لعل في المذكرة ما يحمل إشارة تكاد تبلغ حد التوكيد إلى أنها تشبه بالعودة لمربع الآيدلوجيات القديمة،وإلى استلهام لخطاب الاستضعاف، وبوجه خاص لغة سيد قطب أمام جلاديه، وهو في سجن ليمان طرة قبل سوقه إلى المقصلة منتصف ستينيات القرن الماضي وهناك اشتط سيد قطب في رسم معالم طريق الاخوان إذ يقول ̈إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة فالورقة التي كنيت ب"الإطارية" والتي برزت للعلن الخميس الماضي على صفحات جريدة (التيار) كما جرى تداولها على نطاق واسع على شبكة الانترنت، وتتفق مع الاخريات انها ليست مذيلة بتوقيع وقد صدرها من اختطها مجهولو الهوية ب(معالم في طريق الإصلاح والنهضة) لكن دون أن يتسنى لنا التأكد من أن الورقة المار ذكرها هي النسخة الأصلية أم أنها واحدة من إحدى الورقات أو المذكرات التي مافتئت منذ ظهورها الى العلن في إثارة جدل عاصف ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا وشغلت الناس. (1) لعلها المرة الأولى التي توجه فيها ورقة إصلاحية النقد علنا لانقلاب الاسلاميين في الثلاثنين من يونيو 1989م بقولها "لكن، وما أن صارت الحركة الإسلامية قاب قوسين أو أدنى من الحصول على التفويض الشعبي، إلا وقد تورطت قيادتها في لعبة الانقلابات والانقلابات المضادة، وصار الاستيلاء على السلطة هدفاً استراتيجياً يضحى من أجله بالقيم الأخرى، وتسفك في سبيله الدماء وكانت نتيجة ذلك انقلاب يونيو من عام 1989م" . وقد يقول قائل إن زعيم الحركة الاسلامية التاريخي؛ الدكتور حسن الترابي، قد وجه سهام نقد غير ذات مرة الى خطأ الانقلاب، بجانب كبار قادة المؤتمر الشعبي من لدن الدكتور علي الحاج الذي كناه ب ̈خطيئة الاسلاميين، وأيضا ابراهيم السنوسي وغيرهم، لكن هؤلاء لم ينهضوا للتبرؤ بهذا الأمر إلا بعد مغادرتهم السلطة بالطرد وليس طواعية، وهذا مايقدح في اخلاقية إقرارهم بالذنب على أقل تقدير فقادة الحركة الاسلامية أكثروا في معرض الدفاع عن خطوتهم الانقلابية خاصة أمام ضيوفهم من الحركات الاسلامية بالخارج بأنهم لو يتقدموا الى استلام السلطة لفعلها غيرهم من اعدائهم من الشيوعيين أوالبعثيين، ولكانت نهايتهم؛ لذا فإن تبريراتهم تلك كانت كثيرا ماتجري على السنة أولئك وبينهم الحركي الاسلامي البارز؛ الدكتور يوسف القرضاوي، بأن إسلاميي الخرطوم جاءوا الى السلطة عبر انقلاب عسكري إجبارا لا اختيارا وفي برنامج ̈أجندة الذي بثته قناة أم درمان الفضائية الأحد 18 سبتمبر الماضي قطع القيادي بالشعبي وأحد أبرز حواري الترابي؛ المحبوب عبدالسلام، بخطأ الاسلاميين في الاستيلاء على السلطة بالقوة قائلا؛ ̈أي برنامج اسلامي يمضي الى الحكم يجب أن يكون عبر الديمقراطية وصناديق الاقتراع، وأن مجيئنا للسلطة عبر القوة كان محض اضطرار". وفي مقالته الموسومة ب ̈الانقلابات العسكرية في السودان؛ الأسباب والدوافع يذكر الدكتور حسن الحاج علي استاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم جاء انقلاب 30 يونيو 1989 يحمل توجها آيديولوجياً إسلامياً بعد فترة من التمويه وشكّل نجاح الانقلاب أول سابقة تتمكّن فيها حركة إسلامية معاصرة من استلام السلطة في بلدها عبر انقلاب عسكري. ويضيف الدكتور حسن في مقالته المبثوثة على موقع ̈الشروق نت؛ كانت قيادة الحركة الإسلامية تخطط منذ فترة لمرحلة استلام السلطة والتمكين ورأت القيادة أن الشهور القليلة التي سبقت ساعة الصفر في 30 يونيو شهدت من محفّزات الانقلاب ما يكفي لتهيئة الرأي العام لاستلام السلطة ومن أمثلة المحفّزات التي سيقت مذكرة الجيش، والجو السياسي العام وما صاحبه من خطط بعض القوى السياسية لاستلام السلطة عبر انقلابات عسكرية ورغم سكوت الإسلاميين ونفيهم لأية صلة بالانقلاب في سنواته الأولى، إلا أن انشقاق الإسلاميين قد دفع بعض القادة للحديث بوضوح عن ترتيبات الانقلاب وخططه فقد كشف علي الحاج أن قرار الاستيلاء على السلطة تم اتخاذه في مجلس الشورى وهو تضم 60 عضواً تقريباً وكل عضويته من المدنيين هيئة الشورى هي التي أعطت الأمين العام حق تنفيذ القرار واختيار من يشاء في التنفيذ وليس بالضرورة إخطار هيئة الشورى بكل التفاصيل، نحن كنا جزءاً من القرار، وأنا أتحدث عن أصحاب القرار العساكر كلهم لم يكونوا في دائرة اتخاذ القرار، بل كان عليهم تنفيذ القرار فقط وأود أن أنبه إلى أن دائرة اتخاذ القرار كانت محدودة جداًک وينتهي الرجل في مقالته تلك الى أن حسن الترابي عد مخطط الانقلاب الرئيس أن ما حدث في ثلاثين يونيو هو خطيئة الإسلاميينک وشهادة علي الحاج بشأن تفويض الترابي فيما يختص بترتيبات الانقلاب يشير بطريقة واحدة إلى أن مسألة التغييب بدأت قبل وقت طويل ولم تبدأ غداة الاستيلاء على السلطة في يونيو 1989م حسب تعبير المذكرة الى "انه انقلاب يونيو، وما لحقه من حل لمجلس شورى الحركة الإسلامية، وتغييب متعمد للسواد الأعظم من عضويتها". (2) ثم تأتي المذكرة الى مفاصلة الاسلاميين الذائعة الصيت التي أسهمت بلا مراء في شق صفوفها بعد أن أتت الى الحكم متوحدة تماما بالقول "وقع الخلاف المشهور في كيفية قيادة الدولة ومن يقودها، وانشطرت النواة القيادية بسبب ذلك إلى ثلاثة فرق؛ فريق استأثر بالدولة واحتمى بها، وصار يضرب بيد من حديد كل من ينازعه فيها، وفريق ثان ظل يكدح بالليل والنهار لاستعادة الدولة التي نزعت من بين يديه، وفريق ثالث وقف على الرصيف، لم يرد أن يشارك في عمليات التدمير الذاتي المتبادل بين الفريقين المتناحرين، ولكنه لم يستطع أن يصلح بينهما، كما لم يستطع تجاوزهما وصار الصراع بين الفريقين الأولين يتعمق ويتفاقم، وينتقل من صعيد إلى آخر، حتى فقد كل منهما الرؤية، فصار يتودد إلى أعداء الأمس، ويبحث عن النصرة بينهم". في اشارة الى مايبدو الى انتظار المؤتمرالوطني الى الاحزاب الطائفية لأكثر من أربعة أشهر لاقناعهم بعد مفاوضات شاقة بالانخراط في التشكيلة الوزارية بعد انفصال الجنوب أو سعي المؤتمرالشعبي حثيثاً لخطب ود ألدّ أعدائهم التاريخيين في اليسار ودعوتهم لمشاركته في بناء تحالف جديد لاجل إسقاط النظام لكن السؤال لماذا أغفلت المذكرة الحالية الاشارة الى مذكرة العشرة التي شكلت النواة في المفاصلة فالبذرة التي طرحت وجدت أرضا خصبة ثم ما لبثت عاماً إلا قليلاً حتى طرحت ثمارها التي أخرجت ̈الترابي" من جنة حزبه، لكن أولئك العشرة لعلهم لم يكونوا بالغي ماوصلوا إليه لولا احتمائهم بجهاز الدولة والتجائهم إليها ممثلة في الرئيس البشير بكل مايحمله من رمزية الى القوات المسلحة، وغير منكور أن الجيش يظل القوة الاساسية في معظم دول العالم الثالث ولا تستطيع أي قوة سياسية، ولو حرصت بتجاهله أو مجاوزته فبأي شيء سيحتمي هؤلاء الناس وماهي آلياتهم ووسائلهم الضغط على الممسكين بمفاصل الدولة التي باتوا غير راضين عن أدائها؟، ثم ماهي وسائلهم الى استعادة السيطرة التي تسربت من بين أيديهم واستحالت كما تشير الذكرة إلى مشروع عسكري، أمنى منغلق على نفسه، يضيق بالديمقراطية في داخله، ويُضيّق مسالكها في الخارج؟. (3) من الأشياء اللافتة للانتباه أن المذكرة الاخيرة تعد الاقسى بين الاخريات فكما انتقدت الانقلاب حددت مطلوباتها بشكل دقيق الى إحياء الحركة الاسلامية الى حيز الوجود من جديد إذ تقول ننادى ̈من خلال هذه الوثيقة بإخراج الحركة الإسلامية وإحيائها لتتوفر البيئة اللازمة للمراجعة الأمينة والنقاش الحر اللذين يمهدان الطريق لإعادة التأسيس واستكمال البناء، بعيدا عن الدولة ومؤسساتها وحزبها الحاكم". وتمضي المذكرة لتقول إنهم هدفهم "ليس التآمر مع جهة عسكرية في الداخل أو الخارج للإطاحة بالنظام، فإنه لم يضر بحركتنا الإسلامية وبوطننا سوى المغامرات العسكرية الطائشة، والتدخلات الخارجية الماكرة؛ وليس هدفنا أخيرا أن نحاكي موجات الربيع العربيک، بأن نفتعل الأزمات، أو نختلق المشكلات، ولكن ذلك لا يعنى أن نتعامى عمّا يجري في محيطنا العربي، أو أن ندّعي أن البطالة والاستبداد والفساد اللائي صنعت منها الثورات العربية لا يوجد مثيلها لدينا، أو ننكر أن مكاننا التلقائي ليس إلى جانب المظلومين والمحرومين". لكن هدفهم التي حددت بأربعة أهداف أولها؛ "أن نبين للصالحين العاقلين من إخواننا أن مسايرة النظام الحالي، وتعليق مزيد من الآمال عليه، واعتباره أميناً على المشروع الإسلامي، أو داعماً له، هو ضرب من مخادعة النفس، والتهرب من مواجهة الواقع". وتعلل الورقة لماذا بقولها "فالنظام لا يحسن الاستماع ولا يقبل المراجعة، ولا يتعامل مع الناصحين والمعارضين إلا كحالة نفسية يجب علاجها، أو كحالة أمنية يجب التصدي لها، وهو لا يعمل إلا على جمع الثروة والسلطة، والمحافظة عليها بشتى الطرق، وتركيز الاختصاصات كلها في رأس الدولة، والمطابقة بينه وبين الوطن، وحشد المؤيدين له، ورفض أي إصلاح حقيقي يمس قيادة النظام أو شبكات الفساد". والمتتبع لمجريات لسياق المذكرات السالفة يجد ان الاخيرة صوبت سهام نقدها الى الرأس مباشرة وادانت محاولة تكريس البعض الوطن في شخص الرئيس والقاء المسافة الافتراضية بينهما وهذا المنحى تبدى واضحا في اعقاب مذكرة الاعتقال الدولية بحق الرئيس البشير من قبل محكمة الجنايات الدولية منذ ثلاثة اعوام تقريبا بانه رمز السيادة الوطنية ومن مسه كأنما يمس الوطن كله في شخصه. وقريبا من ذاك نجد الكاتب الصحفي الأشهر؛ محمد حسنين هيكل، أشار إلى شئ ذلك من قبل استنادا الى وثائق ويكلكس التي وصفت حال البلدان العربية بأنها تحالف بين السلطة والمال بطريقة جعلتها سلطة نائمة في حضن مال أو مال نائم في حضن سلطة. وكما كان يقال أيضا في الشقيقة مصر قبل ثورة 25 يناير إن الرئيس هو الضامن للمسيرة والسادن للديمقراطية والواقف على التنمية وينتهون الى أن ̈الريس كويس المشكلة الناس الحواليه". (4) وبإعمال النظر الى الهدف الثاني نجد الآتي كما تقول الورقة الاطارية "أن نعمل، من بعد فك الاشتباك بين النظام الحاكم والحركة الإسلامية، على السير في اتجاه التطور الديمقراطي السلمي، في إطار مشروع وطني رشيد مايعني أن المذكرة". ومماسبق نلاقي ان الورقة كما انتقدت الانقلاب ، حددت ايضا أهدافها، أشارت للمرة الأولى إيضا الى سعيها لإسقاط النظام أو تغييره لكن ليس عبر انقلاب عسكري أو ثورة شعبية لكن عبر ̈انتفاضة انتخابية" على حد تعبير الإمام الصادق المهدي الشهير ولعل هذا يكشف بجلاء أن فرضية الإصلاح تراجعت وانحسرت بشدة لصالح خيار التغيير وهذا أن لم يكن بأيدي الإسلاميين من الواقفين خلف المذكرة انفسهم فربما يأتي بأيدي الشعب على غرار ماحدث في الربيع العربي، وعندها فإنهم لن يتوقفوا في وجه أحد دفاعا عن سلطة لاتمثلهم في شيء. ومن الاشياء اللافتة أيضا أن المذكرة تتحدث أن النظام القادم يستمد المشروعية من الشعب، عبر الانتخاب الحر النزيه، وحيث تتجسد السيادة في دولة مدنية مسؤولة، تكفل فيها الحقوق والحريات الأساسية، ويتساوى الناس فيها أمام القانون بلا تمييز جنسي أو عرقي أو دينيک والاشارة السابقة تعني رسمياً أن التوافق على دولة مدنية وليس إقرار دستور إسلامي كما ظل يتنادى أقطاب السلطة منذ انفصال الجنوب كان آخرها ماصدع به الرئيس البشير لدى مخاطبته احتفال ختام الجائزة الدولية بالقرآن الكريم بقاعة الصداقة السبت الماضي، إذ جدد تمسكه بالدستور الإسلامي والشريعة التي يحمي بها المواطنون المسلمون والمسيحيون من الأعداء والشياطينک ولعل الدعوة الى الدولة المدنية واقعية نادى بها وزير الدولة برئاسة الجمهورية الدكتور أمين حسن عمر في معرض نعيه على الكثير من الاسلاميين اعتقادهم على الدوام أن هناك فكرة مثالية يريدون في أن تتنزل للناس ̈ في ندوة ̈صعود الاسلاميين؛ دلالاته ومآلاته بقاعة الشارقة منذ اسبوعين تقريبا قائلا؛ ̈على الإسلاميين الابتعاد عن المثالية، والابتعاد عن العدمية وكره الحياة التي تختزلها شعارات من قبيل فلترق كل الدماء وانتهى الى أن الحركات الاسلامية إذا أدركت ماهية السياسة ستنجح أما إذا غرقت في الفكر التنظيري المثال فيمكن أن تفشل". خالد فتحى [[email protected]]