في محادثة هاتفية عام 2008م مع المغفور له بإذن الله الشيخ زين العابدين الركابي، قال إنه سيبعث إلي بنسخة من كتابه الجديد : سلمان بن عبد العزيز الجانب الآخر، فقلت له: اشتريت الكتاب فور صدوره. منذ يومين أخذت الكتاب من الرف وقد حفزني على قراءته وإدامة النظر فيه، تولّي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في المملكة العربية السعودية، وما استشعرته من مظاهر الاستبشار والأمل التي أظهرها الشعب السعودي. فهذا الكتاب يتناول الجانب الآخر لرجل قُدر للمؤلف أن يقترب منه ويعرفه معرفة مباشرة موسعة. يكشف الشيخ الركابي العلاقة التي نشأت بينه وبين الأمير سلمان بن عبد العزيز أكثر من عقدين من الزمان، ويصفها بأنها علاقة فكرية علمية ثقافية في الصميم، ويسأل: "هل الأصل في العلاقة بين المثقفين ورجالات الحكم أن تكون علاقة جفاء ونكد وتربص وعداوة ... ومن قال هذا؟ ... ولماذا التعود على أن تكون العلاقة مكتومة بين المثقفين ورجالات الحكم؟ هل هي (علاقة سرية) يجب كتمانها أبداً؟". وتبدو شهادة الشيخ زين العابدين ذات أهمية كبيرة "بمقتضى مخالطة طويلة ... وهي شهادة هيأتها وكونتها الصلة التي تكاد تكون يومية". ولعل أبرز ما يستوقف قارئ الكتاب، تلك الصفات والمواهب والمزايا الشخصية التي يراها المؤلف امتداداً وأثراً للملك المؤسس عبد العزيز. ومن هذه المزايا: التزام نهج الملك عبد العزيز في الصلة بالقرآن. نشرت جريدة أم القرى في أغسطس 1945م وقائع حفل ختم الأمير سلمان بن عبد العزيز للقرآن الكريم الذي أقامته مدرسة الأمراء. يقول المؤلف رحمه الله: "نعم التزم سلمان نهج والده فله صلة وثقى بالقرآن المجيد، وثمة جائزة تحمل اسمه تحفز الأجيال على حفظ كتاب الله وفهم معانيه... وصاحب تلك الجائزة القرآنية نعلم أنه صاحب صلة يومية متجددة بكتاب الله، فهو لا يترك ورده القرآني في حضر ولا سفر". ويذكر المؤلف شيئاً عن تقدير الوقت ودقته والانتظام في العمل. يقول: "كنت أسمع أن موظفي الإمارة يضبطون ساعاتهم على وقع مجيئه إليها، فأحببت أن أزداد بطريقة ميدانية مباشرة فليس الخبر كالعيان، فذهبت إلى مكتبه مبكراً قبل أن يجيء في الموعد المحدد. فلما أخذ مؤشر الساعة يتجه إلى الوقت المعين قلت: لعل شيئاً قد أخره هذه المرة. ولم يكد هذا الخاطر يجول في الذهن حتى طلع علينا بادئاً يومه المنتظم". أما في جانب الاطلاع المتجدد على الأحداث داخلياً وخارجياً، فهناك مزية مشتركة بين الملك عبد العزيز وابنه سلمان. تذكر المصادر التاريخية أن الملك عبد العزيز كان يقرأ معظم الصحف العربية إضافة إلى ما يرد في أمهات الصحف العالمية، وكذلك هي الحال بالنسبة لابنه سلمان الذي يؤثر الاطلاع المباشر على عدد كبير من الصحف بكرة كل يوم. كتب الشيخ زين العابدين الركابي: "ذات يوم وفي السابعة صباحاً دق جرس هاتفي، فتناولت السماعة وإذا بصوت المتحدث يقول: سلمان بن عبد العزيز، وكانت المفاجأة المدهشة، فهو يتحدث مباشرة دون الوسيط، ثم هو يتكلم من أمريكا ساعتئذ، وكان موضوع الحديث تعليقاً على مقال كتبته ذلك اليوم". وفي فصل نفيس عنوانه: المفهوم التنويري للدين، يتناول المؤلف جانباً آخر مضيئاً في شخصية الملك الجديد، ألا وهو القدرة على التناغم بين الثابت والمتغير، فالكتاب والسنة أصلان ثابتان ومع ذلك لم يمنع القرآن أو السنة من إصدار الأنظمة (القوانين) التي تتطور بتطور الأزمنة. إن ثبات المصدر لا يعني جمود الفهم ولا التحجر في صيغ التطبيق كما قال هذا الرجل الموفق الذي لم يشغله الحكم والسياسة عن الاكتراث الجم والاهتمام الدائم بقضية (الهندسة التوازنية بين الثابت والمتغير). وبعد تحليل موضوعي مستند إلى أقوال العلماء الراسخين يخلص المؤلف إلى استنتاج لافت: لست أقول: إن سلمان (عالم)، بل أقول باطمئنان: إنه (مفكر)، فكر في حقائق التوحيد ووقائع الإبداع، فخرج بمفهوم أنهما متكاملان متناغمان.. وهذا حق. ثم يستفيض الكتاب في عرض شائق لقصة الإبداع العمراني الحضاري في مدينة الرياض، تلك المدينة التي عمل سلمان بن عبد العزيز نصف قرن من الزمان حاكماً عليها، وتمكن من أن يجعل منها (وعاءً للإبداع) المتعدد المجالات، وكما يقول المؤلف: "إن الحياة والمدن ليست أسواقاً ومباني وشوارع جافة، فهناك الرواء والبهاء الماثلين في بهجة الحدائق وجمالها". وتركيز الكتاب هنا ليس على الجانب الإنشائي أو التنفيذي، وإنما على جانب الرؤية والرسالة والطموح المتوثب والحس الأمني ، وهي الصفات الشخصية التي أنتجت مدينة الرياض. وهذه الصفات هي التي يسميها المؤلف الجانب الآخر، وهي قيم منحت عمران المدينة طابعاً خاصاً في نسيجه وتركيبه. قد يظن بعض من يقرأ عنوان هذا الكتاب أنه مجرد مطبوع (دعائي) عن رجل في موقع السلطة والنفوذ. ليس الأمر كذلك، فأنا أعرف عن الشيخ زين العابدين أنه لا يكتب شيئاً لم ينفعل أو يقتنع به. إنه كتاب علمي رصين يرصد القيم والرؤى التي أبرزت فن الحكم والإدارة والاهتمام بحقوق الإنسان والعمل الخيري لدى الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود. والكتاب فيه حوارات عميقة في قضايا السياسة والعلاقات الدولية والشورى والإصلاح مع رجل امتاز برؤية فكرية مفعمة بالحس التاريخي. لم يكن الغرض إذن من تأليف الكتاب هو مجرد تمجيد أو إبداء المناقب والمآثر، وما أكثرها عند سلمان. وعن ذلك يقول المؤلف: "الثناء بالحق على سلمان في هذا الكتاب لا يعني أنه معصوم من الخطأ، فمن العقائد الراسخة أن العصمة لا تكون إلا لنبي، وإيمانه هو نفسه بذلك راسخ جد راسخ". لا شك أن الشيخ زين العابدين الركابي قد وضع بصمة في كتابه: سلمان بن عبد العزيز الجانب الآخر، لمن يريد استشراف عهد جديد بدأت ملامحه تلوح في الأفق.