ولاية النيل الأزرق عرفت نوعين من النزاعات الأول نزاع اقتصادي قديم بين الرعاة والمزارعين يسمى بالصراع بين "القرون والجرون" أما الثاني فهو النزاع السياسي المعاصر وله آلياته.. وأبادر بتعريف مكونات النزاع الأول فالقرون والجرون مصطلح فولكلوري في "الصعيد" يرمز إلى القطاع الرعوي والزراعي حيث الثروة الحيوانية ذات القرون وفي الجانب الآخر السنابل وقناديل المحاصيل عندما يتم جمعها داخل الجرون في البيادر. وما كانت الإدارة في "مركز جنوب الفونج" القديم بالروصيرص في عهد الإنجليز ولا الإدارة الوطنية في عهد الحرية ما كانتا تحتاجان إلى منشد ينشد بيتاً من الشعر قيل في العهد الأموي يحذر الخليفة الحاكم: أرى تحت الرماد وميض نار وأخشى أن يكون له ضرام. أسباب النزاع ومواقيت انفجاره كانت معروفة للإداريين في العهدين، آلاف الرؤوس من الأبقار والضأن المملوكة لقبائل رفاعة وكنانة كانت تتدفق في مناطق الرعي وكان اعتداء الثروة الحيوانية في البداية محدوداً وقاصراً على "زروع" صغار المنتجين "في البلدات" ولكن النزاع ازداد حدة وشراسة مع نشوء "الزراعة الآلية المطرية" عندما قامت مئات المشاريع المخططة الشاسعة لصالح "البرجوازية" في عهد حكومة نوفمبر العسكرية" وكان ذلك على حساب المرعي والمسارات والغابات ومصادر المياه التقليدية في مناطق "الدالي والمزموم وأبو حجار وود النيل والقربين وأقدي" ثم أخذ هذا النزاع ينتقل إلى الكرمك وأعالي النيل في موسم هجرة القطعان جنوباً في الصيف عندما ضاق المرعى وظلت هذه القطعان تندفع خلف صافرة الرعاة نحو المرعى الأخضر ونحو روافد النيل. *الآلية الكلاسيكية لفض النزاع بين الرعاة والمزارعين: الإدارة الإنجليزية ظلت تطبق نظاماً تقليدياً قبلياً يعرف باسم "الحكرة" كأداة لحل النزاع الاقتصادي القديم بين القرون والجرون، تصدر التعليمات من "مفتش مركز جنوب الفونج" إلى زعماء الإدارة الأهلية وتكون هذه هي رسالته الإدارية الإعلامية الأولي لتحديد أهداف البرنامج: 1-تجميع القبائل في بعض المناطق على المسارات. 2-تنفيذ الأوامر بعدم الاعتداء على الزروع والجنائن في الكرمك وأعالي النيل خلال موسم هجرة القطعان جنوباً. 3-تحصيل ضريبة "القطعان" من أصحاب الثروة الحيوانية. 4-الاشتراك في أداء الطقوس الإفريقية للصلح والسلام بعد انتهاء موسم الرعي وعودة القطعان إلى الشمال "هذه الطقوس تنحدر من الثقافة الإفريقية وتجري عادة عندما تمتلئ الآفاق بالسحب الحبلى بالمطر وقبل أن تتحرك جيوش "ذبابة التسي تسي" التي تفتك بالثروة الحيوانية، وساعتها، تكون القطعان جاهزة للرحيل إلى الشمال مع بدايات الخريف". ينعقد مجلس الصلح تحت رعاية مفتشي المراكز المجاورة في "أعالي النيل والنيل الأزرق" وتدفع ديات الدم والتعويضات المالية للمتضررين ثم يجري أداء أحد الطقوس السلمية المهمة إذ يتم ذبح عدد من الثيران ويغمس زعماء العشائر من الجانبين أياديهم في الدم ثم يتصافحون بالأيدي كرمز للمحبة وللتحرر من المرارات المتراكمة في النفوس وكرمز للسلام. عودة الرعاة من الجنوب إلى النيل الأزرق وبنهاية موسم الرعي تكون العودة وهنالك في سهوب الدالي والمزموم وبحر أبيض يحلو للرعاة استنشاق روائح "الدعاش" ويتعاطون اللبن والروب وماء القرب "بالقرع" ويأخذ شعراؤهم يتبارون في إبداع دوبيت الغزل والفخر في ظلال الأشجار بينما "الأباريق" تشرئب أعناقها فوق النار والأثافي لتعلن لأهل البادية أن "البرامكة" يعقدون جلسات المؤانسة وتعاطي الشاي في الهواء الطلق. الآليات الحديثة لحل الصراع بين الرعاة والمزارعين في عهد الحرية أولاً: نظام "الحكرة" الكلاسيكي: تم تحديثه وتحول إلى نظام "المؤتمرات" التي تنعقد سنوياً في الريف لفض النزاع بين الرعاة والمزارعين ولوضع برنامج للتنمية, كان محافظ النيل الأزرق يوجه الدعوة إلى كل الأجهزة والإدارات التي لها علاقة بالأهداف المذكورة أعلاه والأجهزة هي:"الجهاز القضائي- الشرطة- إدارة توفير المياه- الزراعة- الغابات- البيطري- المراعي- الاتحاد التعاوني- البنك الزراعي- المحليات- زعماء العشائر- إتحادات المزارعين والرعاة". ثانياً: يدور حوار ديمقراطي صريح حول أجندة المؤتمر وتتشكل التوصيات. بعض هذه التوصيات تتحول إلى لوائح وقرارات إدارية وباقي التوصيات تصاغ في شكل قوانين محلية ملزمة لاتحادات المزارعين والرعاة وللمحاكم وللشرطة وللمحليات. ثالثاً: عندما تصفو النفوس خلال الحوار تتم إجراءات الصلح ويتم دفع ديات الدم والغرامات المالية لمن تضرروا بإتلاف زروعهم. رابعاً: ويكون الختام مسكاً إذ يقترح المؤتمرون برنامجاً للتنمية في المحافظة. أبرز المحاور: تشجيع الاستثمار في الزراعة والتصنيع الزراعي وتوطين القبائل الرعوية في القرى النموذجية التي تتوفر فيها الخدمات الاجتماعية وحولها مصادر المياه والمرعي. هل كانت الشروط متوفرة للتنمية؟ وماذا تحقق؟ خلال السبعينات وفي عهد "مايو" جاءت مجموعة من شيوخ دول النفط في الخليج العربي تريد الاستثمار في الزراعة وفي التصنيع الزراعي، ودارات رسائل عديدة بين رئاسة المحافظة ورئاسة الجمهورية وتم التصديق بمساحات شاسعة للزراعة الآلية المطرية لأولئك الشيوخ المحترمين. وكان التخطيط الاقتصادي يقضي بقيام صناعات اللحوم والألبان وزيوت الطعام "أيضاً صناعة الورق من الأخشاب وسيقان المحاصيل" وإلى جانب قيام هذه الصناعات كان من الشروط توطين القبائل الرعوية لإمداد هذه الصناعات بالمواد الخام ومن الشروط أيضاً توفير الخدمات الاجتماعية في مناطق الإنتاج للسكان "المحافظة كانت سوف تجني الكثير من الثمرات الحضارية منها العمالة والخدمات الاجتماعية وازدهار الاقتصاد المحلي والقومي ولكن للأسف ولبعض العوامل والأسباب لم تتحقق تلك النهضة المرجوة وأصبحت تلك البرامج وتلك القرارات بمكوناتها المادية والاخلاقية تراثاً إدارياً ومرجعاً موثقاً" وبعد ذلك جاءت "شركة التكامل المصري السوداني" كما جاءت "الشركة العربية" بتقنياتها الزراعية الحديثة المتطورة. وهل من جديد في الساحة السياسية للنيل الأزرق؟ في عصر "حقوق الإنسان" تتغير الأهداف والأحلام والأشواق بالنسبة للقوميات وللشعوب، وفي النيل الأزرق يوجد نزاع سياسي. وكما هو معلوم فإن "الفصل الخامس" من "اتفاقية السلام الشامل" ينص على منح الولاية نصيبها العادل من السلطة والثروة القومية ولكن بدون التفريط في الوحدة الوطنية والأمن والسلام. أما البعد الجديد في الأمر فهو حدوث التمرد الذي قامت به "الحركة الشعبية" ومن ثم أنجزت القوات المسلحة مهمة إطفاء حرائق التمرد وعادت "الكرمك" التي كانت تهيم على وجهها مثل راعية في الجبال بلا زاد وبلا ماء والرياح الباردة تعبث بثيابها عادت إلى أحضان الوطن مع موسيقى "الوازا" التي عندما تعزف يرقص على إيقاعها أبناء الصعيد في أعياد الحصاد وفي ليالي "جدع النار" كما تقضي الطقوس في بلاد الفونج أرض التاريخ والجمال والإنتاج الوفير من الأرض الطيبة. ومن المؤكد أن آليات "التنمية والمشورة الشعبية والحوار الحضاري" مع تحالف المعارضة لسوف يتم تفعيلها لتحقيق السلام الاجتماعي في النيل الأزرق وأيضاً في جنوب كردفان. ولسوف تظل جماهير الشعب السوداني الأفرو/ عربي تغني "لابد من صنعاء وإن طال المسير" العرضة/ أم درمان.