(صدر مؤخرًا عن دار جزيرة الورد بالقاهرة الجزء الثالث من كتاب السودان بعيون غربية للبروفيسور بدرالدين الهاشمي، واستميح القارئ عذرًا بأن أعيد نشر التقديم الذي شرفني بروفيسور الهاشمي بكتابته ضمن آخرين لتقديم الكتاب في سلسلة إصداره الثالث). ما ارتج علي وصف واضح المعنى في صدري، شحيح الإبانة على لساني مثل ترسمي وصف الجهد المعرفي المبدع للبروفيسور بدرالدين الهاشمي في سلسلة ترجماته "السودان بعيون غربية".وقد سبقتني ثلة من أرباب القلم وأساطين الكتابة في تقديم الكتابين السابقين من هذه السلسلة، ولم يتركوا في تقديمهم قولاً لمستدرك، أو نعسة طرف لمستفيق. ولكن حسبي أن أسدد وأقارب على حواشي الإبداع الموشى للبروفيسور بدرالدين الهاشمي، وهو قلم سيال المنبع، غزير الإنتاج، جم النشاط ، وافر الحيوية في تتبع ما يكتب عن السودان في مظانه الغربية، وظل يرفدنا على نحو دارج بمتعة المعرفة ودهشة الاكتشاف والسياحة عبر التاريخ. والبروفيسور بدرالدين الهاشمي، ليس ترجماناً نابهاً فحسب استجاد صنعتها، وأتقن فنها وحذق أدواتها، ، ولكنه فذ ملهم في هذا الضرب من المعرفة، إذ دخل إلى أبواب الترجمة من باب الهواية لا الاحتراف، فهو عالم مجيد في حقل تخصصه العلمي في علم الأدوية والسموم، منذ يفاعته الأكاديمية الباكرة بجامعة الخرطوم حتى نيله درجة الدكتوراه من جامعة أدنبرة. وهو يصدر في إبداعه الترجماني عن مشروع أصيل لنشر الوعي بالتاريخ، حسبه في ذلك وعي عميق برسالته وتعلق بمادة بحثه واختيار موضوعاته وترجماته التي خصصها لما يكتبه الغربيون عن السودان. وهو بهذا الوعي لا يبصق على التاريخ ولكن يعيد بعثه حياً يسعى بين الناس من حيث إعادة نشره وتعريبه بعد أن استطال مكثه في أرشيف الوثائق وأضابير الكتب وحواشي المدونات ومتون الحوليات. للبروفيسور الهاشمي أيادٍ سابغات لا تنقبض، وجفن لا يطرف ومثابرة لا تكل عن تتبع ما كتبه الغربيون عن السودان في مظانه قديماً وحديثاً على سعة نشرها في مساقات معرفية مختلفة وتخصصات متباينة ودوريات ومطبوعات متفرقة، ومكتبات موزعة في شتي أنحاء المعمورة. إن المتأمل في سيرة إنجازاته العلمية يكتشف أنه قد حاز مجدلا مؤثلا يكفيه بحسن الذكر إن كانت تلك بغيته ومضرب خيمته ومبرك راحلته، وذلك بما حقق من إنجازات، وبما نشر من أوراق وبحوث، ونال من جوائز وأوسمة، وبما حازت بحوثه وأوراقه من صيرورة التداول المرجعي والاقتباس العلمي من طلاب العلم في جامعات العالم المختلفة والدوريات المتخصصة. هذا إضافة إلى خبرة أكاديمية متميزة في جوانب التدريس والبحوث والإشراف العلمي والخبرات الاستشارية والإدارية، والتحكيم وتصميم المقررات وإدارة المؤسسات الأكاديمية على مستوى العالم.وهو قد عمل طيلة ثلاثة عقود من الزمان في جامعات ومؤسسات مرموقة في مختلف القارات وأستاذًا زائرًا ومقيماً في بريطانيا، وأمريكا، والإمارات وليبيا، تايلاند، السعودية، واستقر به المقام الآن في جامعة السلطان قابوس بمسقط. لو أراد البروفيسور بدرالدين الهاشمي أن يستأثر بهذا المجد لكفاه، ولكن أرقه العلمي وتفانيه في خدمة قضية المعرفة، واستغراق همه لرفد المجتمع بخبرته، جعلته يستفرغ طاقته المبدعة في مشروع ثقافي موسوم بنشر الوعي بالتاريخ. وهو يقدم على ذلك النشاط الحيوي بإلفة وحميمية، وهذه الإلفة هي اختيار استسغت اقتباسه من البروفيسور عبدالله علي إبراهيم لتعريب كلمة (باشون) الإنجليزية بعد أن استحسن نقلها من تأملات الدكتور المرحوم محمد عبدالحي. وهو في مشروعه الذي يضع لبنته الثالثة في هذا الكتاب يصدر عن وعي مطلق بذاته إزاء ما يجب أن يفعله المثقف تجاه مجتمعه. قول سقته من قبل وأنا به زعيم، وهو متنزع من حواشي أوراق السجن لغرامشي إذ يقرر أن المثقف العضوي ليس من يختزن معارفه وتأملاته وأفكاره مع نفسه وخاصته، ولكن هو من يستطيع أن يقوم بوظيفة المثقف في المجتمع.وذلك عين ما يقوم به البروفيسور الهاشمي في نشر ترجماته في الجزء الثالث من هذا الكتاب من سلسلته المعروفة "السودان بعيون غربية". جاء بروفيسور الهاشمي من قلب البندر إذ ترعرع في حاضرة السودان الأولى الخرطوم، وشهد في مدارج وعيه الباكر مخاضات السودان الكبرى وفتح أعينه على تحديات الثقافة الماثلة حينها، فشب على حب المعرفة والمطالعة، وكان لشغفه بالقراءة الحرة أثرًا باكراً لاكتشاف موهبته المخبوءة لحب الترجمة التي تعهدها بعد ذلك بالمثابرة والدربة حتى استقامت مطواعة الرسن، سلسة القياد لطموحه العلمي ومشروعه الثقافي والمعرفي. وتلمس موهبته البكر وهي تنمو حثيثاً إذ كتب القصة القصيرة وهو في عهد الطلب بالمرحلة الثانوية في ستينات القرن المنصرم، وربما حاول أن يقرض الشعر فاستحيا عن نشره في حينها. وظني أن توجهاته العلمية وخوضه معركة التحضير للدراسات العليا وهموم التدريس والبحث العلمي قد أجلت تفتق موهبته بشكلها الزاهر التي نستمتع بفيض ثمرها ونضير غرسها الآن، وهو قد شارك في ترجمة كتب المقررات الأكاديمية في جامعة الخرطوم. والمتأمل في سيرته الترجمانية يقف أمام مشروع شاهق المبني، فهو لا يحفل بالترجمة كعمل أداتي ميكانيكي ولكن باعتبارها عمل مبدع يشكل الوعي العام وينقل الثقافة ويثري المعرفة. وما يقوم به البروفيسور الهاشمي من عمل في فن الترجمة واختيار مادته تنوء بإنجازه المؤسسات ذوات العدد، وهو جهد فردي يستحق الاحتفاء والإشادة والتكريم. واختار لمشروعه بحسه الترجماني المبدع، ووعيه الثقافي المتقدم أن يكون محوره تاريخ السودان قديماً وحديثاً، وما كتبه الغربيون عن بلادنا الحبيبة في مختلف أنواع المعارف والنشاطات والتخصصات، مثل حقول الحكم والإدارة، والقضاء والمحاكم، والمعارك والعلوم العسكرية والدراسات الإنسانية والأنثربولوجية والتاريخ والجغرافيا والثقافة واللغات والمذكرات والسياحة والمذكرات والسير الذاتية والتراجم وغيرها. وهو كذلك كاتب شامل إذ نشط منذ منتصف عقد الثمانين في نشر مقالات دارجة في الصحافة السودانية تعلق بعضها بشرح ما التبس على العامة في شأن الأدوية والعلاج وفوائد المنتجات الطبيعية هذا إضافة إلى مقالات متعددة الاهتمامات والموضوعات في الأدب والثقافة والعلوم. ومن ثم استمر في كتابة زاوية صحفية ثابتة منذ منتصف عقد التسعين إلى يوم الناس هذا. وله كذلك سهم وافر في تأسيس ورعاية الجمعيات العلمية والثقافية. وبروفيسور الهاشمي لا يقبل على الترجمة بحثاً عن المقابل اللغوي لنقل المعنى ولكن ينقل إلى القارئ روح النص، كأنك تقرأ النص بلغته الأصل، وذلك يتطلب حذقاً لغوياً ومهارة بلاغية عالية في لغتي الترجمة، و كما قال الجاحظ: " ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية"، وذلك ما أشار إليه حديثاً في نظرية التكافؤ الديناميكي العالم اللغوي يوجين ناديا ويعني بها "جودة الترجمة في نقل الرسالة من النص المصدر للنص الهدف فتكون استجابة قارئ الترجمة كاستجابة قارئ النص المصدر". وعلي ذات السياق يساوي الشاعر الألماني العظيم غوته بين خاصية النبوة ووظيفة الترجمة إذ يقول :"يقول القرآن بأن الله يبعث لكل أمة نبياً يتحدث لغتها، كذلك كل مترجم هو بمثابة نبي في أمته". إن النشاط المبدع الذي يقوم به البروفيسور الهاشمي لا يرتكز على نقل المعارف والثقافات وتفاعلهما في الفضاء الكوني فحسب بل هو ضرب من الوعي بالتاريخ، والتربية الوطنية. فهو مثلاً لا يقدم النص المعرب من ترجمة المقابل باللغة الإنجليزية فحسب بل يعمل علي ربطه بأحداثه والتعليق عليه وإجلاء غوامضه ووضعه في سياقه التاريخي.كما يقوم بالتعريف بالكاتب وتوضيح مصدر النص وتاريخ النشر. كما يوضح على نحو دقيق طبيعة المادة المترجمة هل هي (ترجمة وتلخيص، أم ترجمة وعرض، أم ترجمة فقط). وتلك دقة علمية اشتهر بها البروفيسور الهاشمي مستقاة من ميسم تفوقه البحثي وتميزه العلمي. وللبروفيسور خاصية أخرى في إضاءة النص المترجم وهي ربطه بنظائره ومتشابهاته من حيث الموضوع أو تاريخ الكتابة. إن من آيات إبداع الكاتب في هذا السياق مثلاً مقاله عن الدور الذي لعبته حيوانات السودان مع الجيوش المتحالفة يقول: "ذكرني هذا المقال القديم بمقال نشر في صحيفة "كريستيان سينس مونتور" في عام 2007م بعنوان "الحمير في دارفور" يصف فيه الكاتب الحمار في سنوات الحرب في دارفور بأنه ليس فقط دابة للنقل والحمل، بل هو سيارة "بيك أب" حية لحمل الماء والحطب، وللفرار من أتون القذائف وجحيم المعارك، ولإنقاذ الأرواح... ولعله بهذا التوصيف يفضل بعضاً من بني البشر من مختلف الملل والنحل والألوان". إضافة إلى كل هذا التميز الباذخ فهو أيضاً صاحب خاصية أخرى في الترجمة وهو اختيار المفردة المعبرة بحس لغوي بديع سواء كان من المقابل اللغوي الفصيح أو الإيحاء من المخزون الشعبي المعبر، فمثلاً يقول في الجزء الثاني من كتابه "السودان بعيون غربية" في مقال عن الأمثال الشعبية بقلم هنري جاكسون، يقول الكاتب إن السودانيين يجيدون المرح والردود السريعة المفحمة ويفهمون لغة "المطاعنات".وهي عبارة موغلة في الثقافة السودانية. شرفني البروفيسور بدرالدين الهاشمي بالمشاركة في تقديم الجزء الثالث من سلسلة كتابه "السودان بعيون غربية". وهذه أريحية العالم وديدن المثقف الأصيل. فهو عالم ومحقق ثبت في ميدان تخصصه الأكاديمي، ومبدع متفرد في نشاطه الترجماني وهو يصدر عن رؤية ثاقبة ومشروع ثقافي لنشر الوعي بالتاريخ، وتعميق التربية الوطنية.وهو في ترجماته لا يسلم بالمزاعم والأوصاف التي تقدح في السودانيين، مهما علا كعب كاتبها بل ينتقدها ويفندها ويرد عليه بحس وطني أصيل مثل تعليقه على تقرير اللورد كرومر الوارد في الجزء الثاني بعنوان "السودانيون في بداية القرن العشرين"، إذ يقول " وما ورد في التقرير مثير للغيظ وداع للكراهية". وهو كاتب جم المواهب متعدد الاهتمامات وافر النشاط بديع الاختيارات في كل ما يصدر عنه. تحفظ له المكتبة السودانية إضافة إلى الأجزاء الثلاثة من كتاب "السودان بعيون غربية" أيضاً ترجمات مهمة للروائية السودانية العالمية ليلي أبو العلا "حارة المغني" و"مئذنة".التي طرزها إضافة إلى براعة الترجمة بروح سودانية أليفة تكاد تحسها تسري بين السطور والرواية تدور معظم أحداثها في السودان.هذا إضافة إلى الكتاب التوثيقي المهم عن يوميات ثورة أكتوبر للبروفيسور الأمريكي "كلايف طومسون". يمثل النشاط الترجماني المبدع للبروفيسور بدرالدين الهاشمي في كتابه الذي بين يديك عزيزي القارئ ركنا أصيلاً في مسودة مشروع الوعي والنهوض الثقافي الخلاق في السودان.