دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع الجنرال ونجت حاكم عام السودان

سير ريجنالد ونجت رجل صغير الحجم لا يتمتع بشخصية جذابة مؤثرة مثل سلفه كتشنر . تخرج ونجت من أكاديمية وولتش العسكرية (الورشة) أسوة بكبار القادة البريطانيين في أواخر عهد الملكة فكتوريا . التحق بعد تخرجه بالجيش البريطاني (سلاح المدفعية) . ولد عام 1861 في مدينة ليفربول لأسرة مغمورة تعيش على هامش المجتمع . توفي أبوه بعد عام من مولده فارتحلت أمه به إلى جزيرة جيرسي حيث عاشا في ضيق وشظف . لكن أسعده الحظ عام 1861 حين قيض له الالتحاق بالورشة إيذانا بحياة أفضل ومستقبل باهر . احتل ونجت عند تخرجه المرتبة العاشرة بين 39 من زملائه . قادته روح الانتهازية التي طبع عليها إلى الالتحاق بالجيش المصري عام 1883 لسرعة الترقي في صفوفه إلى رتب أعلى . اقتدى ونجت في القاهرة بكتشنر إذ يمضي معظم أوقات فراغه مثله في تعلم العربية . لعل ما كتبه الصحفي جي دبليو ستيفنز عن ونجت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر أبلغ ما جاء في وصفه حين قال : " إن ونجت عسكري عالم يمكنه في ظروف مختلفة أن يصبح بروفيسرا للغات الشرقية في جامعة أكسفورد نظرا لقدرته على إجادة أية لغة في غضون ثلاثة أشهر فقط " . هذه القدرة العجيبة ميزة لا بد من توفرها في التعامل مع الأهالي المشتبه فيهم . يتبادل ونجت الحديث مع الواحد منهم ساعات وساعات – كما ذكر ستيفنز - وهو يعلم أنه كذاب ومراوغ متمرس ليخرج منه في النهاية لا بحقائق كثيرة فحسب وإنما يعرف أيضا ما أخفاه منها . يتفاعل الفكر والثقافة عنده مع المواظبة على التدوين بدقة وتفصيل والاحتفاظ بكل ما يدونه في ملفات خوفا من ضياعها . هكذا نجد اليوم في جامعة ديرام البريطانية ذخيرة وافية من أوراق ونجت تملأ 190 صندوقا بالتمام والكمال . لا غرابة قي ذلك فقد عرف عن ونجت إدمانه كتابة الرسائل والتقارير والمواظبة على تدوين يومياته ووقائع الجلسات مما يجعله واحدا من أبرع الإداريين البريطانيين المحنكين في العهد الفكتوري .
يتجلى حرص ونجت واهتمامه الزائد بتفاصيل كل أمر في احتفاظه – كما أشيع – بجمجمة الخليفة عبد الله التي حولها – في ما يقال - إلى إناء لاحتساء الشامبانيا في ذكرى معركة أم درمان كل عام إلى أن توفي عام 1953 وفاة طبيعية عن عمر يناهز 91 عاما . إنها منقصة لا تخرج عن إطار سلوكيات مماثلة في ذلك الزمان وما قبله. ومهما يكن فإني على كثرة ما اطلعت وما سمعت لم أجد إشارة لها إلا مرة واحدة . لكن من الثابت أن الكولونيل سميث أخذ الجبة - التي كان يرتديها الخليفة عبد الله ساعة مقتله مضرجة بدمائه وعليها ثقوب من أثر الرصاص . الكولونيل سميث عمل - بعد معركة أم دبيكرات التي استشهد الخليفة عبد الله فيها – مفتشا لمركز أم درمان وكان من ضباط القوة التي كلفت بمطاردة الخليفة عبد الله منذ خروحه من أم درمان . حمل سميث الجبة معه عندما هاجر بعد تقاعده إلى استراليا وورثها عنه ابنه الذي توفي عازبا . اقترح سير دودز باركر في الثمانينات – قبل وفاة الابن - على ملكة بريطانيا شراء الجبة وضمها إلى المقتنيات الملكية في قصر وندسور ولا يدرى أحد ما حدث للجبة بعد ذلك .
درج ونجت أثناء تقلده منصب حاكم عام السودان على التشبث بكل مظاهر الأبهة والسلطان . قيل أنه حاكم أوتوقراطي في ثوب عسكري مطلق السلطات وظلت الخارجية البريطانية حتى بعد تقاعد ونجت تذيل مرشد السودان الذي تصدره سنويا بعبارة ( القيادة العسكرية والمدنية العليا مخولة للحاكم العام ) . ورد في مذكرات همفري بومان الذي جاء للسودان عام 1910 مديرا للمعارف : " يمتاز ونجت بصفات مدهشة ... لا ينسي اسما أو وجها قابله في حياته ... حاكم يتمتع بسلطات مطلقة يتنقل في أسفاره على هيئة الملوك وبرفقته دائما حاشية من الحراس والخدم ". لا جدال في أن ونجت كان معجبا بما يحف بالحاكم الأوتوقراطي من بهرج وخيلاء لكنه يعلم في الوقت نفسه أنه في حاجة إلى خدمة مدنية بيروقراطية لتصريف شئون الحكم في بلد كالسودان . هذه هي الخدمة التي وفرها له وللسودان " أكفأ نخبة من الرجال في العالم " على حد تعبيرلورد فانسيتارت رجل الخارجية البريطانية المخضرم . يصفهم اللورد في ذكرياته بأنهم بفضل طباعهم وسلوكهم أجدر من يحملون أعباء مسئوليات تلك الخدمة في بلاد تقاس مساحتها بآلاف الأميال المربعة ذات طقس يمكن أن يهلكهم في غضون عشرين عاما " . على المرء لكي يستوعب عقلية الاستعمار البريطاني وثقافته الرجوع لأولئك ا لرجال الذين تصدوا عمليا لإدارة الأمبرطورية البريطانية . تأتي في صدارة تلك الخدمة المدنية ما تعرف بالخدمة السياسية في السودان وتسمى أيضا السلك السياسي أو الإداري . نشأت هذه الخدمة في عام 1901 وتم وضع نظام محكم لتجنيد الشبان لها من خريجي الجامعات البريطانية بحلول عام 1905 . يجري اختيار الشبان في العادة لا عن طريق الاختبارات التحريرية فحسب وانما عبر سلسلة من المعاينات أيضا . يتولى وكيل حكومة السودان في لندن أولا فرز وتصنيف طلبات المتقدمين وشهادات تزكيتهم ثم يستدعي من شملتهم القائمة القصيرة للمعاينة أمام لجنة الاختيار في مكتبه في لندن وهو في مقام سفارة تقريبا . كان ونجت (الحاكم العام ) مهتما شخصيا بعملية الاختيار في جميع مراحلها. لا يستجيب للوساطة من أية جهة مهما علا قدرها ما لم يقتنع بأن الشاب موضوع الوساطة متفرد يتحلى بالمواصفات المطلوبة. كتب ونجت مرة رسالة إلى اللجنة في لندن يوصي بتعيين أحد الشبان جاء فيها أن : " والده كبيرالأساقفة في مدينة إكستر . تلقى تعليمه قبل الجامعي في مدرسة أهلية خاصة وهو رياضي نشأ تحت رعاية مثالية في بيئة دينية خالصة ". لقد لخص ونجت في هذه الرسالة المثل العليا التي اختطها للخدمة السياسية في السودان وما يجب أن تكون عليه . تفضل لجنة الاختيار في لندن الجامعيين الذين تلقوا تعليمهم في مدارس أهلية خاصة لاسيما الرياضيين منهم مما أفضى إلى مقولة مشهورة : " الزرق يحكمون السود " . المقصود بذلك اللون الأزرق لأزياء الفرق الرياضية في جامعتي أكسفورد وكمبردج بينما تعني كلمة السود اسم السودان (بلاد السود) . تولى اللجنة قيمة كبري للرياضيين لأنهم أقدر على الصمود لضراوة طقس السودان وطبيعته القاسية حيث لا مكان فيه للضعفاء – على حد تعبير حاكم عام سابق . هنالك إجماع علي أن (الخدمة السياسية في السودان) تمثل صفوة الخدمات المماثلة في افريقيا وتمتاز بمكانة رفيعة مقارنة برصيفتها في الهند درة التاج البريطاني . يرجع ذلك إلى أن الالتحاق بها ليس قاصرا على المؤهلات الأكاديمية واجتياز الاختبارات التحريرية كما هو الحال في فروع الخدمة المدنية في المستعمرات البريطانية الأخرى .
تم خلال الفترة بين عامي 1902 و 1914 تعيين 56 شابا بريطانيا بينهم 27 من خريجي جامعتي أوكسفورد وكمبريدج للعمل في الخدمة السياسية في السودان( السلك السياسي ) . كلهم رياضيون مبرزون في مختلف الألعاب الرياضية التي تمارس في الجامعتين . كما أنهم نتاج المدارس الأهلية الخاصة مما يدل على عراقتهم وانتسابهم لعلية القوم . يذكر سير ستيوارت سايمز - حاكم السودان العام بين عامي1934 و1941 – تأييدا لذلك أن هنالك دائما نكهة نفاذة للمدارس الخاصة بين رجال الخدمة السياسية في السودان . سرعان ما اشتهرت تلك الخدمة بفضل خطة التعيين المتبعة بروح الزمالة والتجانس طبقيا وأكاديميا بين العاملين فيها . لم تكن المعاينات أمام لجنة الاختيار في لندن صارمة وانتقائية فحسب وانما كانت تركز بصفة خاصة على أسئلة لاكتشاف القدرات البدنية والعقلية . تستبعد اللجنة بصفة خاصة المغرورين والمتهورين أو من يتحدثون بلهجة غير مألوفة قد تكون أجنبية في أغلب الأحيان . سئل أحدهم : لماذا تفضل العمل في السودان ؟؟ فرد قائلا : ظللت أحلم بذلك منذ مشاهدتي أفلام طرزان !! استبعدته اللجنة على الفور لأن إجابته كشفت عن تهوره وغروره . وقد أوصى ونجت شخصيا لجنة الاختيار في إحدى المرات بعدم تعيين شاب بحجة أنه يتحدث الانجليزية بلهجة مشرقية غير مرغوبة !! . تفضل لجنة الاختيار دائما الرياضيين المتفوقين بصفة خاصة في الملاكمة وكرة الرجبي على لاعبي الهوكي وكرة القدم . كما تفضل حملة الدرجات في التأريخ والانثروبولوجيا . بلغ عدد البريطانيين العاملين في الخدمة السياسية بين عامي 1902 و1956 نحو خمسمائة قدرت نسبة خريجي جامعتي أوكسفورد وكمبردج منهم بسبعين في المائة .
تعطى حرية شبه كاملة لمن يقع الاختيار عليه عند وصوله إلى السودان لمباشرة عمله في الخدمة السياسية في وظيفة مفتش مركز دون تدخل كبير من رؤسائه . تنطوي هذه الوظيفة على قدر كبير من المشقة والعناء إذ يتحتم على المفتش الشاب أن يتجول دون انقطاع في أرجاء المركز المسئول عنه سيرا على الأقدام أوفي بعض الأحيان على ظهور الخيل والجمال والثيران إن أسعده الحال . تتراوح أعمار من يقع الاختيارعليهم بين الحادية والعشرين والخامسة والعشرين . يقضي الواحد منهم سنتين تحت الاختبار أولاهما في جامعة أوكسفورد أو كمبردح لدراسة القانون وتعلم اللغة العربية على نفقته الخاصة خصما من مرتبه . ثم يعين في آخر السنة الثانية بعد اجتياز الامتحان في المادتين المذكورتين في وظيفة مساعد مفتش مركز أدنى رتبة للبريطانيين في الخدمة السياسية . تمنح للمفتش ومساعده سلطة قضائية للفصل في القضايا الجنائية والمدنية .
ينطوي العمل في الخدمة السياسية في السودان رغم القسوة والعناء على مزايا ومباهج كثيرة للبريطانيين . من حق الواحد منهم حسب شروط الخدمة التقاعد اختياريا عن الخدمة في سن الثامنة وأربعين شريطة ان يكمل 15 عاما في الخدمة . كما يمنح عطلة سنوية لمدة تسعين يوما أو 122 يوما في أول عطلة بعد اجتياز الفترة الاختبارية . يأتي الواحد منهم إلى السودان في رحلة طويلة شاقة بحرا أو برا من مصر عبر الصحراء . اشتكى أحدهم لكتشنر من طول الرحلة من القاهرة إلى الخرطوم وكيف استغرقت ثلاثة أسابيع كاملة غير منقوصة . لم يبد كتشنر عطفا على الشاكي وانما رد عليه في برود : ثلاثة أسابيع فقط ؟؟ . إنك محظوظ جدا فقد استغرقت نفس الرحلة مني ثلاث سنوات !! . يعتبر ولفرد ثيسغر من أشهر المفتشين البريطانيين في السودان . كان خلال دراسته بطل الملاكمة في جامعة أوكسفورد والتحق بالخدمة السياسية في السودان عام 1934 . أمضى ثيسغر معظم سنوات عمله في دارفور وجنوب السودان وهو من الاداريين البريطانيين القلائل المعترفين بانحرافاتهم الجنسية ومع ذلك أصبح بعد مغادرته السودان أعظم علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين لا سيما في ما يتعلق بقبائل الزاندي والربع الخالي وكثيرا ما أبدى ندمه على عدم تعلمه اللغة العربية الفصحى مكتفيا بما عرفه منها أثناء عمله في السودان أو تجواله في الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية .
تعرف الخدمة السياسية في السودان أيضا - كما أسلفنا - باسم السلك الإداري ويجلس على قمتها السكرتير الإدارى الذي يصعد إلى هذا المنصب بعد عشرين عاما على الأقل من الخدمة وهو بمثابة رئيس الوزراء بينما يمثل الحاكم العام رأس الدولة . يعتبر المفتش مسئولا عن كل المناشط الحكومية في المركز المسئول عنه مثل الزراعة والتجارة والصحة والتعليم والمساحة والأشغال والرياضة إلى آخر القائمة بالإضافة لمسئولياته الأمنية مما دفع أهل السودان إلى اطلاق اسم (حكومة المفتشين) على نظام الحكم الثنائي بعد مقالات ساخنة تحت هذا العنوان بقلم المرحوم أحمد يوسف هاشم (أبو الصحف ) . غير أن سمو أداء السلك الإداري في السودان حظي بالإشادة والاكبار حتى من جانب من لا يستسيغون طابعه الاستعماري أو يبغضون بريطانيا . لعل أصدق شاهد على ذلك الصحفية الفرنسية أوديت كيون عشيقة الأديب الانجليزي إتش . جي ويلز . تحدثت أوديت عن سخف وحماقة الشباب الانجليز الذين تخرجوا من الجامعات في حقبة العشرينات . قالت " نلتقي بهم نحن الأوروبيون القاريون وهم يتسكعون حين يأتون لقضاء عطلاتهم في سويسرا والريفييرا وايطاليا واسبانيا " . وتمضي الصحفية الفرنسية أوديت كيون مسجلة " الشاب الانجليزي الذي يأتينا لقضاء عطلته سكير سخيف للغاية ومزعج وطائش كصغار الحيوان " . لكنها عندما تتحدث عن الموظفين البريطانيين في السودان لا تملك غير الإشادة والثناء . إنهم يختلفون – كما ذكرت أوديت – " اختلافا شديدا عن أبناء جلدتهم الجهلاء المستهترين الذين يقضون عطلاتهم في أوربا . لقد تحولوا في السودان إلى شخصيات مصقولة رزينة وموضع احترام . لا يعرفون الأنانية في أداء مهامهم " . وتحدثت عن غياب الجنس في حياتهم خلال عملهم بالسودان فذكرت إن العرف الاجتماعي الانجليزي يرفض الاتصال الجنسي مع نساء الأهالي في المستعمرات . هذه ليست حقيقة في الواقع ولعل أوديت حين ذكرتها كانت مأخوذة بمظاهر خادعة فقد عرف أن بعض الموظفين الانجليز في المناطق النائية وخاصة الجنوب اتخذوا خليلات بل زوجات في بعض الأحيان من نساء الأهالي . علي أية حال تكشف إشارتها إلى غياب الجنس في حياة الموظفين البريطانيين في السودان عن طابع "الذكورية " الذي اتسمت به حياتهم . السلطات لا تمنعهم لكنها لا تشجعهم على احضار زوجاتهم معهم لاعتقادها أن الزوجة عائق في أحسن الحالات ومصدر قلق في أسوئها . علق سير جون مفي الحاكم العام على تعيين مدير جديد لدارفور عام 1927 بقوله : " إ ني قلق إلى حد ما بسبب ذهاب ( عريس جديد ) إلى دارفور ". غير أن ( العروسة ) التي رافقت زوجها إلى دارفور كانت سيدة ناضجة لها دراية لا بأس بها بالتمريض مما جعل في الإمكان الاستفادة منها في هذا المجال . كانت شروط الخدمة صريحة تنص على عدم السماح للموظف البريطاني باصطحاب زوجته إلى السودان إلا بعد خمس سنوات من الخدمة أو أن يكون عمره 28 عاما فما فوق . ومن يخل بهذه الشروط جزاؤه الاستغناء عن خدماته . هكذا صار عدد النساء الأوروبيات حتى في الخرطوم محدودا للغاية . يذكر أحدهم خلال الأعوام الأولى من عمله في السودان حفلات الرقص التي تقام في القراند أوتيل ( الفندق الكبير ) وكيف يأتي الرجال إليها في ثياب السهرة ويرقصون مع بعضهم بعضا لقلة عدد النساء . تواجه السيدة البريطانية حياة خشنة وقاسية إذا قدر لها أن تصحب زوجها إلى السودان . هناك العديد من الأمراض الفتاكة كالملاريا والدسنتاريا والحمى السوداء ولا يحتمل الأزواج في الغالب شكواهن . اشتكت احداهن لزوجها من حرارة الطقس فرد عليها في غلظة : " إذا أردت أن تستمتعي بالحياة هنا فلا تتحدثي مطلقا عن شدة الحر ولهيب الشمس " !! . وللرتب في الخدمة السياسية استحقاقاتها كاملة حيث يخضع المرؤوس للرئيس ويستجيب لتوجيهاته وتسرى هذه الاستحقاقات على زوجاتهم . وجدت إحداهن سيدة أخرى أصغر سنا تشاركها في مقصورة على القطار من بورتسودان للخرطوم فأمرتها لما حانت ساعة النوم بالصعود إلى السرير الأعلى وتترك لها السريرالأسفل لتريحها من مشقة الصعود والنزول لأن زوجها أعلى رتبة ومقاما من زوجها فما كان للسيدة الصغيرة إلا أن تصدع بالأمر . صالات الرقص غير متوفرة في الخرطوم باستثناء الحفلات التي تقام في حدائق قصر الحاكم العام والفندق الكبير . كما أن هناك ناديين فقط للموظفين البريطانيين هما (سودان كلب) و(خرطوم كلب). تخضع العضوية فيهما لمستويات الدخل ودرجة الوظيفة . يسمح بالعضوية في سودان كلب لذوى الدخل العالي والرتب الرفيعة فقط بينما خصص نادي الخرطوم لمن دونهم . غير أن باب العضوية في النادي الأول مفتوح أمام سائر موظفي السلك السياسي البريطانيين تلقائيا دون قيد أو شرط .
كانت مديرية دارفور خلال حقبتي العشرينات والأربعينات اقطاعية يحكمها مدير بريطاني يتمتع بصلاحيات سلطوية مطلقة . اشتهر أحدهم بفرضه بروتوكولا صارما يلزم البريطانيين العاملين تحت إمرته بعدم ارتداء قميص أزرق اللون عندما يأتون لمقابلته مهما علت رتبتهم إلا بعد قضاء عامين كاملين في الخدمة . علقت زوجة بريطانية علي ذلك بكلمة واحدة غير صالحة للنشر !! . بلغ هذا المدير في غطرسته حدا منع فيه الطائرات االحربية الأمريكية أيام الحرب العالمية الثانية من الهبوط في مطار الفاشر – عاصمة المديرية – خلال الساعات التي يكون مشغولا فيها بلعب رياضة البولو في ساحة المطار .
لقد أمضى نظام الحكم الثنائي معظم عهده في السودان الذي امتد خمسين عاما تقريبا آمنا مستقرا لم يواجه مقاومة تذكر . أشار الحاكم العام سير ستيوارت سايمز في تقرير له عن الوضع في السودان عام 1935 إلى أنه ما من أحد تحدى الحكم البريطاني تحديا خطيرا منذ عام 1898 . لكن اطمئنان الحكام البريطانيين في ذلك العهد تشوبه مخاوف - ظلت تؤرقهم أمدا طويلا - من اشتعال التطرف الديني مما جعل السودان عبر تأريخه الحديث عرضة للزعزعة والإضطرابات العنيفة . هنالك خطر قي المقام الأول يتمثل في امكانية ظهور قائد ديني كالإمام المهدي يلهب مشاعر الجماهير من جديد ويؤجج نيران الثورة لتحرير البلاد من حكم الانجليز (الكفار) واعادتها تحت راية القرآن إلى درب الهداية والصراط المستقيم . هذه التوجهات الملازمة لأهل السودان القائمة حتى اليوم لم يفت على الصحفي جي دبليو ستيفنز رصدها حين كتب بعد معركة أم درمان قائلا : " إن السودان موطن للتطرف الديني يوصف دائما ببلاد الدراويش " . لسنا بحاجة للقول في هذا المقام بأن السودان وقد جرب كل نظم الحكم المتعارفة عبر التأريخ هوالبلد الوحيد في العالم الذي حكمه دراويش !! . لقد دفع السودان ثمنا لتطرفه الديني استعمارا دام زهاء خمسين عاما ثم دفع انفصال جنوبه عن شماله ثمنا لمجرد اتهامه بالتطرف الديني . لا شك أن التعصب الديني الذي طبع عليه المسلمون في السودان كان شوكة حوت في جنب سير ريجنالد ونجت في فاتحة القرن العشرين إثر توليه منصب الحاكم العام فعمل ما وسعه لتهدئة العواطف الدينية . قام في عام 1901 لهذا الغرض بتشكيل مجلس من 12 عضوا من العلماء والفقهاء لمشاورتهم والاسترشاد بهم في أمور الدين . كما أقدم في الوقت نفسه استرضاء للمسلمين ببناء المساجد على نفقة الحكومة وكانت تلك أول مرة يشهد السودان فيها مساجد ذات مآذن شاهقة . منعت الحكومة أيضا بعثات التبشير المسيحية من العمل في شمال السودان . بل أن وزارة الخارجية البريطانية - المكلفة بإدارة السودان نيابة عن لندن والقاهرة – أكدت في مرشدها الدوري في عام 1919 " أن سياسة حكومة السودان ظلت وستبقى حريصة على رعاية الاسلام في جميع صوره المشروعة " . لا غرابة في ذلك فالانجليز يعلمون من تجربة تصديهم للمهدية ودولتها مدى ما يمكن أن يحدثه قائد ديني متطرف كالإمام المهدي . هناك قائمة طويلة بأسماء من حاولوا التشبه بالإمام المهدي أو ادعوا أنهم " نبي الله عيسى " في عهد الحكم الثنائي لكنها كانت كلها حركات فاشلة لم تجد الحكومة عناء كبيرا في اخمادها .
نشبت عام 1908 حركة ود حبوبة في دار قبيلة الحلاوين في الجزيرة وكانت دعوته بمثابة شرارة تنذر باشتعال الثورة المهدية من جديد انطلاقا من أرض الجزيرة حسب رأي سلاطين باشا( مفتش عموم السودان) لكنها أخمدت في حينها وأعدم ودحبوبة شنقا في ساحة سوق الحلاوين غربي مدينة الحصاحيصا .اعتمد ود حبوبة على المدائح الدينية في نشر دعوته وإثارة الحماس الديني وله مدائح عديدة من نظمه يقول في مطلع واحدة منها : بيسا بيسا الحالة التعيسا ... يا رب عجل بيتنفيسا ... وبيظهور نبي الله عيسى .!! ويقول في أخرى : الكفر ببلادنا حايطه --- متطامنين يقدلوا .... ؟؟ لقد كانت حركة ود حبوبة في الواقع شرارة مستصغرة محدودة الأثر لكن سلاطين باشا صب الزيت عليها فاشتعلت الشرارة كثورة حامية تنذر بانبعاث المهدية من أرض الجزيرة مما أيد وجهة نظرسلاطين القائلة بوجوب مد الخط الحديدي إلى كردفان عبر الجزيرة خوفا من انبعاث المهدية منها بدلا من مده عبر غرب النيل الأبيض كما يرى آخرون فكان لسلاطين ما أراد . ( محمد خير البدوي)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.