الحقيقة أن انزعاج قادة المؤتمر الوطني البيّن من المذكرة له ما يبرره لأن مثل هذا العمل يجعله يتذكر تجربة المفاصلة القاسية على أرواح من خاصموا الشيخ الترابي. صحيح أن رموز السلطة انتصروا وسيطروا على مفاصل الدولة لكنهم دفعوا ثمناً غالياً إذ خسروا أصدقاء العمر والشعور الخفي بالتسامي الذي يشعر به النشطاء الأنقياء عادة. أزعجت المذكرة الحزب الحاكم لأنها صورته وكأنه مقبل على عقابيل مذكرة عشرة جديدة وأظهرته في حالة مغايرة لحالة الوحدة الهشة التي يحرص عليها. على كل، نجح الحزب الحاكم في امتصاص المذكرة بإصدار سلسلة من المذكرات المشابهة في الخلو من الموقعين. هكذا تحوّلت كتابة المذكرات إلى لعبة وإذا كان هناك من يجرؤ على إبداء اسمه فسيتم فصله من الحزب ذي التنظيم المحكم في التو والساعة. صحيح أن هناك من لن يضار إذا تم فصله ممن لم يحصلوا على وظائف رفيعة، وليست لهم سابقة عمل كبيرة، ولا تسندهم مواهب فريدة، ولا يقفون تحت لافتات قبلية عريضة. احتشدت المذكرة بأفكار خطيرة وفاسدة من النوع الذي يمكن أن يعيد البلاد إلى مربع ما بين 1989-1999 وباختصار غير مخل يمكن إيراد: - إشارت المذكرة إلى أن الإنقاذ كدولة إسلامية تشكل تجربة هادية وفريدة في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية. الحقيقة أن الإنقاذ لم تقم دولة إسلامية نموذجية وهذا أمر لا يحتاج إلى مكابرة وجدل. - وصفت المذكرة انقلاب 1989م بأنه أكبر إنجاز للحركة الإسلامية، والحقيقة أنه أكبر إخفاق لها لأنها لو كانت ناجحة في مشروعها الدعوي والتربوي وفي تقوية بنائها التنظيمي على هدى الإسلام والعلوم الحديثة، لما احتاجت للانقلاب ولكانت لابد منتصرة في الانتخابات التي كانت قاب قوسين أو أدنى. إن سقوط الحركة في امتحان الديمقراطية (قل الشورى) لا يمكن أن يحسب كإنجاز إلا إذا كانت الحركة لا تزال تؤمن بذات الأسلوب الأمر الذي قد يهدد التطور البطيء للنظام الحالي. - امتنت المذكرة (على من؟) بأن الحركة الإسلامية قدمت عشرة آلاف شهيد متجاهلة مئات الآلاف من أفراد الشعب الذين نالوا حسن الشهادة من جنود نظاميين، ومواطنين مدنيين، وأطفال ونساء قضى بعضهم نحبه وهو يحاول الاحتماء المحال من الموت الرهيب. هكذا تنغلق المذكرة على الحركة السرية فترى ما بالداخل فقط دون أن تملك عيناً منصفة. هذه النظرة المنغلقة هي التي أسهمت في تشوه هيكل الدولة، وهيكل الاقتصاد، وهيكل الثقافة، وهيكل المعرفة، وهيكل المجتمع كله لأن اليد العليا فيه آلت لجماعة محدودة لا تملك من مسوغات السيطرة سوى انتمائها السياسي. - وصفت المذكرة مفاصلة القصر والمنشية (الخالدة) بأنها كانت وصمة في جبين مشروع الحركة، والحقيقة أن تلك المفاصلة كانت مفاصلة خير وبركة خلع فيها التيار المنتصر (العصابة) التي تعتم الرؤية على عينيه، فأصلح أمر العلاقات الخارجية وتحاور مع الأحزاب السياسية، وحقق إنجازات لا يمكن إنكارها على صعيد تحقيق السلام وبناء الاقتصاد. لو لم يخلع الفريق الحاكم تلك (العصابة) لكان التليفزيون يبث حتى الآن أناشيد إسقاط أمريكا وروسيا، ولكان حفر الترعتين المزعومتين للرهد وكنانة يمضي- باستخدام الأيدي- على قدم وساق، ولكانت التجريدات تساق كل يوم من الخرطوم إلى الجنوب، ولكانت المآتم لا تزال تحرق أحشاء الأمهات. على الواهمين من ضعاف أعضاء الحركة الذين عجزوا عن تحديد موقفهم بين طرفي المفاصلة، أن يختاروا ثلج القصر الآن أو نار المنشية أما وحدة الثلج والنار فلا.