أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوش الروائي حمور زيادة (1-2) حملة التفتيش في شوق الدرويش
نشر في السوداني يوم 01 - 03 - 2015


في حوش الروائي حمور زيادة (1-2)
حملة التفتيش في شوق الدرويش
(ارحب بأي روحٍ نقدية تجاه تاريخنا في اي شكل أتت. في علم الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، وفلسفة التاريخ. بل أرحب بها أكثر في الفن. لكنني أقرأ بتمعن لأشبع متعتي، ولا ازعم معرفة دقيقة بفن النقد والرواية. اقرأ كما يقرأ الناس، ثم تثور شكوكي، وأرتاب في كل شيء. أقرأ وأرتاب، ثم أقفل الكتاب).
(من رسالة قديمة لصديق قديم)
**********************
(1)
في زمنٍ مضى نهض أحبابي من مناضلي الكيبورد، في واحدة من هباتهم الدورية لتقليم أظافري ونتف ريشي، إما بسبب سوء أدبي مع رموزهم النضالية، أو بسبب تخاذلي عن اللحاق بركب الانتفاضة المرجوة، وإخفاقي في توريد حاجيات السوق من الكتابات الثورية. واتفق أن آزرت تلك الهبة الناشطة السياسية المهجرية الاستاذة عُزاز شامي، فكتبت في هجائي مادة دسمة، ما تركت فيها وما أبقت، شتمتني عبر سطورها شتيمة الأراذل. وقد حازت تلك المادة على اعجاب جميع (المناضلين) بلا استثناء.
والحق أن عُزاز مثقفة سودانية نوبية مبدعة ومتفردة. ولا غرو، فالإبداع والفرادة عند النوبيات كالماء والهواء. وقد حظيت دوماً بإعجابي، ثم محبتي (من طرفٍ واحد)، بعد أن طالعت بعض كتاباتها. ثم شاهدتها مناقشةً ومديرة لحلقات حوار في منابر بعض كبريات المؤسسات الاكاديمية والبحثية الامريكية في واشنطن، فشدت انتباهي بتمكنها وثقتها بنفسها، وجودة محصولها من معارف الشأن العام. فضلاً عن مهارتها وطلاقتها في ألسنة الفرنجة. ثم شاهدتها أيضاً متحدثة في عدد من القنوات التلفزيونية الاجنبية، تلهب ظهور العصبة المنقذة بشواظٍ من لهب، حتى خشيت على النظام في الخرطوم أن يتهاوى وينهار عقب كل حلقة تحدثت فيها هذه النجمة الزرقاء.
حملت عزاز مقالها الناقم ذاك وعلقته على أستار صفحتها في الكتاب الوجهي. وهناك رأيت الحشود الحاشدة تلتف حولها وحول مقالها، المُقعد فوق ظهر الأعمى. كل مناضل يحمد، ويمدح، ويُهنئ، ثم يتبرع بكلمتين قائظتين في هجائي وينصرف. ولأن للروائي حمّور زيادة اسماً ثقافياً بارزاً نسبياً، يتميز به على غيره من عامة معجبي عزاز، فقد لمع اسمه أمام ناظري من بين صفوف المهنئين الشانئين، وظل صامداً في قاع ذاكرتي.
كتب حمّور، بعد أن شدّ على يد عزاز وبارك صنيعها، التعليق التالي: "ليس عندي اي تفسير لما كتبه البطل في مقاله سوى أن يكون قد جنّ"!
بيد أنني لم أر بأساً كبيراً في مُستخلصه ذاك، ولم احمله على محملٍ رديء. بل استهديت بالله، وأسبغت عليه ذلك الشيء الذي يسميه الفرنجة (بينيفيت اوف ذي داوت). او مصلحة الشك، لو صلحت الترجمة. وقدّرت أن نسبة هذا الشاب المبدع ما لا يحب من كتاباتي للجنون قد تجد تأويلها الطيّب وتفسيرها الخيّر في أنه، رعاهُ الله، ربما كان في خويصة قلبه يلتمس لي ملاذاً آمناً يقيني غضبة الغاضبين. فالجنون يرفع التكليف ويرد المسئولية، ويغل العواقب ويهدر مغبّاتها. وفي الحديث: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون، وعن النائم، وعن الصبي حتي يحتلم).
ولو صدقت بصارتي، فإنني سأطلب من حبيبنا حمّور أن يستعصم بذات الراية التي عقدها لي، لا ينفتل من تحتها. وأن يُبقينى على المنهاج عينه، قائماً على صراط الجنون، لا يحيدُ عنه. فإن وجد في قراءتي ثم نقدي لروايته (شوق الدرويش) ما يمجّه ويُنكره، ردّه من فوره الى أسيادي من الجن، وكفاني بعد ذلك بأس الحساب وحر العقاب.
غير أن أملي عظيم ورجائي مقيم أن نفرغ معاً من الدرويش وشوقه في سلامٍ وأمان، وكلانا في كمال العقل وتمام الوجدان.
(2)
أحسبك، أعزك الله، لم تطالع بعد رواية (شوق الدرويش)، التي صدرت مؤخراً عن دار العين المصرية، وتريد مني مبتدأها وخبرها. والحق أن المبتدأ والخبر ليس عندي، بل عند صديقي الصحافي الاستاذ فيصل محمد صالح. وقد نظرت حولي فوجدته قد كفاني الرهق والنصب، فأوجز الرواية كلها في نحو ستمائة كلمة، نشرتها صحيفتان مصريتان.
وقد قرأت الموجز مثنى وثلاث، فألفيت عرضاً نبيهاً ونزيهاً للرواية. ولا عجب، فقد حاز الرجل وسام (النزاهة) من لدن الفرنجة. زانت بها سترته مؤسسة بيتر ماكلر في واشنطن قبل عامين. وها أنا اوشح صدره اليوم بوسام (النباهة) من مؤسسة مصطفى البطل في مينيسوتا.
وقد أعملت أسنان كيبوردي في ذلك العرض الرائق الشائق، فمثلت به تمثيلاً، واجتزأت لك من بين سطوره ما حسبته يكفي لعرض جوهر الرواية. هاك المجتزأ، فاقرأ وازدرد:
(بخيت منديل، بطل الرواية، عاشق عظيم من زمن قديم، كان عبدا رقيقا مملوكاً لسيد. ثم حرره الحب من العبودية، أو نقله لعبودية من نوع آخر، فما عاد يشعر بها او يتصرف تحت تأثيرها. ملك أمر نفسه كعاشق ومحب، وملك أمر الرواية وأحداثها، وتصرف فيها على هواه. ثم قرر في حيوات أناس وضعوا أنفسهم خصوماً له ولحبه، دروا أو لم يدروا بذلك، فصارت مهمته في الحياة أن يقتص منهم رداً لدين حبيبته.
كل شخوص وأحداث الرواية لهم صلة بحياته أو حياة حبيبته الراهبة الإغريقية المصرية ثيودورا "حواء" التي جاءت للسودان ضمن إرسالية دينية لتهدي خراف الرب الضالة، فوجدت نفسها وسط أحداث عاصفة. ومريسيلة التي أحبته حبا يائسا لا رجاء فيه، وهي تعرف ذلك. كان الشيخ إبراهيم ود الشواك هو آخر ضحاياه الذين انتقم منهم. وهناك من جانب آخر الأب بولس ورفاق ورفيقات ثيودورا في الإرسالية بما فيهم فضل الكريم خادمة الدار.
ولأن الحب مبرر كاف لا يحتاج لتفسير، لم يجهد الكاتب نفسه ليقنع أحداً لمَ أحب بخيت منديل، الرقيق السابق، وهو خلو من أية ميزات، الإغريقية المصرية الحسناء ثيودورا. ولمَ أنست هي له وتجاوبت معه، دون أن تعلن حباً من جانبها. وحتى عندما قررت أن تفعل ذلك في يومها الأخير، خان قلب بخيت سيده، وما دله على الفرح الكثير الذي ينتظره، بل أغرقه في نيران الغيرة والوساوس وغيبوبة المريسة.
في بداية الرواية كان بخيت مسجونا في سجن الساير بام درمان، حين أتته الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم في سبتمبر 1898. ومع دخول الجيش الغازي للبلاد انكسرت دولة مهدي الله. ومن هناك بدأت رحلة بخيت منديل العجيبة، من سجن العبودية الجبري إلى أسر الحب الطوعي، الذي سيكلفه حياته).
(3)
السؤال العريض الذى يتردد، همساً وجهراً، في العديد من الدوائر الثقافية، حول فوز رواية (شوق الدرويش) بجائزة نجيب محفوظ: هل فازت الرواية عن جدارة لها واستحقاق، ام أن ذرائعاً بعينها، واهدافاً خفية، لا صلة لها بفن الرواية، تكمن وراء الفوز؟ هل هو النبوغ القياسي، ام الهوى السياسي؟
لم أحفل باولئك المخابيل من مناضلي الأسافير الذين لم يقرأوا سطراً واحداً من ذلك العمل، كما بدا لي، ومع ذلك لم يطرف لهم جفن وهم يصفون حمّور بأنه (عميل للخديوية المصرية). ذلك صنف من (النضال)، وتلك شاكلة من(المناضلين) أعرفها حق المعرفة.
ولكنني وقفت أمام وريقة رصينة للناقد مأمون التلب عالج فيها بعض محتوى خطاب لجنة التحكيم التى توافقت على منح الجائزة للروائي السوداني، وتحديداً ذلك النص من الخطاب الذي جاء فيه عن الرواية: (ففي تصويرها للدمار الذى سببته الانتفاضة المهدية، وهي حركة دينية متطرفة عنيفة، تأتي الرواية كتجسيد قوي للمشهد الراهن في المنطقة، حيث تعم الفوضي نتيجةً للتطرف الديني). وقد وبخ التلب لجنة التحكيم توبيخاً لإقدامها على زرع آرائها السياسوإعلامية، وفق تعبيره، في خطاب اعلان الفوز.
فيما يليني من الأمر فقد وجدت التوبيخ ملائماً ومستحقاً، من حيث أن اللجنة كشفت الغطاء عن مشاعر عدائية - ربما كانت مستكنة عند بعض مثقفي المحروسة - تجاه الثورة المهدية في السودان، على نحو يوحي من طرف خفي بأنها، اي اللجنة، عندما ثمّنت الرواية فإنها رأت قيمتها الاساسية في تعريتها لتلك الثورة وفضحها لممارسات دولتها.
وخبال تلك الفقرة من خطاب اللجنة يتمثل بطبيعة الحال في حقيقة أنها تزود المتلقى بوصف مباشر وواقعي للحالة الذهنية لأعضائها، لا يمكن لها أن تتنصل منه. وذلك في مواجهة حقيقة اخرى هي أن مؤلف العمل، موضوع الجائزة، بوسعه دائماً أن يزعم، وبكل ثقة، انه ليس مؤرخاً، وانه لم يكتب تاريخاً. وانما هو روائي، وقد كتب رواية. وبالتالي فإن لا يتحمل مسؤولية البغضاء والكراهية التي يستبطنها اولئك الذين منحوه الجائزة للثورة المهدية ودولتها. ولا مشاحة عندي بعد ذلك من أن اقول، أن الطيش الظاهر في بيان اللجنة يرتد عليها وحدها، ولكنه بالقطع لا يخصم، من الرواية ولا من كاتبها دانقاً ولا دينارا.
ذلك رأيي أنا. ولكنه ليس رأي حبيبنا الكاتب الصحافي الاستاذ يوسف عبد المنان، الذي حمد الله واثنى عليه، ثم كتب في عموده الراتب بصحيفة (المجهر): "إختار الكاتب حمور زيادة ملاطفة المصريين ومجاملتهم، وترفيع شأن المستعمر المصري، والحط من شأن الوطني المجاهد المنافح عن عزته وكرامته ووطنه ودينه. زيادة حمور يقف شاهراً قرعته يخطب ود الدوائر المصرية بالطعن في شرف الدولة المهدية".
ثم جاء صاحبي، الصحافي والاعلامي الكبير الاستاذ محمد عبد السيد، فأكمل من الأمر ما كان ناقصاً، إذ كتب عن الرواية انها عبارة عن: "منصة لشخص منتمٍ بشكل او آخر لطائفة دينية معروفة، أراد أن يثبت أن قادة طائفته كانوا على حق عندما أعانوا الحملة الخديوية على اسقاط دولة المهدية". ومعلوم أن (حمور محمد زيادة حمور) هو ابن لأحد أعلام القيادات التاريخية لطائفة الختمية والحركة الاتحادية السودانية.
(4)
كما أنني تفحصت في شأن الدرويش وشوقه مقالاً للكاتب المتميز عبد الحفيظ مريود، تخير له عنوان (تأريخ أمدرمان السّرىّ، ومسكوتات المجتمع السّودانىّ)، فحرت في أمر المقال وفي أمر مريود نفسه. إذ هالني أن وجدته يفسر المهدية ويحاكم قائدها الامام المهدي، الذي غادر الدنيا في القرن التاسع عشر، بمعارف القرن الحادي والعشرين وقوانينه، دون احتراسٍ علمي او تثبّت منهجي.
وكنت قد عرفت مريود من قبل هديّاً رضيّاً، يزن الحروف بميزان الذهب. ولم اعهد عنه الاحكام الصاعقة، يستولدها قيصرياً من أحشاء الحيثيات الزاعقة. ثم أن تعضيد الرواية، وتأييد مؤلفها، ما ليستدعي اصلاً كل تلك العصبية والشغب الثقافي الذي رأيته عنده، ولكن الله غالبٌ على أمره.
اسمع الى هذا الحبيب يستعين بشيخه، بعد أن جرد المهدية، أو كاد، من كل فضيلة: (قلتُ للشيخ التّرابىّ "كيف إستطاع المهدىّ أن يحرّك النزعة الدينية لدى السّودانيين؟ رد الترابي: "المهدىّ لم يحرّك نزعةً دينيّةً. لقد خالفه المشائخ والعلماء، كما هو معلوم. ولكنّه ذهب غرباً وحرّك نزوع أهل الغرب للقتال، فتقاطروا إليه").
سبحان الله. ما هذا التخليط؟ ولقد اصبحت في يومي هذا وأنا لا اعرف بخلاف الترابي ومريود من انكر أن الامام المهدي حرك دوافع الثورة في اهل السودان عبر سلطان الدين ونزعة التدين، ولا من استتفه أهل الغرب فزعم أن تأييدهم للمهدية لم يجاوز كونه مجرد (نزوع للقتال). والراسخون في علوم الأديان يعلمون أن فكرة المهدي المنتظر كانت فاشية وراسخة في غرب السودان، وغربي افريقيا بعامة. ولا جدال في أن الثورة المهدية وجدت صداها في الغرب، اولاً وأخيراً، بحكم طبيعة التدين العرفاني الغيبي الصوفي السائدة هناك. تلك هي الحقيقة الصادعة التي يعتنقها التاريخ المرصود. وكل زعم خلاف ذلك باطل حنبريت.
صحيح أن استجابة أهل الغرب للثورة كانت اكثر جدية وحزماً وعزماً، فهم أهل بأس. ولكن الثابت أن انصار المهدي الاوائل الذين انتصروا على جيش ابي السعود وقضوا عليه في معركة أبا كانوا من اهل النيل الابيض والجزيرة، ولم يكونوا من غربي السودان.
ونحن نعلم، أيضاً، أن كاريزما الامام المهدي وجاذبيته الروحية وشخصيته القيادية تبلورت وبرزت الى الوجود قبل ذهابه الى كردفان. إذ أنه كان شيخاً صوفياً منقطعاً للعبادة والذكر بالجزيرة أبا قبل اعلان مهديته. وقد انحاز للمهدي خيرة الفقهاء والزعامات الدينية عهدذاك، في مقدمتهم الشيخ المجذوب، والشيخ محمد محمد الخير. وهما اكبر القيادات الدينية شمالي الخرطوم، والشيخ المضوى عبد الرحمن، والشيخ العبيد ود بدر، والشيخ المنا اسماعيل، والشيخ أحمد ود طه، وغيرهم من القادة والرموز.
والحال كذلك، فهل يجوز أن الدكتور الترابي كان يعني الموظفين من فقهاء السلطان في الخرطوم الذين ساندوا غردون؟ ولو كان ذلك مراده فهل يمكن لمعلومة كهذه أن تؤسس لحكم اطلاقي جزافي مؤداه أن المهدي خالفه جميع العلماء والمشايخ، وأنه فشل في استثارة الحمية الدينية عند بني وطنه، فاستعان في ثورته بأهل غرب السودان الذين يعرف عنهم النزوع الطبيعي للقتال؟!
(5)
ما علينا. ومالنا أصلاً بالترابي وخربقاته وطربقاته؟ نحن هنا لنناقش رواية (شوق الدرويش) التي وضعها امام القارئ السوداني والعربي مؤلفها حمور زيادة. وهي الرواية التي صلت، ومعها خمس روايات اخرى، الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي لعام 2915، بعد تصفيات شملت مائة وثمانون رواية من خمسة عشر دولة عربية.
وقبل أن نمضى قدماً في مسعانا القاصد نؤكد لك – رعاك الله – أنه في نيتنا أن نواجه حبيبنا حمور - في الجزء الثاني من هذا العرض - باستفهامات لنا حول ذات القضايا التي أوردها الآخرون بشأن روايته. سنسأله عنها سؤال الملكين، الذي انكره الشيخ الترابي، كما انكر نزعة التدين على أهل الغرب.
سنواجهه أن شاء الله بالشبهات القائمة أنه ربما سعى لتملق مشاعر تلك الفئة من المثقفين المصريين ذوي النظرة القومية الضيقة، التي جرح انتصار الثورة المهدية كبرياءها القومي. تماماً كما شكل انكسار الثورة وهزيمتها على يد الجيش الغازي في العام 1899، تحت راية الخديوية المصرية، انتصاراً نفسياً كان له اثره في ترميم كرامتها التي بعثرها الدراويش.
وسنلزمه بالاجابة على تساؤلاتنا، فالصعود الى القمة ليس هينا، كما انه بالقطع لا يمكن لن يكون مجاناً. ونحن على مذهب الفرنجة القائلين: "No free lunch"، وفي رواية اخرى "No free ride". (قيل أن صيغة المثل الاولى جاء بها اصحاب المطاعم، ثم أتى سائقو عربات الاجرة بالصيغة الاخرى)!
(6)
ولكننا وبذات القدر سنواجه أحبابنا هؤلاء من المتشككين والمرتابين، بأننا مع تسليمنا بالمآخذ العديدة على (شوق الدرويش)، فإنها رواية. رواية فقط لا غير. والرواية شئ، وعلوم الاجتماع والتاريخ شئ آخر. الرواية فن، وليست تاريخاً للوقائع. الروائي فنان، يرصد ما يراه بين صرير المواقف والاشخاص، ويلتقط تلك الشذرات الانسانية المشحونة ويعبر عنها، وإلا فما فائدة الروائي بجوار المؤرخ؟
ومن يكتب الاحداث من وجهة نظر المهزوم؟ من يرسمها ويجسدها من زاوية العبيد والضعفاء، حتى لا نقول: سقط المتاع؟ ومن يكتب التاريخ الذي اهمله التاريخ؟ هل نكتب التاريخ فقط من وجهة نظر الملوك المنتصرين؟!
قال ويل ديورانت، المؤرخ الفيلسوف، في موسوعة (قصة الحضارة) أنه لا يريد أن يكتب عن القادة، (فتح الاسكندر بلدة كذا سنة كذا). ولكنه يريد تصوير الموقف كله، كيف كانت البلدة؟ ومن كان يعيش بها، وكيف؟ ثم من هم جنود الاسكندر وقادتهم، وماذا حدث عند فتح البلدة وبعدها. ذلك هو تاريخ البشر الحقيقي!
لا بأس إذن من أن نسلم بأن ام درمان كانت مكتظة بالعبيد، وأن الدعارة وشرب المريسة كانا يمارسان في السر او في العلن، وأن هناك من انصار الامام المهدي من داخلهم الشك، في مآل دولتهم. ولا جناح علينا أن نقبل حقيقة الصراعات والمظالم، وان نقر بأن الثورة المهدية، كما الهرة، أكلت بعض بنيها.
ولكننا نعود من حيث بدأنا فنقول أن صاحبنا لم يكتب التاريخ، وانما كتب الرواية. وعندما تقول تلك النصرانية في (شوق الدرويش): "ان اهل السودان كلهم زنوج ومتوحشون ولهم رائحة كريهة"، فذلك زعم النصاري في متن الرواية المخطوطة، لا عقيدة حمور على ظهر الارض المبسوطة!
{الجزء الثاني: الخميس القادم}
مصطفى عبد العزيز البطل
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.