس أياً كان، وهناك عدة أنواع لمعالجات يمكن تطبيقها على المباني لتحسين بيئتها ولكي تتلاءم المباني مع الطقس الحالي لمدينة الخرطوم، وهذه المعالجات يمكن تلخيصها فيما يعرف بالعمارة المستدامة. وثقافة العمارة المستدامة وتطبيقاتها جديدة على كافة القطاعات هنا في ولاية الخرطوم سواء على المهندسين أو المواطنين وغيرهم مما يقل تطبيقاتها على المباني". ويضيف: "أما بالنسبة للمباني الخرسانية فإننا نجد أن كثيراً من المباني الخرسانية حول العالم تم بناؤها في بيئات حارة جداً وقد نالت هذه المباني شهادات الجودة البيئية مثل شهادة (LEED) لكفاءتها البيئية وذلك لأن المعالجات التي استخدمت في المبنى كانت مبنية على أسس علمية صحيحة ومدروسة، فنتمنى من المهندسين التعمق أكثر في العمارة المستدامة وتطبيقاتها والاستفادة منها في تحسين البيئة الداخلية للمباني وكما نتمنى أيضاً من المواطنين تحسين إدارة واستخدام المباني والمحافظة عليها وعلى المعالجات التي اقترحها المهندسون على ضوء أسس علمية سليمة وذلك للمحافظة على بيئة عمرانية داخلية في حدودها المطلوبة". /////////////////////////// فقدان روح المُبادرة وكأنَّ الخرطوم – الولاية - لم تجد لها (مُهْلَة) تلتقط من خلالها أنفاسها لتعيد ترتيب أوراقها المُبعثرة، بدليل سؤال دكتور شرف الدين بانقا وزير التخطيط العمراني (الأسبق) بولاية الخرطوم: هل وجدت ولاية الخرطوم مساحة زمنية تجعلها تتفرَّغ لضبط العمران ونشر الخُضرة؟ والإجابة بحسب الرَّجُل نفسه: (لا)، لأنها – أي الولاية - ظلت تلهث باستمرار وراء مُطاردة المواطنين الذين يبنون عشوائياً أو يخالفون الضوابط العمرانية ووو..إلخ بمعنى أن الخرطوم لم تسبق المواطن في التفكير بل هو الذي يسبقها وبالتالي هي فقدت روح المبادرة. ويضيف بانقا: "مع إيماننا أن ثقافة المجتمع بشكل عام هي التي تتحكم في فرض ثقافته المعمارية، لكن مع ذلك يُفترض أن يكون لمجلس تشريعي الولاية دور واضح في رسم خارطة الطريق التي تحدد ارتفاعات المباني وحجم القطع". هنا قدَّمت (السوداني) سؤالاً مباشراً لدكتور شرف الدين بانقا: "وهل كنت تنسِّق مع المجلس التشريعي إبان عملك كوزير للتخطيط العمراني بالخرطوم؟ فأجاب الرَّجُل بقوله: "بكل صراحة حاولنا كثيراً إدخال المجلس التشريعي لكن الولاية آنذاك كانت تعاني بشدة من تمدُّد السكن العشوائي الذي كان يحتل حوالي الثُلثين من مساحة الولاية، أضف إلى ذلك الاستحقاقات والتظلمات التي كانت تأتينا باستمرار من المواطنين، ولذا كنا نسابق الزمن لحل هذه المشكلات، لأنك إذا لم تضع لها حداً فمن المستحيل أن تتحدَّث الخارطة المعمارية وضبط المباني من حيث شكلها ولونها وعدد طوابق العمارات بها". علاج الشغب العمراني ويقول رئيس قسم هندسة المعمار بكلية قاردن ستي للعلوم والتقانة، نائب العميد دكتور علي محمود مادبو: "في سبعينيات القرن الماضي أُدخل بُعد ثالث للتخطيط العمراني وسمي التصميم الحضري أو العمراني إذا شئت، وبالطبع فهو غير مطبق بالخرطوم. وميزة هذا التصميم ثلاثي الأبعاد أنه يضبط ارتفاعات المباني لكل المدينة أو أجزاء منها خلال مرحلة التصميم، ويمكن تطبيقه على الأراضي الشاغرة (غير الُمشيَّدة)، ويتعامل أيضاً مع مبانٍ آيلة للسقوط بالمدينة قياساً إلى ارتفاعات مبانٍ قائمة وعناصرها المعمارية". وأكد مادبو أن نظام التصميم الحضري (العمراني) إذا قدر له أن يطبق بمدينة الخرطوم مدعوماً بالقانون والإرادة السياسية وجميع الآليات الضرورية للتنفيذ؛ يمكن أن يعالج داء الشغب العمراني الذي ألمَّ بالخرطوم في حيز زمني معقول. وفي ذات المسار، يمضي المهندس دامر برانكو، بقوله إنَّ ولاية الخرطوم تسعى إلى التحسين المستمر للبيئة العمرانية، وذلك عن طريق التطوير المستمر لهذه اللوائح والاشتراطات، وأيضاً المساهمة في تنفيذها، ولكن ما يُؤسف له أن ثقافة الاستخدام السليم تقل إن لم نقل تنعدم عند كثير من المواطنين؛ ولذا تجدهم يرمون الأوساخ على الطرقات والشوارع، ويتمادون في ظاهرة التبول في الطرقات وغيرها من الظواهر السالبة، مما يستوجب عمل حملة تثقيفية واسعة لكافة مواطني ولاية الخرطوم لتفادي ولمنع هذه الظواهر المُنفِّرة والمقزِّزة في آنٍ واحد والتي تضر بصحة الإنسان والبيئة العمرانية. تقليد أعمى! قبل أن ندلف إلى المحطة الأخيرة، لا بُدَّ من الوقوف عند عند إفادة جريئة، ل(السوداني) من الفنان التشكيلي دكتور راشد دياب، نصَّها: "إنَّ الخرطوم بشكلها الحالي أصبحت أسيرة لتقليد أعمى، غزاها من كل الاتجاهات على الأقل في طراز البناء. وهذا أبلغ دليل على ضعف قدرتنا المعمارية في تبني المقترحات والابتكارات والأفكار. وكذلك ضعف مناهج التعليم في الجامعات (كليات المعمار) وانغلاق المعماريين في التعامل مع ضروب الفنون الأخرى كالتشكيل (النحت والتلوين)؛ فهناك غياب تام لنظام فرق العمل التي تقوم بإعداد الخطط المعمارية والتصميم المتكامل". لا للتدخل في (أمزجة) الناس! وفي خاتمة هذا التحقيق، توجَّهنا ببعض الأسئلة للمهندس نصر الدين علي المُشرَّف، مدير الإدارة العامة للمباني بولاية الخرطوم. وسريعاً جداً نفى الرجل الاتهام المُوجَّه للخرطوم بافتقارها للتناغم، مما جعل كل مبنى بها يسير في اتجاه مناقض للآخر؛ حيث قال ل(السوداني): "نحن في الإدارة العامة للمباني بولاية الخرطوم؛ ليس من اختصاصنا التدخل في (أمزجة) الناس، فكل شخص يودُّ أن يشيِّد منزله بالتصميم الذي يعجبه ووفقاً لمقدرته للمالية، وهذا ليس في الخرطوم وحدها بل في كل مدن العالم. إذن، فنحن كإدارة عامة للمباني بولاية الخرطوم نضع موجِّهات عامة ونلزم بها كل من يود إنشاء مبنى، لكن هذا بالطبع لا يعني أن نتدخل في (مزاج) الناس. تلك ناحية أما الأخرى، فأنا باعتباري مهندساً معمارياً، لا أرى تناقضاً في الشكل المعماري لمدينة الخرطوم، بل هي من أجمل المدن حسب رأيي. صحيح أن هناك بعض المشكلات البسيطة والتخلص منها لا بد أن نلتزم بوصفنا مهندسين ومخططين بمؤشرات المخطط الهيكلي الضابطة لحركة المباني على مستوى الولاية. ولتحقيق ذلك هناك إدارة خاصة بضبط المخالفات على مستوى الإدارة العامة بالمباني، حيث تعمل باستمرار مع النيابة الخاصة بالأراضي والمباني على مستوى الولاية، وأيضاً يوجد مفوضون ومفتشون مهمتهم رقابة وضبط حركة المباني بالولاية.