الزول في الحياة أصلوا ما عنده ضمان ولابد أن يعيش ما بين عطا وحرمان والموت زي جواهر مثلوه زمان يختار كل جيد ما بين درر وجمان *** *** *** أصلوا الدنيا دار ونحن ضيفان وكل حي جاري فيها وراء الرزق لهفان والموت في الحياة يجرفنا كالطوفان ونصبح زى خبر وكل من عليها فان... محمد بشير عتيق قبل أيام توقف قلب كبير بعد أن اعتصرته الآلام سنوات طوالا ورغم ذلك ما زاد إلا توهجا وما انهزم ولكنه لم يستطع أن ينعتق من جبروت مرضه الذي اشتد على قلبه اللين وفؤاده الرقيق فانطفأت إشراقة وجهه الصبوح وصمت إلى الأبد حسن يحيى الكوارتي كفارس جريح. عندما يأتي الحديث عنه والسرد تفوح ذكراه كما يفوح الورد وترجل وهو يحمل سرج حصانه على كتفه بعد أن أفلح أن يكون اسمه في تاريخ وذاكرة أمة بأسرها لن تنساه أبدا، فقد كان خيطا في نسيجها بل رواية أصلية تفجرت حبا لعقيدته الطيبة وتراثها الضارب في جذور أعماق التاريخ، فقد كانت أسرته راية قبلية تحت ظلال الدوحة الميرغنية بقيادة والده خليفة الخلفاء المغفور له يحيى عثمان الكوارتي الذي كان علما من إعلامها وفارسا من فرسانها وكان من المقربين وأصحاب الحظوة في البلاط الميرغني بل كان مستشارا ومبعوثا شخصيا لمولانا الحسيب النسيب السيد علي الميرغني وموضع ثقته الذي كثيرا ما كلفه وحمله الرسائل الشخصية لقادة الدول العربية في مراحل ما قبل استقلال السودان كما كان أخوه محمد عثمان حسين عضوا ناشطا في الحزب الوطني الاتحادي وفي مؤتمر الخريجين كان عضو اللجنة الستينية واللجنة التنفيذية في أواخر الأربعينات. من بين هذه القمم التي خرجت منها مئات الشخصيات الخالدة التي أفرد لها التاريخ صفحاتها في كفاحها وبطولاتها وإنجازاتها التي نسجت قصص النجاح في ظروف صعبة كان أساسها التراث الضخم الذي شيدوه بعصاميتهم وذكائهم الفطري فملكوا كل مقومات رجل الأعمال الناجح فكتبوا صفحة الريادة عن جدارة فكانوا مدرسة في التجارة وروادا في الصناعة ومرجعا في الاقتصاد فدخلوا التاريخ من بابه العريض. وسط هذا الزخم الفذ نشأ فقيدنا حسن يحيى الكوارتي وسط بيوت تزدان بالأضواء ومن داخلها رائحة المدائح تفوح من النور البراق في مدح النبي المصداق.. وَجهُ فاق البُدُور فاق البُدُور حِلمه يكفي جميعا يافلا... عينه ترمي الغزال ترمي الغزال ويح قلبي من سهام نبلا تفلُه خَمُر حَلا خَمُر حلا علَّ شُربي منه شُربا عاجلا يبدلي ياميرغني ياميرغني خذ مرادك ومدادك والطلا فالق قصدي نعم قصدي يافتى فمنائي ومرادي وصلا تغشى طه المصطفى المصطفى وصحابا ثم الافضلا.... رضع حسن حلو هذا الكلام وتذوق طعم التراحم والتسامح فترعرع في عش الشهامة والنخوة السودانية الأصيلة وبدأت نفسه تمتلئ بالأحلام مثله مثل كثيرين من أبناء ذلك الجيل الذين كانت تتحداهم الأشواك فوق الأرض اليباب وهم يواجهون الغد لعل أرضه تنبت فيها الأزهار والرياحين... فقيدنا حسن يحيى الكوارتي مولده وصدى طفولته البريئة كان في الجهة الغربية من معقل الوطنية أم درمان حي العرب حيث الدنيا باسمة والأيام طرب ذلك الحي الذي يسكن قلوبنا كأقوى وأعنف ما يكون الحب كان ما زال فيه الأحبة الذين ما وجدنا أحبة غيرهم فقد خلقنا من عنصر المحبة وبقينا طول الزمن أحبة هوانا فطرة... ما أروعهم أولئك الناس كانوا وما زالوا من خير ما رأته عين البشر رموزا للإلفة وشموسا للعفة.... هنا صرخ حسن يحيى صرخته الأولى فكم كانت فرحة والدته السرة بت الخضر عثمان كمبال تلك الأم الرؤوم والسيدة الجليلة التي كانت ذات شخصية مقدامة تنافس في عمل الخير والبر والإحسان، كانت فرحتها عظيمة في ذلك اليوم من أيام شتاء عام 1928م فقد كان حسن ابنها البكر فرأت في عينيه بريق الأمل وفي صرخته هتافا بالعزم والإصرار. في حي العرب وبين ظلالها وتحت أشجاره وفوق كثبان رمالها انطلق الراحل المقيم حسن يحيى في صباه واستهوته منذ طفولته تلك المجالس العامرة في حي العرب الذي ما من بيت من بيوته إلا وفيه موهبة فنية وما من ركن من أركانه إلا وفيه ملتقى للأدباء والشعراء والظرفاء والمطربين والممثلين والرياضيين. وكان حسن يحيى يحمل روحه السمحة وانطلق نحو آفاق جديدة يملك قلوب الناس فقد كان ريحانة الحي وزينة ربوع الحي، ما وجد مجموعة من شباب الحي يتسامرون إلا ويطل عليهم كأنفاس الزهر بضحكته وابتسامته المشرقة، فحسن يحيى تجمعت فيه فضائل نادرة ونفحات من القيم الأصيلة ورثها من أجداد عظماء وآباء كرماء فجاء منهم حسن يحيى كالنبات يزيد الطبيعة جمالا.... ......شاءت الأقدار أن يكون الريح أحمد والد الشاعر عبد الرحمن الريح مجاورا لمنزل عثمان يحيى الكوارتي "الحيطة بالحيطة" وكان هذا الجوار مثالا للتسامح الطائفي بين الأنصار والختمية فكانت مدائح الأنصار في منزل الريح أحمد ذات القافية القوية المشحونة بالحماس تلهب المشاعر برسمها وتصويرها لمعارك الجهاد والاستشهاد تدوي كأنها المدافع تواجه رنين الرماح وفي يوم آخر تجد منزل العم يحيى الكوارتي يعج بشباب الختمية في ليلة من ذات الليالي الروحانية بدءا بشئ لله ياميرغني والنفحات المدنية في المدائح المصطفوية والنفحات القدسية من تشطير السيد عبد الله المحجوب الميرغني وكلها في مدح النبي المصداق عليه أفضل الصلاة والسلام... وفي صلاة الجمعة ومن أعلى منبر جامع الكوارتة كان صوت الخطيب الأديب الأريب مولانا الشيخ حمد كمبال كان صوته الجهوري يشق عنان السماء يذكر ولاة الأمر بتحكيم شرع الله في الأرض والدعوة للدولة الإسلامية وتثبيت ركائزها وسلطانها في العالم... ويشهد الله بأن صوته ما زال صداه يتردد حولي كلما تذكرته وإنا ذلك الشافع اليافع الذي يأتي خلسة ليستمع للشيخ حمد كمبال إمام البيان وفصيح اللسان.... عصف بي الحنين وهجمت وزحفت الذكريات وأنا أكتب وأرثي وأبكي حسن يحيى وبين كل هذا وذاك تذكرته وأنا في صباي يوم كانت حي العرب تعج بالسمار وتحت ضوء الأقمار يرددون الأشعار وينقبون في جوف الأسحار تارة بإيقاع الرق ومره بعزف الأوتار فيمزجون الأنغام بدرر الكلام فيخال لك أنك في سوق عكاظ ولك أن تقول "الكواكب احتفلوا بالقمر" كما سماهم فقيدنا حسن يحيى تجد نخبة القوم من الأدباء والشعراء والفنانين متمكنين ومبتدئين من تلك الكواكب التي أثرت حياتنا الفنية في منازل وحيشان ومنتديات الحي تنطلق تلك الحناجر تارة في حوش حسن جمعة وهذا جد عبد الله محمد زين شاعر (أنا أم درمان أنا السودان) ومن أكثر أبناء حي العرب صداقة مع الكوارتة ومرة في حوش الطاهر أحمد عبد الله وهذا والد المحامي الضليع والقانوني الفقيه عبد الحليم الطاهر الذي منزله تخفق فيه موجات الحياة وكان من أصدق أصدقاء المرحوم حسن يحيى وكان ومازال صاحب ندوة تستمد إشعاعها من الماضي التليد حيث البيئة الطروبة المطارحات الشعرية والمنتخبات الأدبية التي فيها الجماليات الأدبية وروعة البيان وسلاسة اللسان... ومن منزل إبراهيم عوض عليه الرحمة تنطلق أصوات المزامير تذكرك ليالي الماضي الأندلسية أو العباسية وكان في بداياته وحسن يحيى يتردد عليه ويلتقي به عند جارهم عبد الرحمن الريح. ويقول ثقاة الرواة في حي العرب بأن الراحل حسن يحيى الكوارتي أول من تنبأ بأن إبراهيم عوض كان لحن الكلمات في حديثه العادي فيه موسيقى تكاد تغازل كل من يستمع إليها. في هذا المناخ كان حسن يحيى ذلك الطاهر النقي يتغلب على أحزان الدنيا بالسمر واللهو المباح الذي تضبطه القيم والأخلاق الفاضلة والتقاليد السمحة وهذا إن دل على شيء إنما يدل على النبع الأصيل والمعدن النفيس الذي خرج منه حسن يحيى... وهل ننسى منازل سيد عبد العزيز وعبيد عبد الرحمن ويوسف حسب الله سلطان العاشقين وعلي محمود التنقاري ومن جاء بعدهم سيف الدين الدسوقي، محجوب سراج، ومحمد يوسف موسى، مصطفى عبد الرحيم وكان حسن قريبا من أحمد الجابري والفاتح حاج سعد وعلي سالم الذي تعلم على يديه كثير من الفنانين العزف على العود. وهذا قليل من الكثير من أجواء حي العرب التي عايشها حسن يحيى عليه رحمة الله ... أما في سوق أم درمان فحدث ولا حرج بحكم مركز والده التجاري فقد كان مشهورا بود يحيى الكوارتي احتل في سوق أم درمان مكانة مميزة وكان مرسوما في خارطته وفي قلوب وضمائر تجاره يعرف شوارعه العريقة وجدرانه العتيقة ويعرف حكماءه وعلماءه وشعراءه وأدباءه وأغنياءه وفقراءه وكان وقتها سوق أم درمان يفور ويمور بكل أنواع الخيرات وكبار تجار السودان تزينهم معادنهم النفيسة ومنابعهم الأصلية التي خرجوا منها وكانت لهم علاقاتهم التجارية مع الكوارتة. وكان فقيدنا حسن يحيى وسط هؤلاء الابن البار الأمين في تعامله باسم والده فقد كان حسن يحيى تاجرا بمعنى الكلمة يتمتع بفن الاستماع وحين يحاورك في البيع والشراء يأتيك أسلوبه سلسا في التراضي بينك وبينه... في سوق أم درمان كانت له صولات وجولات بين مشاهيره أحبه الجميع رغم فارق السن، محمد أحمد البرير، الأمين عبد الرحمن، عبد المسيح تادريس، عبد الحميد المهدي، عبد الرؤوف زين العابدين، عثمان صالح، حسن هريدي، النفراوي عثمان رحمة، إبراهيم طالب، عباس رشوان، أولاد شلقامي، الحاج أبورقة، سعد الشيخ، سليمان محمد سليمان، علي أحمد آل ملة، آل تبيدي، عوض الكردي، محمد حسين، مدني أبشر، سيد خليل، عثمان عوض، سليمان فرح، سيد كبوشية، الأمين حامد وكثير من التجار الشوام والأرمن والأقباط واليهود والكثير من ما لا يمكن حصره ونحن نبكي ونرثي قبسا من آخر الأقباس ممن توجهت الحياة بهم. كيف أرثيك وكيف أبكيك يا حسن يحيى ودموع عيني تتسابق إلى المحاجر كلما ذكرتك خصيب الوجه وتذكرتك عليما بفن شفاء النفوس من كآبتها خبيرا بمداواتها دون دواء تفرح لأفراح الناس ويعتصر قلبك المرهف بالحزن عندما تأتي الفاجعة، كيف تكون بعدك أم درمان بعد أن كنا نستظل تحت سمائها بألوان قوس قزح تحيطنا هالة من الهيبة والوقار أيها المحتشم المهذب المؤدب الوقور... وأخيرا انطفأت إشراقة الوجه الصبوح وانسحب الفارس يردد مع عبد الوهاب البياتي:- معجزة الإنسان أن يموت واقفا وعيناه إلى النجوم وأنفه مرفوع إن مات أو أودت به حرائق الأعداء وأن يمضي الليل وهو يتلقى ضربات الغدر الغشوم وأن يكون سيد المصير... وكم كنت أخالك يا حسن يحيى وأنت داخل أكفانك تردد مع خليل نوح:- ويح قلبي ألما انفك خافق فارق أم درمان باكي شاهق يا أم قبائل ما فيك منافق سقي أرضك صوب الغمام ***** في يمين النيل حيث سابق كنا فوق أعراف السوابق الضريح الفاح طيبه عابق السلام يا المهدي الإمام اللهم يا حنان ويا منان ويا من بيدك الأكوان إن عبدك حسن يحيى الكوارتي جاء إليك وكان لك من الخاشعين الركع الساجدين فأقبله مع الصالحين فقد كان من مهندسي "رتق الفتق" يرفع راية الصلح والسلام فتنقشع السحب التي تراكمت في جو الخصومات وكان بعيدا عن التهريج السياسي وليس من محبيه. اللهم إن عبدك حسن يحيى كان يجعل من تنزيلك الحكيم قدوته فقد كان يدفع بالتي هي أحسن ويأخذ الناس باللطف تفاديا للنفور... وكان محبا لنبيك المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم... اللهم إن حسن يحيى جاءك بنفس مطمئنة وانتقل إلى جوارك فأسكنه فسيح جناتك... اللهم إن عبدك حسن يحيى انسحب راضيا مرضيا وجاشت مشاعر وفاضت دموع فجاء الأهل والعشيرة بقلوبهم الباكية يزرفون الدمع الغزيرة فقد رحل رجل البر والإحسان إلى ديار أرحب وأوسع.. إلى جوارك يا غفور يا رحيم. اللهم يا أحد ويا صمد أرحم عبدك حسن يحيى الكوارتي وأسكنه خالدات الجنان مع حملة الأعلام والسيوف والأقلام. وسبحانك يا من لك الدوام والبقاء..