:: إلى زمن غير بعيد، في ليلة العاشوراء بقرى دنقلا، بعد صلاة العشاء وتناول العشاء، كنا نذهب إلى الشواطئ ونشعل النار في الحبال ثم نجلد أنفسنا والآخرين ب(نشوة وفرح). ولم نكن نعلم أن الشيعة في بقاع الأرض يفعلون ما يشبه فعلنا هذا في (ليلة العاشوراء)، فالأمر كان -بالنسبة لنا- محض لهو وبعض من طيش الصبية. واليوم لم يعد صغارنا هناك ينتبهون إلى ليلة العاشوراء ذاتها ما لم تنبههم وسائل الإعلام، أما واقعة إشعال النار في الحبال وجلد الذات والآخر فهي لم تعد تصلح للحكي في مجالسهم لكي لا يتهموا كبارهم بالجنون و(التخلف). :: وكذلك المشي على النار أو جمراتها، فهذا أيضاً -في الأصل- من التقاليد الدينية الواسعة الانتشار في المجتمعات المتخلفة بالصين والهند.. يعذبون أنفسهم بالمشى على الجمر المتوهج، ويتظاهرون بتحمل العذاب، ليطهروا أنفسهم من الذنوب والهنات، أو هكذا يتوهمون.. هذا أو يفعلون هذا الفعل الغريب والمُشين لينتصروا على الشيطان بحرقه تحت أقدامهم الحافية، أو هكذا يحدثهم شيطانهم.. وفيهم من يفعل ذلك أمام الكاهن، أي يمشي على الجمر حافياً ورافعاً يديه ورأسه إلى السماء، وفاءً لنذر كان قد نذره في (أمر ما). تختلف أسباب تعذيب النفس بالمشي على الجمر، ولكن (التخلف واحد). :: تم توسيع دائرة هذا التخلف بإخراجه من عقول الكهنة وساحاتهم إلى سوح الشباب المراهق بعد تغليفه بما يسمونها بروح العزيمة والإرادة ونزع الخوف، أو هكذا يوهمون الشباب فيقعون فريسة في أنياب كهنة العصر الجديد الذين يلقبون أنفسهم بالمدربين في مجال التنمية البشرية.. ويبدو أن شباب السودان على موعد مع الجهل المعشعش في عقول مراكز التدريب (إرادة وعزيمة). محمد الفاتح، مدير مركز الوافر للتدريب، يحتفي بنجاح تجربة المشي على الجمر، ويقول ل(السوداني): (كل الشباب الذين مشوا على الجمر هم خريجو دورة البرمجة اللغوية العصبية)، أو هكذا يفتخر كبيرهم الذي يعلمهم (المشي على الجمر). :: محمد الفاتح، وكذلك الذين مشوا على جمره من الشباب والطلاب والطالبات، يختزلون العزيمة في احتمال (لظى الجمر)، ويختصرون الإرادة في الصبر على (لهب الجمر).. ولذلك، سيعاودون تجربة المشي على الجمر خلال الفترة القادمة بعد نجاحها في انتزاع الخوف من دواخل الشباب، كما يقول الفاتح.. وعليه.. شباب قنع لا خير فيه وبُورك في الشباب الطامحينا، قالها الشاعر قبل عقود، ولم يستوعبها مركز الوافر للتدريب إلى يوم المشي على الجمر هذا.. شبابنا -يا هذا- يصطلون بنار حاضرهم ويخافون على مستقبلهم المجهول، وكان الأفضل لهم ولمستقبلهم أن يتلقوا تدريباً وتعليماً في علم من علوم الحياة ليحوّلوا هذا الواقع البائس إلى مستقبل مشرق. :: عنتريات عهد عنترة، وكذلك عضلات جون سينا، ونظريات (نحن النار بناكلها موقدة)، لم تعد مفتاحاً من مفاتيح النجاح في هذا الزمان.. فالذين نجحوا من حولنا راهنوا على (العقل والوعي)، ثم علموا شبابهم علوماً يستبينون بها سبل النجاح وقبل العلم (أخلاقاً).. نعم، علموهم حب الوطن، العلم والعمل، أدب الاختلاف، طرح الرأي واحترام الرأي الآخر، و...و... دورة في هندسة الحاسوب أو تعلم لغة بجانب لغتهم، على سبيل المثال، تقربهم إلى تحدي الخوف على مستقبلهم أكثر من دورة في (المشي على الجمر)، وغيرها من (الخزعبلات) المراد بها ترسيخ الجهل والتخلف (أكتر من كده).