كتبت عن حياة وأثر المهندس حسن بابكر قبل ثلاث سنوات، متوسلاً ومنبهاً الى قرب الذكرى المئوية لميلاده. وها قد أظلتنا الذكرى الثانية بعد المائة لميلاده. ولم يسعفن البعد الجغرافي عن السودان في التشاور مع مجموعة خيّرة ممن تعرفوا على سيرة هذا الرمز الوطني، فكراً ومثابرة وتضحية في مضمار السياسة والعمران، وفى قوة المثال الذي قدمه لأبنائه وبناته من الأجيال اللاحقة. ومما يحز في النفس أننا ننصرف كثيراً عن مهمة العناية برموزنا الوطنية الكبيرة في مضمار السياسة والاقتصاد والآداب والرياضة وتربية الاجيال الناشئة وغيرها من ضروب الحياة. والعناية بتراث السابقين فطنت الى أهميته شعوب كثيرة، فخلدت رموزها، وشيدت المنشآت لحفظ تراثهم الوطني لتستمد منه الحكمة والدروس النافعة في حاضرها ومستقبلها. وصحيح أن السودان يجتاز مخاضاً عسيراً وتتناوبه الأزمات من كل حدب وصوب، ألا أن هنالك دروسا تعيننا في الفكاك من براثنها اذا أحسنا النظر الى تجارب رموزنا الفكرية والسياسية والدينية. وليت معاهد البحث والجامعات على شح مواردها المالية تؤسس لمشروع اعادة تجارب السابقين ووضعه بين ايدي الأجيال الراهنة. من الأمثلة الوضيئة في العناية بحفظ تراثها، تلك المبادرة التى خطها حزب الأمة يوم أن تولى اعادة رفاة الإمام الهادي المهدي الى أهله ومواراته الثرى بين صحابته ومريديه في ضريح أسرته. وعلى غير عادة الشيوعيين الذين يستثيرون حماسة الشعب بتفانيهم في العمل الحزبى والوطني، الا أنهم وحتى هذا اليوم لم يبدوا الاهتمام المطلوب بقبور أبرز قادتهم عبدالخالق والشفيع وجوزيف قرنق وهم على مرمى حجر في مقابر السيد المكي (الخرطوم بحري). وقد دل على هذه القبور الراحل العميد سعد بحر رغم عدائه للشيوعيين. وبمساعدة الراحل الدكتور الهادي أحمد الشيخ، تمكنت من تصوير تلك القبور ونشرتها في أكثر من صحيفة، وبعثت بنسخ منها الى أسرتي عبدالخالق والشفيع. وحتى يومنا ظلت قبور هؤلاء الراحلين بدون شواهد تدل على أسمائهم، وتاريخ مماتهم. وليت هذه الاشارة تحرك أهلهم ورفاقهم وعارفي نضالهم وتضحياتهم الى القيام بما يليهم الواجب نحو شهدائهم. السودان غنى برجاله ونسائه ممن يضعون الوطن في حدقة العين. ولا نكف عن تكرار الدعوة للعناية باسهام الأحياء والأموات منهم بحسبانه دين واجب السداد. فلندعو على اختلاف انتماءاتنا الى تكوين هيئة قومية بمعنى الكلمة ومن نساء ورجال يترفعون عن الاعتبارات الضيقة. تكون مهمتها اعادة قراءة التاريخ الحديث وأحياء مآثر أكثرهم اسهاماً. وهنالك ضرورة قصوى لمعاودة هذا الموضوع حتى يقيض الله له أن يجد أذاناَ وعقولاً تنهض بما يشغل بال الكثيرين من مختلف مضارب الحياة. وقد كان همي في بداية الأمر أن أعيد الى الذاكرة الوطنية ذلك الاسهام العظيم للمهندس حسن بابكر. فهو وطني قل أمثاله ومثابر في الوفاء لمبادئه منذ سني دراسته الأولى. وبرز في مقدمة طلاب كلية غردون الى جانب مكي المنا ومحمود محمد طه وآخرين لم تسعفن الذاكرة بأسمائهم، ألهبوا حماسة زملائهم في المطالبة بمقاومة الاستعمار البريطاني. وبعد التحاقه بالعمل في مصلحة السكك الحديدية بعطبرة لم يكف عن الدعوة لمقاومة الحكم الاستعماري. مما أدى الى فصله من الخدمة. فانتقل بعدها الى العمل الحر وشارك في بناء عدد من المنشآت التنموية الكبيرة وخاصة في تشييد ترعة الرهد، وفي بناء عدد من المرافق المشابهة في غرب السودان. وكان له اهتمام كبير ببناء أفرع للحركة التعاونية. وكان من أوائل المنضوين في المؤتمر العام للخريجين، وأشرف على اقامة فروع له في مختلف أرجاء الوطن. ومع نشأة الأحزاب الوطنية كان من المبادرين بالانضمام للحزب الوطني الاتحادي. وكان ضمن لجنته الستينية القائدة. ووقف الى جانب الزعيم الأزهري في صراعه مع طائفة الختمية وانفصاله عنها. وتم انتخاب المهندس حسن بابكر الحاج للبرلمان في عام 1966، وهى فترة شديدة الاضطراب ابتداء من معركة حل الحزب الشيوعي السوداني، ومحاكمة الأستاذ محمود محمد طه وتجدد الحرب الأهلية في جنوب السودان. وكان حسن بابكر ثاقب النظر لا يتوانى في الافصاح عن قناعاته الأصيلة، مما تسبب في انفصاله عن الحزب الوطنى الاتحادي وخاض الانتخابات التالية مستقلاً. ولكنه سقط في المنافسة الانتخابية في دائرة مروي الشمالية أمام مرشح الحزب الوطنى الاتحادي، بعد أن تكالبت عليه قوى ضيقة الآفاق من اصدقائه وخصومه السياسيين وحالوا دون فوزه. فى مواجهة قيادة الحزب الوطني الاتحادي التي تصدت لحل الحزب الشيوعي لم يكن حسن بابكر هو المعارض الوحيد للزعيم الأزهري في قرار حل ذلك الحزب، بل تحلق حوله رهط من النواب من مختلف الأحزاب، كان هو رائدهم وقائدهم. وقد اطلق حسن بابكر كلمات لها صدى في مناشدته للحفاظ على التجربة الديمقراطية والنأى عن المكايدة السياسية. فقد أطلق في سياق تداول أمر الحل كلمات ناصعة "من الخير لي ولأبنائي أن أموت شهيداً من شهداء الحرية، من أن أكون خصماً عليها." وفى سياق أخر انبرى مدافعاً عن الأستاذ محمود محمد طه الذى واجه تهمة الردة أمام المحكمة الكبرى. وكتب في صحيفة الأيام مقالاً ينضح بالتجارب التى عادت وبالاً على شعوبها. وساق مثال الشاعر الهندي الكبير محمد اقبال الذي تعرضت لتواطؤ الحزب الحاكم لاقصائه عن العمل السياسي. وختم حسن بابكر مقاله بكلمات مجلجلة جاء فيها: "اللهم اذا كان محمود مرتداً فأنا ثانى المرتدين." هذا غيض من فيض المواقف الكبيرة لواحد من مفاخر الوطن نضاهي به آباء الديمقراطية الحديثة من أمثال لوك، وفولتير، وبنجامين فرانكلين، وغيرهم. تحية وتجلة لهذا الرمز الوطني في الذكرى الثانية بعد المائة لميلاده. د. عبد الماجد بوب