جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي: المدن التي تبنى على الإيمان لا تموت    الدعم السريع يضع يده على مناجم الذهب بالمثلث الحدودي ويطرد المعدّنين الأهليين    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بالصور.. أشهرهم سميرة دنيا ومطربة مثيرة للجدل.. 3 فنانات سودانيات يحملن نفس الإسم "فاطمة إبراهيم"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوش الروائي حمور زيادة (1-2) حملة التفتيش في شوق الدرويش
نشر في السوداني يوم 01 - 03 - 2015


في حوش الروائي حمور زيادة (1-2)
حملة التفتيش في شوق الدرويش
(ارحب بأي روحٍ نقدية تجاه تاريخنا في اي شكل أتت. في علم الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، وفلسفة التاريخ. بل أرحب بها أكثر في الفن. لكنني أقرأ بتمعن لأشبع متعتي، ولا ازعم معرفة دقيقة بفن النقد والرواية. اقرأ كما يقرأ الناس، ثم تثور شكوكي، وأرتاب في كل شيء. أقرأ وأرتاب، ثم أقفل الكتاب).
(من رسالة قديمة لصديق قديم)
**********************
(1)
في زمنٍ مضى نهض أحبابي من مناضلي الكيبورد، في واحدة من هباتهم الدورية لتقليم أظافري ونتف ريشي، إما بسبب سوء أدبي مع رموزهم النضالية، أو بسبب تخاذلي عن اللحاق بركب الانتفاضة المرجوة، وإخفاقي في توريد حاجيات السوق من الكتابات الثورية. واتفق أن آزرت تلك الهبة الناشطة السياسية المهجرية الاستاذة عُزاز شامي، فكتبت في هجائي مادة دسمة، ما تركت فيها وما أبقت، شتمتني عبر سطورها شتيمة الأراذل. وقد حازت تلك المادة على اعجاب جميع (المناضلين) بلا استثناء.
والحق أن عُزاز مثقفة سودانية نوبية مبدعة ومتفردة. ولا غرو، فالإبداع والفرادة عند النوبيات كالماء والهواء. وقد حظيت دوماً بإعجابي، ثم محبتي (من طرفٍ واحد)، بعد أن طالعت بعض كتاباتها. ثم شاهدتها مناقشةً ومديرة لحلقات حوار في منابر بعض كبريات المؤسسات الاكاديمية والبحثية الامريكية في واشنطن، فشدت انتباهي بتمكنها وثقتها بنفسها، وجودة محصولها من معارف الشأن العام. فضلاً عن مهارتها وطلاقتها في ألسنة الفرنجة. ثم شاهدتها أيضاً متحدثة في عدد من القنوات التلفزيونية الاجنبية، تلهب ظهور العصبة المنقذة بشواظٍ من لهب، حتى خشيت على النظام في الخرطوم أن يتهاوى وينهار عقب كل حلقة تحدثت فيها هذه النجمة الزرقاء.
حملت عزاز مقالها الناقم ذاك وعلقته على أستار صفحتها في الكتاب الوجهي. وهناك رأيت الحشود الحاشدة تلتف حولها وحول مقالها، المُقعد فوق ظهر الأعمى. كل مناضل يحمد، ويمدح، ويُهنئ، ثم يتبرع بكلمتين قائظتين في هجائي وينصرف. ولأن للروائي حمّور زيادة اسماً ثقافياً بارزاً نسبياً، يتميز به على غيره من عامة معجبي عزاز، فقد لمع اسمه أمام ناظري من بين صفوف المهنئين الشانئين، وظل صامداً في قاع ذاكرتي.
كتب حمّور، بعد أن شدّ على يد عزاز وبارك صنيعها، التعليق التالي: "ليس عندي اي تفسير لما كتبه البطل في مقاله سوى أن يكون قد جنّ"!
بيد أنني لم أر بأساً كبيراً في مُستخلصه ذاك، ولم احمله على محملٍ رديء. بل استهديت بالله، وأسبغت عليه ذلك الشيء الذي يسميه الفرنجة (بينيفيت اوف ذي داوت). او مصلحة الشك، لو صلحت الترجمة. وقدّرت أن نسبة هذا الشاب المبدع ما لا يحب من كتاباتي للجنون قد تجد تأويلها الطيّب وتفسيرها الخيّر في أنه، رعاهُ الله، ربما كان في خويصة قلبه يلتمس لي ملاذاً آمناً يقيني غضبة الغاضبين. فالجنون يرفع التكليف ويرد المسئولية، ويغل العواقب ويهدر مغبّاتها. وفي الحديث: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون، وعن النائم، وعن الصبي حتي يحتلم).
ولو صدقت بصارتي، فإنني سأطلب من حبيبنا حمّور أن يستعصم بذات الراية التي عقدها لي، لا ينفتل من تحتها. وأن يُبقينى على المنهاج عينه، قائماً على صراط الجنون، لا يحيدُ عنه. فإن وجد في قراءتي ثم نقدي لروايته (شوق الدرويش) ما يمجّه ويُنكره، ردّه من فوره الى أسيادي من الجن، وكفاني بعد ذلك بأس الحساب وحر العقاب.
غير أن أملي عظيم ورجائي مقيم أن نفرغ معاً من الدرويش وشوقه في سلامٍ وأمان، وكلانا في كمال العقل وتمام الوجدان.
(2)
أحسبك، أعزك الله، لم تطالع بعد رواية (شوق الدرويش)، التي صدرت مؤخراً عن دار العين المصرية، وتريد مني مبتدأها وخبرها. والحق أن المبتدأ والخبر ليس عندي، بل عند صديقي الصحافي الاستاذ فيصل محمد صالح. وقد نظرت حولي فوجدته قد كفاني الرهق والنصب، فأوجز الرواية كلها في نحو ستمائة كلمة، نشرتها صحيفتان مصريتان.
وقد قرأت الموجز مثنى وثلاث، فألفيت عرضاً نبيهاً ونزيهاً للرواية. ولا عجب، فقد حاز الرجل وسام (النزاهة) من لدن الفرنجة. زانت بها سترته مؤسسة بيتر ماكلر في واشنطن قبل عامين. وها أنا اوشح صدره اليوم بوسام (النباهة) من مؤسسة مصطفى البطل في مينيسوتا.
وقد أعملت أسنان كيبوردي في ذلك العرض الرائق الشائق، فمثلت به تمثيلاً، واجتزأت لك من بين سطوره ما حسبته يكفي لعرض جوهر الرواية. هاك المجتزأ، فاقرأ وازدرد:
(بخيت منديل، بطل الرواية، عاشق عظيم من زمن قديم، كان عبدا رقيقا مملوكاً لسيد. ثم حرره الحب من العبودية، أو نقله لعبودية من نوع آخر، فما عاد يشعر بها او يتصرف تحت تأثيرها. ملك أمر نفسه كعاشق ومحب، وملك أمر الرواية وأحداثها، وتصرف فيها على هواه. ثم قرر في حيوات أناس وضعوا أنفسهم خصوماً له ولحبه، دروا أو لم يدروا بذلك، فصارت مهمته في الحياة أن يقتص منهم رداً لدين حبيبته.
كل شخوص وأحداث الرواية لهم صلة بحياته أو حياة حبيبته الراهبة الإغريقية المصرية ثيودورا "حواء" التي جاءت للسودان ضمن إرسالية دينية لتهدي خراف الرب الضالة، فوجدت نفسها وسط أحداث عاصفة. ومريسيلة التي أحبته حبا يائسا لا رجاء فيه، وهي تعرف ذلك. كان الشيخ إبراهيم ود الشواك هو آخر ضحاياه الذين انتقم منهم. وهناك من جانب آخر الأب بولس ورفاق ورفيقات ثيودورا في الإرسالية بما فيهم فضل الكريم خادمة الدار.
ولأن الحب مبرر كاف لا يحتاج لتفسير، لم يجهد الكاتب نفسه ليقنع أحداً لمَ أحب بخيت منديل، الرقيق السابق، وهو خلو من أية ميزات، الإغريقية المصرية الحسناء ثيودورا. ولمَ أنست هي له وتجاوبت معه، دون أن تعلن حباً من جانبها. وحتى عندما قررت أن تفعل ذلك في يومها الأخير، خان قلب بخيت سيده، وما دله على الفرح الكثير الذي ينتظره، بل أغرقه في نيران الغيرة والوساوس وغيبوبة المريسة.
في بداية الرواية كان بخيت مسجونا في سجن الساير بام درمان، حين أتته الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم في سبتمبر 1898. ومع دخول الجيش الغازي للبلاد انكسرت دولة مهدي الله. ومن هناك بدأت رحلة بخيت منديل العجيبة، من سجن العبودية الجبري إلى أسر الحب الطوعي، الذي سيكلفه حياته).
(3)
السؤال العريض الذى يتردد، همساً وجهراً، في العديد من الدوائر الثقافية، حول فوز رواية (شوق الدرويش) بجائزة نجيب محفوظ: هل فازت الرواية عن جدارة لها واستحقاق، ام أن ذرائعاً بعينها، واهدافاً خفية، لا صلة لها بفن الرواية، تكمن وراء الفوز؟ هل هو النبوغ القياسي، ام الهوى السياسي؟
لم أحفل باولئك المخابيل من مناضلي الأسافير الذين لم يقرأوا سطراً واحداً من ذلك العمل، كما بدا لي، ومع ذلك لم يطرف لهم جفن وهم يصفون حمّور بأنه (عميل للخديوية المصرية). ذلك صنف من (النضال)، وتلك شاكلة من(المناضلين) أعرفها حق المعرفة.
ولكنني وقفت أمام وريقة رصينة للناقد مأمون التلب عالج فيها بعض محتوى خطاب لجنة التحكيم التى توافقت على منح الجائزة للروائي السوداني، وتحديداً ذلك النص من الخطاب الذي جاء فيه عن الرواية: (ففي تصويرها للدمار الذى سببته الانتفاضة المهدية، وهي حركة دينية متطرفة عنيفة، تأتي الرواية كتجسيد قوي للمشهد الراهن في المنطقة، حيث تعم الفوضي نتيجةً للتطرف الديني). وقد وبخ التلب لجنة التحكيم توبيخاً لإقدامها على زرع آرائها السياسوإعلامية، وفق تعبيره، في خطاب اعلان الفوز.
فيما يليني من الأمر فقد وجدت التوبيخ ملائماً ومستحقاً، من حيث أن اللجنة كشفت الغطاء عن مشاعر عدائية - ربما كانت مستكنة عند بعض مثقفي المحروسة - تجاه الثورة المهدية في السودان، على نحو يوحي من طرف خفي بأنها، اي اللجنة، عندما ثمّنت الرواية فإنها رأت قيمتها الاساسية في تعريتها لتلك الثورة وفضحها لممارسات دولتها.
وخبال تلك الفقرة من خطاب اللجنة يتمثل بطبيعة الحال في حقيقة أنها تزود المتلقى بوصف مباشر وواقعي للحالة الذهنية لأعضائها، لا يمكن لها أن تتنصل منه. وذلك في مواجهة حقيقة اخرى هي أن مؤلف العمل، موضوع الجائزة، بوسعه دائماً أن يزعم، وبكل ثقة، انه ليس مؤرخاً، وانه لم يكتب تاريخاً. وانما هو روائي، وقد كتب رواية. وبالتالي فإن لا يتحمل مسؤولية البغضاء والكراهية التي يستبطنها اولئك الذين منحوه الجائزة للثورة المهدية ودولتها. ولا مشاحة عندي بعد ذلك من أن اقول، أن الطيش الظاهر في بيان اللجنة يرتد عليها وحدها، ولكنه بالقطع لا يخصم، من الرواية ولا من كاتبها دانقاً ولا دينارا.
ذلك رأيي أنا. ولكنه ليس رأي حبيبنا الكاتب الصحافي الاستاذ يوسف عبد المنان، الذي حمد الله واثنى عليه، ثم كتب في عموده الراتب بصحيفة (المجهر): "إختار الكاتب حمور زيادة ملاطفة المصريين ومجاملتهم، وترفيع شأن المستعمر المصري، والحط من شأن الوطني المجاهد المنافح عن عزته وكرامته ووطنه ودينه. زيادة حمور يقف شاهراً قرعته يخطب ود الدوائر المصرية بالطعن في شرف الدولة المهدية".
ثم جاء صاحبي، الصحافي والاعلامي الكبير الاستاذ محمد عبد السيد، فأكمل من الأمر ما كان ناقصاً، إذ كتب عن الرواية انها عبارة عن: "منصة لشخص منتمٍ بشكل او آخر لطائفة دينية معروفة، أراد أن يثبت أن قادة طائفته كانوا على حق عندما أعانوا الحملة الخديوية على اسقاط دولة المهدية". ومعلوم أن (حمور محمد زيادة حمور) هو ابن لأحد أعلام القيادات التاريخية لطائفة الختمية والحركة الاتحادية السودانية.
(4)
كما أنني تفحصت في شأن الدرويش وشوقه مقالاً للكاتب المتميز عبد الحفيظ مريود، تخير له عنوان (تأريخ أمدرمان السّرىّ، ومسكوتات المجتمع السّودانىّ)، فحرت في أمر المقال وفي أمر مريود نفسه. إذ هالني أن وجدته يفسر المهدية ويحاكم قائدها الامام المهدي، الذي غادر الدنيا في القرن التاسع عشر، بمعارف القرن الحادي والعشرين وقوانينه، دون احتراسٍ علمي او تثبّت منهجي.
وكنت قد عرفت مريود من قبل هديّاً رضيّاً، يزن الحروف بميزان الذهب. ولم اعهد عنه الاحكام الصاعقة، يستولدها قيصرياً من أحشاء الحيثيات الزاعقة. ثم أن تعضيد الرواية، وتأييد مؤلفها، ما ليستدعي اصلاً كل تلك العصبية والشغب الثقافي الذي رأيته عنده، ولكن الله غالبٌ على أمره.
اسمع الى هذا الحبيب يستعين بشيخه، بعد أن جرد المهدية، أو كاد، من كل فضيلة: (قلتُ للشيخ التّرابىّ "كيف إستطاع المهدىّ أن يحرّك النزعة الدينية لدى السّودانيين؟ رد الترابي: "المهدىّ لم يحرّك نزعةً دينيّةً. لقد خالفه المشائخ والعلماء، كما هو معلوم. ولكنّه ذهب غرباً وحرّك نزوع أهل الغرب للقتال، فتقاطروا إليه").
سبحان الله. ما هذا التخليط؟ ولقد اصبحت في يومي هذا وأنا لا اعرف بخلاف الترابي ومريود من انكر أن الامام المهدي حرك دوافع الثورة في اهل السودان عبر سلطان الدين ونزعة التدين، ولا من استتفه أهل الغرب فزعم أن تأييدهم للمهدية لم يجاوز كونه مجرد (نزوع للقتال). والراسخون في علوم الأديان يعلمون أن فكرة المهدي المنتظر كانت فاشية وراسخة في غرب السودان، وغربي افريقيا بعامة. ولا جدال في أن الثورة المهدية وجدت صداها في الغرب، اولاً وأخيراً، بحكم طبيعة التدين العرفاني الغيبي الصوفي السائدة هناك. تلك هي الحقيقة الصادعة التي يعتنقها التاريخ المرصود. وكل زعم خلاف ذلك باطل حنبريت.
صحيح أن استجابة أهل الغرب للثورة كانت اكثر جدية وحزماً وعزماً، فهم أهل بأس. ولكن الثابت أن انصار المهدي الاوائل الذين انتصروا على جيش ابي السعود وقضوا عليه في معركة أبا كانوا من اهل النيل الابيض والجزيرة، ولم يكونوا من غربي السودان.
ونحن نعلم، أيضاً، أن كاريزما الامام المهدي وجاذبيته الروحية وشخصيته القيادية تبلورت وبرزت الى الوجود قبل ذهابه الى كردفان. إذ أنه كان شيخاً صوفياً منقطعاً للعبادة والذكر بالجزيرة أبا قبل اعلان مهديته. وقد انحاز للمهدي خيرة الفقهاء والزعامات الدينية عهدذاك، في مقدمتهم الشيخ المجذوب، والشيخ محمد محمد الخير. وهما اكبر القيادات الدينية شمالي الخرطوم، والشيخ المضوى عبد الرحمن، والشيخ العبيد ود بدر، والشيخ المنا اسماعيل، والشيخ أحمد ود طه، وغيرهم من القادة والرموز.
والحال كذلك، فهل يجوز أن الدكتور الترابي كان يعني الموظفين من فقهاء السلطان في الخرطوم الذين ساندوا غردون؟ ولو كان ذلك مراده فهل يمكن لمعلومة كهذه أن تؤسس لحكم اطلاقي جزافي مؤداه أن المهدي خالفه جميع العلماء والمشايخ، وأنه فشل في استثارة الحمية الدينية عند بني وطنه، فاستعان في ثورته بأهل غرب السودان الذين يعرف عنهم النزوع الطبيعي للقتال؟!
(5)
ما علينا. ومالنا أصلاً بالترابي وخربقاته وطربقاته؟ نحن هنا لنناقش رواية (شوق الدرويش) التي وضعها امام القارئ السوداني والعربي مؤلفها حمور زيادة. وهي الرواية التي صلت، ومعها خمس روايات اخرى، الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي لعام 2915، بعد تصفيات شملت مائة وثمانون رواية من خمسة عشر دولة عربية.
وقبل أن نمضى قدماً في مسعانا القاصد نؤكد لك – رعاك الله – أنه في نيتنا أن نواجه حبيبنا حمور - في الجزء الثاني من هذا العرض - باستفهامات لنا حول ذات القضايا التي أوردها الآخرون بشأن روايته. سنسأله عنها سؤال الملكين، الذي انكره الشيخ الترابي، كما انكر نزعة التدين على أهل الغرب.
سنواجهه أن شاء الله بالشبهات القائمة أنه ربما سعى لتملق مشاعر تلك الفئة من المثقفين المصريين ذوي النظرة القومية الضيقة، التي جرح انتصار الثورة المهدية كبرياءها القومي. تماماً كما شكل انكسار الثورة وهزيمتها على يد الجيش الغازي في العام 1899، تحت راية الخديوية المصرية، انتصاراً نفسياً كان له اثره في ترميم كرامتها التي بعثرها الدراويش.
وسنلزمه بالاجابة على تساؤلاتنا، فالصعود الى القمة ليس هينا، كما انه بالقطع لا يمكن لن يكون مجاناً. ونحن على مذهب الفرنجة القائلين: "No free lunch"، وفي رواية اخرى "No free ride". (قيل أن صيغة المثل الاولى جاء بها اصحاب المطاعم، ثم أتى سائقو عربات الاجرة بالصيغة الاخرى)!
(6)
ولكننا وبذات القدر سنواجه أحبابنا هؤلاء من المتشككين والمرتابين، بأننا مع تسليمنا بالمآخذ العديدة على (شوق الدرويش)، فإنها رواية. رواية فقط لا غير. والرواية شئ، وعلوم الاجتماع والتاريخ شئ آخر. الرواية فن، وليست تاريخاً للوقائع. الروائي فنان، يرصد ما يراه بين صرير المواقف والاشخاص، ويلتقط تلك الشذرات الانسانية المشحونة ويعبر عنها، وإلا فما فائدة الروائي بجوار المؤرخ؟
ومن يكتب الاحداث من وجهة نظر المهزوم؟ من يرسمها ويجسدها من زاوية العبيد والضعفاء، حتى لا نقول: سقط المتاع؟ ومن يكتب التاريخ الذي اهمله التاريخ؟ هل نكتب التاريخ فقط من وجهة نظر الملوك المنتصرين؟!
قال ويل ديورانت، المؤرخ الفيلسوف، في موسوعة (قصة الحضارة) أنه لا يريد أن يكتب عن القادة، (فتح الاسكندر بلدة كذا سنة كذا). ولكنه يريد تصوير الموقف كله، كيف كانت البلدة؟ ومن كان يعيش بها، وكيف؟ ثم من هم جنود الاسكندر وقادتهم، وماذا حدث عند فتح البلدة وبعدها. ذلك هو تاريخ البشر الحقيقي!
لا بأس إذن من أن نسلم بأن ام درمان كانت مكتظة بالعبيد، وأن الدعارة وشرب المريسة كانا يمارسان في السر او في العلن، وأن هناك من انصار الامام المهدي من داخلهم الشك، في مآل دولتهم. ولا جناح علينا أن نقبل حقيقة الصراعات والمظالم، وان نقر بأن الثورة المهدية، كما الهرة، أكلت بعض بنيها.
ولكننا نعود من حيث بدأنا فنقول أن صاحبنا لم يكتب التاريخ، وانما كتب الرواية. وعندما تقول تلك النصرانية في (شوق الدرويش): "ان اهل السودان كلهم زنوج ومتوحشون ولهم رائحة كريهة"، فذلك زعم النصاري في متن الرواية المخطوطة، لا عقيدة حمور على ظهر الارض المبسوطة!
{الجزء الثاني: الخميس القادم}
مصطفى عبد العزيز البطل
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.