( كتشنر الرائد المغمور في الجيش المصري * الأقزام في القمة * المهدي للدين والخليفة عبد الله رجل الدنيا. * بريطانيا في السودان بدعوة من الخديوي * سيوف تقدح شررا وبنادق رصاصها برد وسلام * محمد شريف نور الدائم عميد الصوفية * غوردون يطلب الجنة في جزر سيشل عبر الخرطوم *) ****** "ما كل مولود في الأسطبل حصان"!! مقولة تنسب إلى دوق ولنغتون القائد الإنجليزي العريق الذي هزم نابليون في معركة ووترلو الشهيرة. قالها ردا على من يزعمون أنه أيرلندي بحكم مولده في أيرلندا مع أنه ينتمي في الحقيقة إلى إنجلترا موطن أمه وأبيه ومثله لورد كتشنر(أوف خرطوم) المولود في أيرلندا أيضا لكنه إنجليزي حتى النخاع. لعل عصر الإمبرطورية البريطانية الذهبي الذي بلغ القمة في العهد الفكتوري لا يتجسد في أحد مثلما تجسد في كتشنر. لا تزال صورته مشهدا مألوفا حتى اليوم في ملصقات حملات التجنيد في الجيش البريطاني وعليها العبارة المشهورة "وطنك يحتاج لك " التي ترجع لعهد الحرب العالمية الأولى. ولد أبوه (هنري هوريشيو كتشنر) في أكتوبر 1805 بعد يومين فقط من انتصار لورد نيلسون على الأسبان في معركة الطرف الأغر. عمل هنري في خدمة الجيش البريطاني وتزوج عام 1845 فتاة تنتمي لأسرة ذات أصول فرنسية من سكان مقاطعة سافوك في إنجلترا. ثم هاجر إلى أيرلندا لأسباب اقتصادية بعد تقاعده برتبة كولونيل عام 1844. رزقت الأسرة بالطفل هيبرت (لورد كتشنر لاحقا) بعد عام من وصولها لأيرلندا وكان قد سبقه أخ أكبر منه سنا يدعى آرثر. ترعرع هيبرت هناك تحت رعاية أم حانية وأب عسكري صارم أكبر منها بعشرين عاما مفرط في إلزام نفسه ومن حوله بقواعد الانضباط في كل صغيرة وكبيرة. عاش هيبرت في باكورة عمره مع أسرته في مزرعة في مقاطعة كيري الأيرلندية حياة متواضعة لا تنبئ بما ينتظره في المستقبل كواحد ممن أصبحوا معالم أسطورية في تأريخ الأمبرطورية البريطانية. الحياة في ريف أيرلندا كئيبة قاسية وزادتها سوءا غرابة سلوك الأب (كولونيل هنري كتشنر) فهو غريب الأطوار في انضباطه العسكري يأتي بحماقات لا تخطر على البال. فرض على أسرته – مثلا – استخدام ورق الصحف بدلا من البطانيات بحجة الاقتصاد في النفقات. كل شيء داخل البيت يسير كأنه ثكنة عسكرية. الخادمة المسئولة عن إعداد وجبة الإفطار عليها أن تحضرها إلى غرفة المائدة في الثامنة صباحا تماما والويل لها إن تقدمت أو تأخرت دقيقة واحدة. تذكر سارا مربية الطفل هيبرت أنها أصيت بدهشة ذات صباح حين ألفت الخادمة المسكينة واقفة عند باب غرفة فرانسيس الأم في يسراها صينية وجبة الإفطار وهي تتابع بدقة عقارب الساعة التي على يمناها لكي تدخل في الساعة المحددة لها دون زيادة أو نقصان. اشتهر الطفل هيبرت عندما بلغ قمة مجده وأصبح لورد كتشنر أوف خرطوم بالانضباط واحترام الوقت. قالت مربيته سارا معلقة على ذلك " إنها خصلة تجري في عروقه منذ الصغر". لعل هذا مرجع قولنا المتداول في السودان وربما بلاد عربية أخرى : ميعاد إنجليز !!. كان الكولونيل هنري كتشنر يحتقر التعليم في المدارس وهذه واحدة من حماقاته المثيرة للاستغراب لكنها ربما جاءت من مصلحة ابنه الأصغر هيبرت إذ لم يرسله أبوه إلى مدرسة خاصة في إنجلترا أو أيرلندا لدراسة مناهج كلاسيكية وإنما تولى بدلا من ذلك تعليمه بنفسه دروسا في إدارة المزارع والتنمية الريفية. **** على أية حال تعكس مرحلة الطفولة في حياة لورد كتشنر صورة معبرة عن معاناة الصبية خلال العهد الفيكتوري. لكنه تعلم مع أخيه آرثر من أمهما فرانسيس سلوكيات أفضل إذ كانت تشجعهما حين يأويان إلى غرفة نومهما على استذكار أحداث اليوم وإنشاد ترانيم الإنجيل. أصيبت فرانسيس عام 1863 بالدرن الرئوي وقرر الأطباء أن طبيعة الطقس في أيرلندا لا تساعد على شفائها. قام الأب (كولونيل كتشنر) كدأبه في حزم ودون تردد ببيع المزرعة وانتقل بأسرته إلى سويسرا حسب وصية الأطباء لما تمتاز سويسرا به من بيئة جبلية ذات هواء نقي يساعد على الشفاء. في الواقع إنها وصفة طبية شائعة للقادرين من مرضى الدرن الرئوي في بريطانيا في ذلك الزمان قبل اكتشاف البنسلين خلال النصف الأول من القرن العشرين. أقامت الأسرة أولا بالقرب من جنيف حيث التحق آرثر وأخوه هيبرت (لورد كتشنر لاحقا) بمدرسة فرنسية هناك. غير أن حالة الأم – فرانسيس – ازدادت سوءا فارتحلت الأسرة إلى موقع آخر على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة جنيف تقطنه مجموعة من المعوقين والعسكريين المتقاعدين القادمين من بريطانيا. لم يجد الانتقال للموقع الجديد نفعا فماتت فرانسيس في صيف سنة 1864 وعمرها آنذاك 39 عاما. كانت وفاة الأم بلا شك مصدر حزن وخسارة كبيرة للأسرة وخاصة صغيرها هيبرت الذي كان عمره آنذاك 14 عاما. لقد انتبهت فرانسيس منذ كانوا في ايرلندا لطبعه الخجول وميله إلى إخفاء أحاسيسه وكبتها. لم يخبرها في إحدى المرات بإصابته في يده جراء حجر سقط عليها. التفتت الأم إلى مربيته سارا قائلة : هيبرت خجول جدا في الحديث عن أحاسيسه وأخشى أن يعاني كثيرا من ذلك !! تضاعفت مظاهر الخجل لدى هيبرت عقب رحيل أمه فرانسيس حتى أصبح هدفا للسخرية بين أقرانه في المدرسة. يعيرونه تارة بلهجته الأيرلندية وتارة أخرى بجلافته وخشونته كأهل الريف. لكن تعليمه غير العادي في المراحل الأولى على يد والده مهد له طريقا لاستيعاب لغات غير الإنجليزية كالفرنسية والألمانية اللتين يتحدث بهما بطلاقة. هكذا كان هيبرت عند التحاقه بأكاديمية وولتش العسكرية عام 1868 رجلا أكثر نضوجا وإلماما بأحوال العالم لدى مقارنته مع زملائه الآخرين خريجي المدارس الفكتورية الخاصة. ***** أكاديمة وولتش التي تعرف أيضا باسم (الورشة) واحدة من المؤسسات الفريدة في تأريخ الأمبرطورية البريطانية. أسست عام 1741 وبقيت إلى أن أدمجت عام 1947 في كلية ساندهيرست العسكرية القائمة حتى اليوم. كان لأكاديمية وولتش طابع خاص يميزها إذ كانت تستقبل طلبتها من أبناء الطبقة الوسطى على عكس كلية ساندهيرست التي أنشئت بعدها بنحو خمسين عاما لأبناء الذوات. يجرى في أكاديمية وولتش تدريب الطلبة للعمل ضباطا في سلاح المدفعية أو المهندسين. أما كلية ساندهيرست فقد كانت قبل إلغاء نظام شراء الرتب العسكرية عام 1870 مجرد مرحلة نهائية في سلم التعليم. اشتهرت أكاديمية وولتش (الورشة) بالتشدد قي الالتزام بقواعد الضبط والربط والنظام مما دفع طلبتها إلى التمرد في أكتوبر عام 1861 قبل نحو سبع سنوات من التحاق هيبرت كتشنر (لورد كتشنر) بها. تمرد الطلبة يومذاك احتجاجا على فساد البيض الذي يقدم لهم في وجبة الإفطار. قاموا في طابور الصباح بطرح بنادقهم على الأرض فألقي القبض عليهم فورا. استجابت سلطات الورشة في نهاية الأمر لمطالبهم فأدخلت تحسينات على أصناف طعامهم وأوضاعهم الأخرى بوجه عام. كان هيبرت كتشنر طالبا حربيا عاديا متوسط الأداء غير ملفت للنظر. احتل عند تخرجه المرتبة الثامنة والعشرين بين دفعته التي ضمت 56 خريجا. وصفه دوق كونوت - أصغر أنجال الملكة فكتوريا - الذي عاصر هيبرت كتشنر في الورشة - بأنه " رجل نحيف طويل القامة (6 أقدام وبوصتان) بسيط ومتواضع وهادئ جدا ". يضاف إلى ذلك أن في عينيه حولا عاقه عن المشاركة الفعالة في النشاط الرياضي وأضعف قدراته على الرماية كما عزز ميله الطبيعي للانطواء والبقاء بمعزل عن زملائه في الأكاديمية. لم تكن السنوات الأولى من خدمته العسكرية برتبة ملازم مثيرة وإنما كانت أقرب إلى الرتابة ولم يظهر خلالها كواحد من الشخصيات الفذة الواعدة التي يسطع نجمها عادة منذ عنفوان الشباب. ذهب الملازم هيبرت كتشنر لسوء حظه في عام 1870 إلى فرنسا لزيارة والده الذي اختار الإقامة هناك مع زوجته الثانية لقلة تكاليف المعيشة في فرنسا. نشبت الحرب الفرنسية البروسية أثناء وجوده هناك فالتحق بوحدة إسعاف ميدانية. قدر له أن يشهد معارك ضارية راحت ضحيتها أعداد كبيرة من المقاتلين والخيول. يبدو أن مشاهد التخريب والدمار التي جرت على مرأى منه في فرنسا وهو في العشرينات من عمره جعلته أكثر تطلعا للأسفار. سنحت له الفرصة التي شكلت منعطفا مصيريا في حياته عندما بلغه نبأ وفاة مهندس المساحة الشاب شارلس دريك في فلسطين. انتهز الملازم هيبرت كتشنر الفرصة فشد الرحال إلى فلسطين خلفا للمهندس الراحل. كان عمله الجديد في المساحة مفيدا وفاترا في آن واحد لا يمكن اعتباره استهلالا لمشواره الطويل في الطريق إلى ما حققه لاحقا من إنجازات عسكرية. أضاف في فلسطين اللغة العربية لذخيرته اللغوية مما أسهم في تكييف حياته العملية في السودان التي توجها بشق طريقه إلى القمة على جماجم وأجساد الشهداء المدافعين عن دولة المهدية. عاد الملازم هيبرت كتشنر إلى لندن بعد أن أمضى 18 شهرا في فلسطين شارك خلالها في وضع خرائط طوبوغرافية لها. ثم سنحت له فرصة أخرى عام 1877 فعاد لفلسطين للعمل في المساحة الميدانية خلافا لعمله المكتبي في السابق. أقبل على عمله هذه المرة في جد واجتهاد مما شد الانتباه إليه. ينسب إلى عالم آثار فرنسي عاصره في فلسطين آنذاك قوله : "هذا الملازم الطويل القامة النحيل يؤدي عمله بحماسة نالت إعجابنا جميعا ". ربما يكون تدرج الملازم هيبرت كتشنر حتى هذه المرحلة بطيئا متثاقل الخطوات في سلم حياته العملية لكن طموحاته كانت واضحة للعيان يلمسها كثيرون ولو أنها لم تسلم من سخرية أبيه التي جبل عليها. قال له مرة : " يا بني إنك عملاق طويل جدا ... والقمة لا يصلها إلا الأقزام قصيري القامة !! ". غير أن سخرية الأب لم تثبط همة ابنه الشاب (الملازم هيبرت كتشنر) الذي ذهب عام 1878 إلى جزيرة قبرص للقيام بأعمال المساحة فيها أيضا. عرف بين الناس في قبرص بشاربه المميز الذي رافقه طيلة حياته كما تعلق بفن الخزف وصناعته تعلقا مثيرا للدهشة. نال أداؤه قي قبرص تقدير رؤسائه وإعجابهم. لكن الملازم هيبرت كتشنر أخذ يشعر بالملل ويرى في بقائه هناك ضياعا لمستقبله وكان عمره آنذاك 32 عاما. كشف لرئيسه الميجر جنرال سير روبرت بيدولف عن رغبته الجامحة في الالتحاق بالخدمة العسكرية في مصر لأن استمراره في الخدمة المدنية رغم توفر الفرصة له للعمل العسكري ربما يؤخذ عليه في المستقبل. انتابه في تلك اللحظات إحساس جارف بالإحباط وكاد أن يبكي وهو يقول لرئيسه : " إن أكبر عمل أنجزته حتى الآن هو وضع خريطة لجزيرة قبرص ؟؟ " لعل هيبرت كتشنر تذكر حينذاك كيف بكى يوليوس قيصر مثله عندما رأى يوليوس تمثال الاسكندر الأكبر الذي فتح العالم لما كان في مثل سنه بينما يتسكع هو الآن في أسبانيا.