د. عبد الماجد بوب أخاف أن تمضى الذكرى المئوية لميلاد المهندس حسن بابكر الحاج دون أن تجد حقها من الاحتفاء والتقدير اللائق. واذا تلمسنا عذر التجاوز والنسيان لأبنائنا وبناتنا من الاجيال الحديثة، فلن نجد العذر لأمثالنا ممن عايشوا النهضة الأولى لا للحركة الوطنية والزخم الهائل الذى حملته ثورة اكتوبر، وما أعقبها من نهضة أعادت للسودان بعضاً من حيويته وتفوقه فى مضمار الممارسة الديمقراطية. المهندس حسن بابكر الحاج تجسدت فى تاريخه معانٍ كبار. المعانى وأسهم بقدر مشهود مضمار السياسة والعمران، وفى ترسيخ أسس ومبادئ العمل التعاونى في السودان. وهذا المقال يدعو كل الوطنيين الى أحياء مئوية واحد من أبرز أعلام الوطنية السودانية. ولد حسن بابكر الحاج فى عام 1913 فى مركز مروى. وتلقى تعليمه الأولى فى مدينة عطبرة ومن ثم التحق بكلية غردون – قسم الهندسة. وتعلم على أيدى أبكار المعلمين السودانيين ومنهم ابراهيم أحمد واسماعيل الأزهرى. وفى سنى الدراسة بالكلية توثقت صلاته بشكل خاص بمكى المنا (وزير الرى لاحقاً) ومحمود محمد طه. وكان للمهندس حسن بابكر وقفات مجيدة فى الدفاع عن الاستاذ محمود محمد طه فى أيام الحملة الجائرة التى استصدرت حكماً بارتداده . كما أنه انبرى ضمن قلة، لمعارضة قرار البرلمان أنذاك بحل الحزب الشيوعى. وقدم استقالته من الحزب الوطنى الاتحادى الذى أسهم فى تأسيسه وصار عضواً فى مجلسه الستينى منذ تأسيسه لذلك السبب. يروى عنه بعض معاصريه أنه كان جسوراً بفطرته ولم يخف بغضه للحكم الاستعمارى ممثلاً فى ادارة مدرسته فى مدينة عطبرة. ويذكر بأن مدير المدرسة الانجليزى اصدر على نحو متغطرس عقاباً جماعياً للتلاميذ قضى بحرمانهم من تناول الشاى لبضعة أيام. وكان رد الفعل الذى أبداه حسن بابكرممعناً فى التحدى. و قرر من يومها التخلى عن شرب الشاى مرة والى الأبد. وتجلت البدايات الأولى لوعيه السياسى خلال دراسته فى كلية غردون. فقد أورد المهندس مكى المنا أول رئيس لاتحاد طلبة كلية غردون ضمن ذكرياته أن حسن بابكر انبرى ذات مرة أمام زملائه الطلاب عند أخذ التمام صباحاً وهاجم الاستعمار الانجليزى الذى أرهق كاهل الشعب بالطلب (ضريبة يدفعها المزارع عن الأطيان والنخيل) دون أن يقدم للناس الخدمات الضرورية. كان حسن بابكر من أوائل الذين تنادوا لتأسيس المؤتمر العام للخريجين الذى أطلق فكرته أحمد خير (وزير الخارجية فى عهد الفريق ابراهيم عبود 1964-1958) وخلال سنى عمله فى مشاريع الرى فى مناطق عديدة فى السودان حمل معه بذرة الحركة الوطنية الناشئة، ووقف جهده على اقامة فروع للمؤتمر. بداية فى مدينة عطبرة وبطبيعة الحال كان نشاطه مرصوداً لدى الادارة الاستعمارية وتعرض لمضايقات شتى حملته ورفيق كفاحه المهندس محمود محمد طه. وثلة من المهندسيين الوطنيين الى تقديم استقالتهم من السكك الحديدية. اتجه بعدها الى العمل الخاص فى مشاريع الحفريات والرى وكان حسن بابكر من أوائل المهندسين السودانيين الذين عملوا بعد الاستقلال فى انشاء مشاريع الدالى والمزموم والرهد وفى شق الترع فى غرب السودان. هنالك جوانب عديدة فى شخصية المهندس حسن بابكر تدل على ترفعه عن الطموح الى منصب مرموق وامتياز يتهافت نحوه من هم أدنى بقدراتهم منه. كان رجلاً طليعياً فى أفكاره وفى حرصه على الاستئناس بآراء أبنائه ورفقائه المثقفين. وكان حريصاً على الحضور والمشاركة فى المنتديات الأدبية وفى مجالسة المثقفين البارزين على اختلاف ميولهم السياسية. وكان من بين أصدقائه الخلص محمد عمر بشير ومحمود محمد محمد طه وداؤود عبداللطيف ومحمد سعيد معروف وجعفر الحسن، من زعماء حركة الطلبة فى الكلية الجامعية. وكان من المداومين على الحضور والمشاركة فى الندوات التى تنظمها دار الثقافة. ومبلغ علمى أن طائفة واسعة من ابكار المثقفين السودانيين حرصت على متابعة نشاط الجمعيات التقدمية فى أوربا ومن بين هذه الجمعية الفابية. ومعلوم أن الفترة التى أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية قد شهدت نهوضاً عارماً للجمعيات والاحزاب الأوربية التى تبنت أفكار العدالة الاجتماعية وحرية الرأى وحق تقرير المصير للشعوب المستعمرة. وبهذا المعنى فاننى أميل الى الزعم بأن المهندس حسن بابكر قد نهل من هذه الافكار. كما أن وقفاته المجيدة فى الدفاع عن الحقوق المدنية يتلاقى مع أفكار المؤسسين الأوائل للمدارس الفلسفية فى الغرب، وفى طليعتهم جون لوك، وروسو وفولتير وبنجامين فرانكلين وجيفرسون. الى جانب اهتماماته السياسية والانخراط فى المشاريع الاصلاحية كان المهندس حسن بابكر أديباً وشاعراً متقناً. وقد أهدتني احدى كريماته بعض المقاطع التى صاغها احتفاءً بميلادها:(آمال يا رمز الحياة وأعذب الامال عندى / ياخيرة الأحساب والأنساب من جد لجد/ يا بسمة الصبح العليل تهب من علياء نجد). كان حسن بابكر انساناً متمدناُ. لين الجانب. وكان حفياً بزوجته، النعمة، على غير عادة الازواج فى تلك الأيام، ممن يتمثلون الشدة مع سائر النساء وخاصة زوجاتهم، باعتبار ذلك عنواناً للرجولة والحزم. حسن بابكر فى رقيه وسعة أفقه كان شديد العناية بتنشئة بناته وأبنائه على قدم المساواة. وحضهم على مواصلة تعليمهم كلٌ بقدر مستطاعه. حرص على تربية أبنائه وحثم على الاعتماد على النفس. وقدم فى حياته مثالاً لاعلاء قيمة العمل. ولم يتأفف من العمل اليدوى فى مزرعته الخاصة. واتسم بالتواضع فى تعاملة مع سائر الناس والنأى عن مظاهر البذخ والتنعم. رحم الله حسن بابكر فقد كان ممدود اليد لايضن على أحد. يخالط الناس فى افراحهم واتراحهم حتى تخطفه الموت في العام 1974. امتدت اهتمامات المهندس حسن بابكر الى مجالات عدة، وله دراسات فى تراث الشايقية وعلم الفلك مواصلة لما بدأه العالم السودانى الريح العيدروس واعد مخطوطة عن الثورة المهدية ومن بين محفوظاته كراسات لعدد من زملائه فى المراحل الدراسية الباكرة. ومما يحز فى النفس أن جل كتاباته قد تعرضت للنهب من منزله بالخرطوم. وقد كان شديد العناية بالتوثيق وماتبقى من مخطوطاته ومراسلاته يحتاج الى العناية والترميم والتفاكر مع أبنائه حول امكانية أيداعها فى احدى الجامعات أو دار الوثائق المركزية. فى اعقاب ثورة اكتوبر 1964 خاض حسن بابكر انتخابات الجمعية التأسيسية وفاز عن دائرة مروى الوسطى. ومن المفارقات المحزنة أنه عاد للترشح عن دائرته للمرة الثانية بعد أن استقال من الحزب الوطنى الاتحادى بسبب ما راه خذلان لمبادىء الديمقراطية من قبل رئيس الحزب اسماعيل الازهرى. واثناء طواف له فى انحاء دائرته الانتخابية، حكى حسن بابكر بروح مرحه أنه التقى صبياً من أبناء المناصير. وسأله مداعباً: "ياولد ناس البلد دى ماشين يصوتوا لى منو؟" فرد عليه الصبى بأن الناس كليهم سيمنحوا أصواتهم لمنافسه ‘أب سفه). فسأله حسن بابكر لماذا. فرد الصبى بخاطر عفوى: "علشان أب سفه ماشى يرقد لنا السعوط!". وفى حقيقة الأمر أن قيادة الحزب الوطنى ضاقت ذرعاً بمواقف حسن بابكر ونزوعه للدفاع عن الحقوق السياسية للجميع. والفترة التى أعقبت ثورة اكتوبر شهدت تصاعداً حاداً فى المواجهات الفكرية والسياسية. أسهم فى تأجيجها السيد اسماعيل الأزهرى، والامام الهادى المهدى والسيد الصادق المهدى والدكتور حسن عبدالله الترابى والبروفسير محمد ابراهيم خليل. والسيد محمد أحمد محجوب. وجل هؤلاء من الرموز السياسية والدينية المقدرة. الا أنهم لم يتورعوا عن تعريض التجربة الديمقراطية لمخاطر حقيقية أفضت الى طريق مسدود. وما حدث بعد ذلك على أيدى العسكريين كتاب معلوم. وفى المقابل وقف المهندس حسن بابكر محذراً قادة الوطنى الاتحادى من الانزلاق الى منعرج المكايدات وتأجيج مشاعر بسطاء الناس. وكانت معركة حل الحزب الشيوعى أخطر العقبات التى حذر من عاقبتها ، ووقف مع قلة من نواب الوطنى الاتحادى مدافعاً عن الحريات السياسية.والمدنية. وكانت مناقشات الجمعية التأسيسية فى 15نوفمبر1965 من اللحظات القاتمة يوم أن توارت جسامة المسئولية والحكمة المعقودة بصناع الدستور وصونه وحلت محلها نزعة الاقصاء للرأى الاخر امتهان حرمة الدستور والهيئات القائمة على عدالة تطبيق بنوده. استهل المناقشات المشحونة بالاثارة زعيم الجمعية ورئيس الوزراء محمد أحمد محجوب وطالب برفع المادة 25 (8) من اللوائح الداخلية لمناقشة مسألة مستعجلة. ثم تلى اقتراحاً تضمن الأتى: "انه من رأى هذه الجمعية التأسيسية ... أن تكلف الحكومة للتقدم بمشروع قانون يحل بموجبه الحزب الشيوعى السودانى.." وسار على نفس المنوال رهط من نواب الحزب الوطنى الاتحادى والأمة (بجناحيه) وجبهة الميثاق الاسلامى. فاستهل الحديث عضو الجعية التأسيسية ووزير العدل بروفسير محمد ابراهيم خليل "ان الجمعية لن تجيز حل الحزب الشيوعى باسم الالحاد بل باسم الله والدين والوطن والتقاليد والاخلاق السمحة..." ثم تحدث العضو الدكتور حسن عبدالله الترابى ووجه للحزب الشيوعى خمسة تهم تتعلق بالايمان والاخلاق والديمقراطية والوحدة الوطنية والاخلاص للوطن. وهنا تناول محمد ابراهيم نقد نائب عن دوائر الخريجين حديث الدكتور الترابى فقال "ان الحديث عن الاخلاق يكثر فى هذا المجلس، وذلك كل ما واجه المجلس أزمة حقيقية تجاه حل القضايا الكبرى. وقد يكون الحديث عن الاخلاق ذا قيمة وينبغى المحافظة عليه .ولكن التحدث عن الاخلاق عند بروز الأزمات يوضح أين تكمن الاخلاق الجريحة. وقال بأن تصريحات الدكتور الترابى متضاربة ومن المهم أن يواجه الانسان خصماً سياسياً له رأى واضح. أما التذبذب والتلون فى المبادىء والاخلاق فا أجد نفسى فى حاجة للرد عليه." وقبل ان يجاز الاقتراح بحل الحزب الشيوعى السودانى باغلبية 151 ومعارضة 12 وامتناع 9 عن التصويت، نهض العضو حسن بابكر الحاج مخاطباً الجمعية التأسيسية ومحذراً من خطورة الانقلاب على مبادىء الديمقراطية ققالتى استردها الشعب بانتصار ثورة اكتوبر. "رجائى ان تتركوا الحماس جانباً وتحموا الديمقراطية التى عادت الينا بعد تضحيات لم نبذل مثلها فى معركة الاستقلال، فتاكدوا بانها ستنزع برمتها منكم كما نزعت فى الماضى. ولا اريد أن أسجل حرباً على الديمقراطية. فخير لى ولأبنائى أن يدفنونى شهيداً من شهداء الديمقراطية بدلاً من أعيش حياً فى عهد وأد الديمقراطية." وقد أورد الاستاذ الفاضل عباس محمد على فى مقال له عن المهندس حسن بابكر أنه طلب من أبنائه أن يكتبوا على قبره بيت من الشعر يجسد ايمانه بمبادىء الحرية والاستعداد للتضحية فى سبيلها: قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدةٌ وجهاد ُ