هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته في مساء 25 نوفمبر 2009 كنت أكملت اليوم الأول لي في القاهرة. لم أعرف بعد ماذا سأفعل، أو كم سأبقى. فقط جئت أحمل حقيبتين. ورقم هاتف زميل الدراسة القديم طلال عفيفي. اتصلت به، فأجابني مرحباً ببشاشة تزيل الوحشة. التقينا، فأكرمني وهوّن عليّ الغربة. في اليوم الثاني اتصل بي وقال لي لنذهب إلى حفل توقيع رواية لصديق. اتبعته الى ميدان التحرير، تهنا قليلاً، ثم دخلنا مكتبة الجامعة الأمريكية. هناك – وبدون سابق معرفة او ترتيب – عرضت علينا احدى السيدات دعوتين لحضور حفل تسليم جائزة نجيب حفوظ بعد اسبوعين في الجامعة. اعتذر طلال لأنه على وشك السفر عائداً للخرطوم ليبدأ مشروعه سودان فيلم فاكتوري. وقبلت أنا الدعوة. مساء الجمعة 11 ديسمبر 2009 دخلت وحدي قاعة الجامعة الأمريكية لأشاهد الروائي السوري خليل صويلح يتسلم جائزته عن رواية ورّاق الحب. لم أكن أعرف في كل القاعة إلا محمد هاشم صاحب دار ميريت، والذي عرفني عليه طلال قبل أيام وسافر. محمد هاشم الذي قبل بعد شهور أن ينشر لي رواية الكونج، وهو يعلم ألا أحد في مصر كلها يعرفني، ربما سبعة أو ثمانية أشخاص فقط. لكنه قبل المخاطرة. وبفضل رواية الكونج سهل عليّ أن تعرض دار العين نشر روايتي الثانية التي أتت بعد ثلاثة أعوام، شوق الدرويش. الحكاية عن رواية، أو عما صاحب كتابة رواية من أحداث أمر به تشويق ولذة لا أظن كاتباً ينكرها، لكن به قدر كبير من الرهق في ذات الوقت. رواية "شوق الدرويش" التي أسعد بأن الله أكرمها فحصلت على اهتمام مقدّر من القراء والنقاد، وانتقتها لجنة جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة لتحصل على جائزة هذا العام 2014 لها حكايات طويلة ككل عمل روائي آخر. يقول جابرييل ماركيز في خطبة ألقاها في بنما عام 1995 "قال لي ابن بلدي أوجوستو راميريث من السهل أن يعرف الواحد منا متى وصل للشيخوخة لأن كل أحاديثه ستصير حكايات. قلت له لو كان الأمر كذلك، فأنا قد ولدت عجوزاً". أحب أن أخدع نفسي أني مثل العظيم ماركيز. أنا رجل مولع بالحكايات. لكن لا المجال ولا الزمان يناسبان حكاية كل شيء الان. فسأقص عليك منه شيئاً يسيراً. حكاية شوق الدرويش بدأت في مترو القاهرة في مارس 2011. في الطريق من محطة سعد زغلول إلى محطة المعادي. بداية محبطة، وعادية لا تشي بشيء. لا أساطير خلفها، ولا لحظة تنوير مهمة. اللهم إلا ما يصاحب اهتزازات المترو. لقاء ليلي مع بعض الأصدقاء المصريين، ودماغي تئز بأشياء كثيرة، حينها بدأت حكاية الرجل المنتقم في فترة المهدية تأتيني. من المؤكد أنه كان لها جذور ما، بدأت في قصة "الخواء" بمجموعتي "سيرة أم درمانية" الصادرة عام 2008، انهزام الإيمان، تزعزع اليقين، السؤال الوجودي الدائم عندي "بماذا أحس الأنصاري المؤمن ساعة رأى قبة المهدي تتحطم ليلة 2 سبتمبر؟" الشكل الأول للرواية وموضوعها جعلني أختار لها اسم "ترنيمة الجّلاد"، بدأت رواية شعرية، أقرب للغنائية، تدور داخل نفس البطل الأوحد. لكن كتابة الرواية أكثر من أربع مرات غيرتها تماماً. نقضتها أكثر من مرة، وأعدت كتابتها كاملة، وبعض فصولها، كثيراً. وكنت في كل مرة أبدأ بالرضا وأتوقف شاعراً بالسخط عنها. في مرة توقفت سبعة أشهر كاملة. اعتبرتها ماتت، ورأيت أنها رواية سيئة مثل محاولات سابقة كراوية "قال الهوى" و" الغابة" وغيرهما بلغت فيهما ما يقارب النهاية ثم نفضت يدي عنها. لكن القاهرة ومجتمعها الأدبي كان قد علمني حيلة جديدة. الراوية عمل فردي تماماً، لكنه يحتاج لرؤية جماعية. من المهم أن تتكتم على عملك الأدبي حتى يكتمل، لكن على السر أن يحفظه معك عدد من المقربين يقرأون ويناقشون ويقيمون. واحدة من أهم من أثقلت عليهم بهذه الرواية كانت الصديقة المثقفة ميسون النجومي. كانت الفصول تسافر من مصر إلى استراليا متحدية المسافات، وفروق التوقيت، لتُقرأ وتعود بمناقشات وتعليقات. في بعض المرات كنت أهرع لصندوق البريد الالكتروني لأرسل فكرة ما، مشهد أريد اضافته، وتقضي الصديقة ميسون ساعات في مناقشته وتفكيكه معي، ثم أرسل الفصل دون ذلك المشهد. وحين تسألني أقول بكل استخفاف "غيرت رأيي ولم أكتبه". هذا الأمر استمر لسنوات ثلاث. ربما لو حسبت فترات التوقف فيها لقاربت العامين. أنا في مدينة تشتعل بالثورة، والحركات الاحتجاجية، وشوارعها مغرية بالاندماج في ذلك الحراك ومشاهدته عن قرب، فمن أين يأتي المزاج الرائق للكتابة عن شخوص في القرن التاسع عشر في بلاد أخرى. تشجيع الدائرة المؤتمنة من الأصدقاء أنقذ العمل من الهجر الكامل. وبمعجزة ما اكتملت الرواية. ربما في فبراير من عام 2014. لكني ظللت أعمل عليها حذفاً واضافة، حتى دخلت المطبعة في يونيو. لم يكن أمر دار النشر سهلاً. فرغم علاقات وشيء من اسم حاولت بنيانه خلال الاعوام الخمسة التي قضيتها في القاهرة، كانت مخاطرة طباعة رواية تاريخية بهذا الحجم، وفي هذا الوقت، وعن هذا الموضوع مخاطرة. دار ميريت، بيتي الأثير كانت تطبع لي في ذات الفترة مجموعة قصصية بعنوان "النوم عند قدمي الجبل". ودار العين التي أكرمتني صاحبتها د. فاطمة البودي بطلب العمل، اختلفنا على تفاصيل تخص النشر. طرقت دارين أخريين، فلم أجد رداً. وقلت لنفسي الخير فيما اختاره الله. وهي رواية لاقت من عكوسات الكتابة ما لاقت. فدعها وابدأ في غيرها. ثم أتاني اتصال دار العين يعيدون النظر في أمر النشر. وبعد اجتماع سريع وقعنا عقداً على عجالة. وذهبت الرواية إلى طريقها. وكان ذلك الطريق هو ما أوقفني على مسرح القاعة الشرقية أمسية الخميس 11 ديسمبر 2014 لأتلقي جائزة نجيب محفوظ للأدب عن هذه الرواية. هل أملك أن أقول شيئاً؟ سمعت مريد البرغوثي مرة يلوم الكاتب الذي يقول "لا أجد ما أقوله". قال إن هذا قول لا يليق بكاتب. لذلك سأقول اني شاكر جداً. شاكر للجنة التحكيم التي اختارت روايتي لتمنحها الجائزة، وشاكر للقراء الذين راقت لهم، وشاكر حتى لمن أنتقدوها.