غادرت قاهرة المعز راضياً مرضيا ظهر الاثنين 26 نوفمبر متجها إلى اسكندرية المرسي ابو العباس لحضور حفل تسليم الرئيس يواكيم شيسانو الرئيس السابق لجمهورية موزمبيق جائزة مو ابراهيم العالمية للقيادة الافريقية الرشيدة. هناك رواية طريفة حول الطريقة التي جرى بها ابلاغ الرئيس شيسانو نبأ حصوله على الثروة التي تتراوح بين خمسة و عشرة ملايين دولار. فبعد أن اعلن كوفي عنان رئيس لجنة الجائزة النبأ يوم 22 اكتوبر، امام حشد من الدبلوماسيين والاعلاميين وممثلي المجتمع المدني في مدينة لندن، شرع المكلفون بمهمة الاتصال بالرئيس الفائز و ابلاغه الخبر السعيد في اجراء اتصالات محمومة للوصول اليه، دون أن يصادفوا اي نجاح، فقد كان شيسانو وقتها في الادغال الواقعة بين جنوبي السودان وشمال يوغندا يدير مفاوضات مضنية مع جيش الرب بحثاً عن السلام في تلك المنطقة التي دمرتها الحروب. وفي النهاية اجرى المكلفون اتصالاً بشركة الهاتف المحمول الذي يستخدمه شيسانو ليسألوا عن السبب في عدم استجابة هاتفه النقال لمكالماتهم المتوالية، جاءت الاجابة من الشركة بانها قطعت خدمات الاتصال عن شيسانو لعجزه عن سداد الفاتورة الخاصه بتلفونه! (2) ارتديت حلة زرقاء مفتخرة، ثم جلست على المقعد انظر إلى عدد من ربطات العنق منبسطة امامي على سرير الفندق . وقع اختياري على ربطة عنق ايطالية ساحرة يغلب عليها اللون الكبدي الغامق. بعد أن اطمأننت على الوجاهة توجهت إلى السيارة الفارهة التي نهبت بي الارض نهباً إلى مكتبة الاسكندرية ذات التاريخ العريق. هالني العدد الكبير من رجال الامن بملابسهم الرسمية وغير الرسمية. كانت وزارة الداخلية المصرية بقضها و قضيضها تحيط بالمبنى وتحرسه. بعض ضباط الشرطة يتصرفون بعصبية ظاهرة لكأنهم تلقوا لتوّهم اخبارية تفيد بأن الارهابي الدولي كارلوس قد فرّ من سجنه في باريس و يستعد لاقتحام المكتبة! دخلت إلى قاعة بادية الفخامة والضخامة، وبدأت أحدّق في وجوه القوم من الكبراء والوجهاء ورموز الحياة السياسية والثقافية والعلمية ورجال الاعمال من اركان الدنيا الاربعة. بعد أن اكملت الدورة التحديقية الاولى، شرعت في دورة تحديق جديدة حاولت من خلالها فرز الوجوه السودانية. تمكنت بعون الله من تمييز بعض الوجوه، فهذا هو المحامي والوزير السابق الدكتور امين مكي مدني، وذلك الدكتور الشفيع خضر القائد الشيوعي البارز، و ثالث عرفت فيما بعد انه الاستاذ التيجاني الكارب المحامي، ولم اكن قد رأيته من قبل. اثناء انهماكي واستغراقي في مهمة التحديق تقدم مني رجل أسمر انيق، وبادرني بتعريف نفسه: "الدكتور محمد مرسي، جامعة الخرطوم". رجل مهذب ولطيف من النوع الذي يمنحك الاحساس بأنك تعرفه منذ زمن قديم. لاحظت أن روحه المعنوية عالية للغاية وكأن ملكاً من السماء ابلغه للتو انه سيدخل الجنة. لاحقاً عرفت انه شقيق الدكتورة هنية مرسي زوجة الملياردير مو ابراهيم. قلت لنفسي: الَآن فهمت، لو كان لي نفس درجة نجاحه العلمي والمهني، وكان صهري يحتكم على خمسة مليارات دولار لكانت روحي المعنوية مرتفعة مثله تماما! (3) فجأة انشقت الارض عن عدد من العاملين اخذوا يدعون الحاضرين ويقودونهم إلى قاعة اخرى اكثر بهاءً ورحابة حيث ينتظر أن تبدأ فعاليات الحفل. في مدخل القاعة رأيت الوزير الانقاذوي د. مصطفى عثمان اسماعيل، وإلى جانبه أحمد ماهر وزير الخارجية المصري السابق. اخذت مقعدي و عدت إلى التحديق و التأمل. صعدت المسرح المغنية الافريقية العالمية انجيليك كيديجو. انجيليك اساسا من جمهورية بنين، وقد رشحت اربع مرات لجائزة قرامي الدولية. و جائزة قرامي (او غرامي)، أعزك الله، هي أهم و اشهر جائزة موسيقية في عالمنا اليوم، وتمنحها الاكاديمية الامريكية للفنون في حفل عالمي يفوق حفل الاوسكار في فبراير من كل عام. قالت انجليك كلاما خفيفاً لطيفاً عن افريقيا ونهضتها ومستقبلها. كانت تتحدث بصوت ملائكي شديد العذوبة وهي تتثنى وتميد يمنة و يسرة، تيّاهةً بجسدها، مدلّةً بعنفوانها وانوثتها الطاغية. و لكنها كانت على سجيتها تماما، لم تتصنع أيا من ذلك او تتكلفه. كانت أنجيليك هي الاوفر حضوراً، فبعد كلمتها القصيرة المثيرة أخذت على عاتقها، وبغاية الاقتدار، مهمة تقديم المتحدثين والتعقيب عليهم. ثم عندما آن اوان الطبل والزمر غنت انجليك كأروع ما يكون الغناء، ورقصت كأبدع ما يكون الرقص، و أرتنا من فنها عجبا. (4) تحدث كوفي عنان، الذي اصطفاه الملياردير مو، وعيّنه رئيسا للجنة التي اوكل اليها امر اختيار الرئيس الفائز، بصوتٍ خفيض يفتقر إلى الحيوية عن معايير الاختيار، وعن خصائص شيسانو وانجازاته، و عن الآمال المعقودة على الجيل الجديد من القادة الافارقة. ثم دعت انجليك الرئيس شيسانو إلى المنصة فتكلم مثل سابقه بصوت رائق تعوزه الحرارة. ولكن الكاريزما وإن غابت عن الاداء الخطابي فانها توافرت بلا شك في جوهر المعاني والمضامين التي جاءت في خطابه من حيث خصوبة الخيال وجلال الرؤى وعظمة الاحلام التي يحتضنها عقل و قلب هذا القائد الافريقي الفذ. عندما نادت انجليك على حبيبنا الدكتور مو ابراهيم لالقاء خطابه أخذت نفسا عميقا وطويلا، و تهيأت لكلمة رتيبة مملة. ثم تضاعف عندي ذلك الاحساس السالب بعد أن رأيت الرجل يمسك برزمة من الاوراق و هو يتجه إلى المايكروفون. لا بد انه سيقرأ على مسامعنا كل هذه الاوراق. لا حول و لا قوة الا بالله: اذا كان قائد افريقي ذو سمعة عالمية في مهارات القيادة السياسية مثل شيسانو قد جعل الملل يتسرب إلى نفسي بهذه السرعة فكيف برجل اعمال هو في الاصل مهندس تليفونات؟ ولكن مو فاجأني مفاجأة استراتيجية، كما يقول العسكريون، فلم يقرأ من رزمة الاوراق التي كانت في يده بل وضعها على المنضدة و لم ينظر اليها و لا نظرة واحدة بعد ذلك، ولا ادري حتي هذه اللحظة لماذا حملها معه إلى المنصة إبتداءً. شخَص مو ببصره باتجاه جموع الحاضرين ثم شرع في حديث طويل عن افريقيا وبرنامج (مؤسسة مو ابراهيم). تبدت خصائص الرجل الكاريزمية في اسلوب الخطاب ومحتواه، ثم في حركة الجسد، مما يسميه الفرنجة (بودي لانغويتش). كان الصوت قويا ومتسقاً، وكان واضحا من الفقرات الاولى في حديثه انه يرد بمنطق مرتب ومتسلسل على الاصوات التي شككت في فكرة وأهداف جائزة القيادة الافريقية الرشيدة. وجّه مو نقدا شديدا إلى الغرب لإخفاقه في تلمس معالم التغيير النوعي الذي شهدته افريقيا خلال العقدين الماضيين متمثلا في تجذر قيم الحرية واستطراد الممارسة الديمقراطية في أجزاء واسعة من القارة، ليس فقط على نطاق الحكم وتداول السلطة واستدامة الاطر والنماذج التنموية الناجحة، بل وأيضا على مستوى التوسع في حركة المجتمع المدني، والقضاء الحر، والصحافة الفاعلة. وأخذ مو على الغرب انه عجز عن استيعاب الواقع الافريقي الجديد واستمرأ العيش مع صور نمطية لافريقيا طواها الزمن تحت اجنحته فأصبحت تاريخاً من التاريخ، فصورة افريقيا عند الكثير من الغربيين ما تزال هي نماذج بوكاسا وعيدي امين و أياديما! (5) بعد انتهاء الخطب واكتمال مراسم تسليم الجائزة غادر الكثيرون المكان، ولكنني بقيت مع قلة لبعض الوقت ثم توجهت إلى الباحة الشاسعة في أسفل القاعة حيث كان مو و كوفي عنان وشيسانو يقفون محاطين بعدد مقدّر من البشر. في سرعة قياسية تكونت طوابير ثلاثة انتظم فيها الراغبون في الحديث إلى الشخصيات الثلاث، و ذلك تقليد متبع في اوربا والولاياتالمتحدة. لاحظت أن طابور الراغبين في مصافحة كوفي عنان والحديث اليه قصير جدا، يضم عددا من الناس يمكن احصاؤهم على اصابع اليدين. و كذلك الحال مع الطابور الهزيل الخاص بالرئيس شيسانو. اما طابور مو فقد استعصى على الاحصاء فامتد طويلا كثيفا متعرجاً، على مدّ البصر من اول القاعة إلى آخرها. بدا لي أن مو نفسه استشعر بعض الحرج بعد أن تنبّه الى ذلك المنظر العجيب، فكان كل ما تقدم منه شخص ليصافحه، صافحه وتحدث اليه باختصار شديد، ثم أخذه من يده، وجره جراً، ليسلمه إلى كوفي عنان، مع انه كان واضحا أن هؤلاء الناس لم تكن لهم ادنى رغبة او اهتمام بمصافحة كوفي! وقفت اراقب و اتأمل المشهد. قفزت إلى ذهني ابيات من الشعر العربي الركيك كان فرسان المطارحات الشعرية في التلفزيون السوداني خلال الثمانينات يستعينون بها عند عجزهم امام حرف الراء: يقول احدها: ( رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده المال / و من لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا ). و يقول البيت الآخر: ( رأيت الناس منفضة إلى من عنده الفضة / و من لاعنده فضة فعنه الناس منفضة )! و يبدو أن أغلب الحضور تمثلوا هذين البيتين والتزموا بهما لفظاً وروحا فانفضوا من حول كوفي و شيسانو و (مالوا) إلى مو! تضامنت مع كوفي وذهبت اليه وصافحته وأخذ لي عادل الباز معه عدداً من الصور، وكذلك الحال مع شيسانو حيث تبادلنا، عادل وأنا، اخذ الصور معه حتى تعبنا من التصوير. بعد أن انفرج الموقف قليلا تمكنا من الحصول على دقيقتين مع مو الذي صافحني بحرارة وشكرني على مقال كتبته قبل اسابيع من تلك المناسبة، ردا على بعض الانتقادات كان الدكتور خالد المبارك المستشار الثقافي بسفارة السودان بلندن قد وجهها اليه، بعدها أمسك بيدي وقادني لخطوتين حيث سلمني إلى كوفي مرة اخرى، مع انني كنت قد فرغت منه أصلاً!! (6) غادرت المكان بعد ذلك إلى الساحة الخارجية التي كانت غارقة في الزينة والثريات وبهارج الدنيا. وكانت أسمطة الطعام قد مُدّت مدا في كل ركن وزاوية. ورأيت فتيات حسانا وولدانا ذوي طلعات بهية يحملون صحافاً من المشهيات وأكوابا من فاخر المشروب، يطوفون بها على الناس. سمعت من يقول إن بعض هذه المآكل جيء بها رأسا من مطعم مكسيم في باريس، ولكنني أميل الى الظن انها صنعت كلها في مصر، فأهل المحروسة، مثل اهل لبنان، ذوو باع طويل في صناعة الطعام. عند هذه المحطة الخارجية البديعة انهيت مهمة التحديق والتأمل، وشرعت في مهمة مقدسة جديدة وهي التعرف على اصناف الطعام ورصدها وتحديدها اولاً، حتى لا اتورط في اختيار والتهام انواع قد يتبين لاحقا ضعف قيمتها على حساب اصناف اخرى عالية الجودة. وتلك استراتيجية يتعين اتباعها بدقة في جميع حالات البوفيه المفتوح. عندما بدأت برنامج الاستطعام الشامل لاحظت أن بعض السودانيين يقفون على جوانب المكان و لا يأكلون. خطر لي انهم ربما لاحظوا همتي العالية و استنكروا تصويبي جل اهتمامي على الطعام دون التواصل مع الحاضرين. ولكنني لم أعر هؤلاء التفاتاً فأنا لا اقيم لهم في الأصل وزنا. ثم أنني سأغادرهم بعد ساعات إلى الولاياتالمتحدة، وربما لن اراهم بعد ذلك ولن يروني. ثم انني تذكرت مثلا سعوديا ينضح حكمة كان صديقي السفير خالد فتح الرحمن يردده لي في مثل هذه الاحوال. يقول المثل: "يا رايح كتِّر الفضايح"! (7) بعد أن استكملت المهمة على خير وجه غادرت إلى مجلس جميل تحت ضوء القمر تحلق حوله بعض الأحباب من السوادنة وأمامهم اطباق من اطايب الحلويات وأكواب من الشاي و القهوة. تعرفت رسميا للمرة الاولى على الاستاذ التيجاني الكارب المحامي، كما تعرفت على الدكتور الشفيع خضر والصحافي محمد لطيف، ولم اكن قد عرفتهم من قبل. جلست اليهم ومعهم الآخرون الذين اعرفهم معرفة وثيقة: الدكتور امين مكي مدني، الدكتور مرتضى الغالي، و بالطبع اللي ما يتسماش.. عادل الباز. وجدت في الاستاذ التجاني الكارب كائناً اجتماعياً راقياً ومتحدثا لبقا. لاحظت حين دار الحديث عن جوانب من تاريخ السودان السياسي كثافة المعلومات الحساسة غير المنشورة التي يعرفها بتفصيلاتها ودقائقها. كما استنتجت انه كان مشاركاً وصانعاً للاحداث في كثير منها، ووثيق الصلة بمصادرها الاساسية الاولية في اغلبها. على العكس من صورة التجاني الكارب رأيت في د. الشفيع خضر تمثال أبي الهول: يسمع و (يصور) ويبتسم، ولكنه لايقول شيئا ذا بال. يشتري ولا يبيع، ولا يفرط حتى في الذي اشتراه منك انت نفسك قبل هنيهة. ولم يعجبني ذلك منه. (8) نودي في الناس أن الحفل الساهر قد بدأ في المسرح المجاور، و كان صوت انجليك كيديجو يتضوع ويتهادى القاً وفتنة مع نسمات ليل الاسكندرية البهيج، فهب الجميع وساروا باتجاه النداء، ولسان حالهم: لبيك انجليك لبيك! كان المسرح قمة في الروعة و الابداع المعماري. على خشبته كانت انجليك تغني وترقص والعيون شاخصة. اعقبها المغني الافريقي الشهير سالف كيتا، من جمهورية مالي، وكيتا تعرفه مسارح العالم مغنياً و رائداً لموسيقى الافروبوب. ثم تلاه المطرب السنغالي يوسو نودور الذي وصفته لوموند الفرنسية بأنه اعظم الموسيقيين في التاريخ الافريقي. كانت أعمال سالف كيتا و يوسو نودور الفنية في مجملها مزيجا من موسيقى افريقية غنية وحارة وأغانٍ ذات نفس صوفي عميق. صعد المسرح بعد ذلك المغني المصري النوبي محمد منير. بدأ بأغنية " على صوتك بالغناء " و كان اداؤه متميزا وموسيقاه رفيعة، ثم لدهشتي غنى اغنية محمد وردي "فرحي خلق الله"، و لم اكن اعرف انه بدأ يغني لوردي، و أن كنت اعرف انه اختطف بعض اغاني أحمد المصطفى واغنية عبداللطيف عبدالغني (القلب مساكن شعبية)، من كلمات شاعر الشعب محجوب شريف، وغناها عنوة و اقتدارا! أعادتنا السيارات إلى الفندق بعد أن انسلخ الهزيع الاخير من الليل او كاد. انتهت بالنسبة لي مناسبة تكريم الرئيس شيسانو، و بدأت المرحلة الثالثة والاخيرة من رحلتي إلى ارض (حضارة السبعتلاف سنة). و هي المرحلة التي صحبني فيها ثلاثة من فرسان الصحافة السودانية: الدكتور مرتضى الغالي، الذي غادرنا بعد يوم واحد متجهاً إلى بيروت، والصهر الرئاسي، والمحلل السياسي ومدير مؤسسة طيبة برس، محمد لطيف. ثم .. من غيره؟ عادل الباز! مصطفي عبدالعزيز البطل هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته