تزعم طائفة من أهل العلم أن فلسفة التاريخ ترتكز على أربع قضايا هي نسبية القيم التاريخية، العلية لأحداث التاريخ، التنبؤ بالحدث التاريخي، والتقدم والتخلف لأحداث التاريخ. وإذا ما أخذنا بالمعيارين الأخيرين في الحسبان تقييماً للوضع الآني للحضارة الغربية التي تقودها الولاياتالمتحدة، فإن أحدث التقارير التي أصدرتها بعض أجهزة الإعلام الأمريكية تومئ إلى أن الاتجاهات الجيوسياسية خلال العقدين القادمين تخلص إلى أن الولاياتالمتحدة ستفقد مكانتها الدولية باعتبارها العملاق الاقتصادي والعسكري الأول بحلول عام 2030م بسبب ما تعانيه اقتصادياتها وحليفاتها الغربيات من عجز في الموازنة مترافقاً مع ديون طاحنة. وبرغم انفراد الولاياتالمتحدة بالقطبية العالمية خلال الخمسة وعشرين عاماً الماضية بعد انهيار المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، إلا أن ثمة تطورات عديدة اقتصادية وسياسية شهدتها الساحة العالمية منذ عام 1991م وهو التاريخ الذي تنازل فيه الرئيس جورباتشوف عن حكم الاتحاد السوفيتي. غير أن الاتحاد السوفيتي توارى في صفحات التاريخ بعد توقيع الرئيس الروسي بوريس يلتسن على اتفاقية حل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في 21 ديسمبر 1991م. وهاهو آخر زعيم للاتحاد السوفيتي السابق "جورباتشوف" يعود ثانية لواجهة الأحداث العالمية.وفي مقابلة له مع شبكة إذاعة وتلفزيون(آر تي أس)السويسرية(الأحد 9/11/2014م) يحذر من أن العالم أصبح على شفا حرب باردة جديدة وسط توترات بين الغرب وروسيا بسبب النزاع في أوكرانيا . وتجدر الإشارة إلى ما ورد في صحيفة الواشنطون بوست ذات الميول اليمينية المتطرفة (28/ ديسمبر 2012م) من أن الثروة والسلطة ظلت تنساب من الغرب إلى الشرق خلال العقود الماضية. وكانت الصين هي الرابح الأول فبدأ نجمها يبزغ على حساب الولاياتالمتحدة والمجموعة الأوروبية الحليفة لها فضلاً عن روسيا الاتحادية. ولا ريب أن تفوق الولاياتالمتحدة وتبوؤها للقطبية العالمية بسبب امتلاكها للنسبة الأعلى للقوة والثروة والمعرفة معاً. وتعتبر هذه المصادر الثلاثة هي المحور الرئيسي للقوة السياسية والاقتصادية. وعندما تستخدم هذه المصادر مقترنة ببعضها بذكاء – كما نوه لذلك المفكر الاستراتيجي " ألن توفلر " في كتابه المعنَون " تحول القوة - Power Shift "، فبإمكاننا الحصول على القوة القصوى. وتعرف القوة بأنها البعد الفعلي لجميع العلاقات الإنسانية غير أن القوة في الثقافات الغربية تعبر في الحقيقة عن الكمية. ولكن هذه نظرة حولاء تتجاهل أهم العوامل وهى الجودة أو فاعلية القوة حيث إن من يفهم فاعلية القوة سوف يكسب الاستراتيجية في المستقبل. أما الثروة فهي وسيلة أكثر مرونة من القوة العسكرية حيث إنها توفر قوة ذات فعالية متوسطة. بيد أن المعرفة أو المعلومات هي القوة ذات الفعالية القصوى. ويبدو أن الازدهار الاقتصادي للولايات المتحدة والذي بلغ ذروته في العصر الحديث في عهد الرئيس بيل كلينتون (1994 – 2000م) قد ولى حيث إن أزمة الرهن العقاري (2007م) أطلت برأسها وتحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية، وشهدت انهيار العديد من المؤسسات الاقتصادية والمالية. ومما زاد الوضع سوءًا في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما تداعيات الكوارث الطبيعية التي اجتاحت العديد من الولايات واستنزفت بلايين الدولارات من الخزانة الأمريكية. ومن الجلي أن العقدين الماضيين شهدا تفوق الصين الاقتصادي التي احتلت المركز الثاني بعد الولاياتالمتحدة متفوقة على اليابان كما وأن روسيا الاتحادية خطت اقتصادياً للأمام بصورة لافتة، ولم تغفل كلاهما الجانب العسكري. فبدأت الصين برامج بعيدة المدى لتطوير قواتها الجوية والبحرية لحماية خطوط الملاحة البحرية الرئيسية من جنوبالصين إلى الشرق الأوسط الغني بالنفط وبالتالي تعمل على توسيع نفوذها جغرافياً وتغيير علاقاتها الاقتصادية والعسكرية بهذه الأسس القوية. أما روسيا فسعت للعودة للتنافس الدولي مرة أخرى رغم فشلها دبلوماسياً في التصدي للتحالف الغربي الذي أطاح بنظام العقيد القذافي في ليبيا. ولكيما تبلغ ذلك الهدف عملت على تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. (الأزمة السورية)، وبرغم أن ذلك التدخل يمثل انحيازاً لنظام الأسد ولا يتسق ومصالح الشعب السوري. لا مشاحة أن روسيا قد أيقنت بالوضع الاقتصادي المتردي حالياً للولايات المتحدة، علاوة على تضعضع قدرتها العسكرية والتي فشلت في تطويرها خلال العقود الأخيرة بسبب قلة الإنفاق مترافقاً مع عدم تطوير نظامها التعليمي الشبيه بنظام المصانع وعدم إصلاحه جراء الأزمات المالية المتتالية. واستغلت روسيا هذه السانحة لتعيد " شبح الاتحاد السوفيتي القديم " بإقدامها على إثارة مسألة شبح جزيرة القرم والسعي لضمها لروسيا الاتحادية ومن ثم العودة إلى المنافسة القطبية العالمية التي انفردت بها الولاياتالمتحدة خلال ربع قرن من الزمان. ونجحت روسيا الاتحادية في ضم شبه جزيرة القرم التي تقع شمال البحر الأسود(عاصمتها سيمفروبل) في السابع عشر من مارس 2014م بعد أن صوت 97%من سكانها لخيار الانضمام برغم معارضة الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة.ولم تأبه روسيا للانتقادات الغربية بل واتهمت مؤخراً الولاياتالمتحدة وحلف "الناتو" بزعزعة استقرار توازن القوى النووية في العالم بتطويره لنظام الدفاع الصاروخي في أوروبا ومحاولته إنشاء أجزاء من هذا النظام الدفاعي الصاروخي في أرمينيا خلال هذا العام وفي بولندا حتى العام 2018م. مما تم إيراده آنفاً فإن التوقعات الغربية المستندة إلى دراسات استراتيجية، أصبحت قابلة لتصديق مقولة الأفول المتدرج لليانكي الأمريكي. فثمة تغيرات جيوسياسية واقتصادية تمور بها الساحة الدولية أدت إلى تحولات بادئة للعيان في مسار القطبية الدولية. ففي الوقت الذي يرتقي فيه المارد الصيني ليتسنم قيادة الاقتصاد العالمي خلال العقدين القادمين، فإن الدب الروسي يخرج بغتة من قمقمه إلى الساحة العالمية – بعد ضمه للقرم – ومحاولاته المستمرة لاستعادة نفوذه القديم في الشرق الأوسط (المساندة السياسية والعسكرية للنظام السوري وإمداده بالسلاح وتزويد إيران بصواريخ متقدمة والوقوف معها في مطالبتها بهدنة في اليمن بعد "عاصفة الحزم" التي تقودها المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي وبعض الدول العربية والإسلامية لاستعادة الشرعية في اليمن) كقطب دولي بأمل أن يجد له دوراً مؤثراً في لعبة الغد الجديدة. ويرى العديد من الخبراء والسياسيين أنها لعبة سياسية تدعو إلى توازن عالمي جديد. فهل ما يسمى ب " عالم متعددة الأقطاب " - كما يرى المتفائلون - أفضل حالياً من عالم أحادي القطب تقوده دولة قومية (الولاياتالمتحدة أو روسيا أو الصين) أو قوى غير دول القوميات (المنظمات غير الحكومية والديانات واللاعبون الجدد). وكيفما يكون الحال، فإن الأيام حبالي بكل ما هو جديد ومثير للإجابة عن هذا التساؤل. والله المستعان