تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جملةٌ في تَبجيْل الفنَّان وَردي
نشر في السوداني يوم 24 - 02 - 2012

كلمات بمثابة إهداء، إليهما، وهما، في القلب والذاكرة:
محجوب شريف، أحمد طه محمد الحسن ومحمد عثمان حسن وردي.
إليكَ، ياعالي المقام، تكون هذه الكتابة:
في حَضْرَة جلالك يَطِيْب الجلوس
مُهَذَّب أمامك يكون الكلام (1)
يا مُحَمَّد (2)
صَوتُكَ العملاق فوق الأرضِ والنخلِ
وتحتَ التُّرْب معطاءً تمدًّد
فَتَوَجَّد
مِثلما شِئتَ
تَوَجَّد
لكَ في قلبي وقلوبِ الناسِ مَهدٌ
فَتَوَجَّد
كبساطِ المجدِ مبسوطاً على الريحِ
تَمَدَّد
وارفعِ الصوتَ ابتهاجاً
بشبابٍ يتجدَّد
تَمَدَّد
وتَمَدَّد
وتَمَدَّد
سطعَ الناسُ شموساً
في سماءِ القحطِ واليأسِ
وغنُّوا
يا صديقَ العمرِ
شوقاً، للبشارة؛
صوتُك العملاقُ يُزجِيها إشارة،
للذي ينتظرُ الإنسانَ في السودانِ
لما يُثمرُ البرقُ ثمارَه،
فتَوَجَّد
وتَمَدَّد
وتَجدَّد
وتَوَحَّد؛ بالذي يأتي مجيداً،
وجديداً.
عِم صباحاً، يا مُحَمَّد
عِم شتاءً
ثمَّ صيفاً
وخريفاً
وربيعاً يتَجدَّد؛
يا مُحَمَّد، يا مُحَمَّد، يا مُحَمَّد!
_____
(1) محجوب شريف
(2) علي عبد القيوم
الصَّوتُ والصَّدَى:
من أقصى أطراف بلادنا إلى طرفها الآخر؛ وسط سهولها وجبالها وأنهارها وغاباتها، يصادفك هذا الصوت العذب، الفريد العميق، الغامض كالماس. إنك تتعرف عليه بسرعة، وبحاسة ذوقٍ ذات حساسيةٍ عالية، فهو يدخل إلى أعماق النفس، نفسكَ أنت بالذات، ويدخل إلى سويداء الفؤاد، كالشهوة والنزوة والرعشة!
إنه يدخل فيك ليمتِلكك! في إحدى المناسبات الغنائية قال الفنان الأندلسي العظيم (مانويل توريز) لأحد المغنين: (إنك تمتلك الصوت، وتمتلك الأسلوب، ولكنك لن تنجح أبداً لأنك لم تمتلك "الدويندي") ويعني بالدويندي روح الغناء الذي يسري في الأغنية كالعافية! وقد امتلك وردي ذلك الصوت والأسلوب والدويندي معاً؛ في عروقه تجري دماء الثقافة ونضارتها وحيويتها ودفئها. إن في موهبته أصواتا متعدّدة برَّاقة، سحرية وغامضة، فيها حساسية الروح وشفافيتها ورشاقتها؛ إنه السرُّ الذي يسكن ويلتحم في أصواته جميعها، إن في صوته كما قال جوته: (قوة غامضة يحسها كل فردٍ لكن لم يشرحها أيّ فيلسوف)! إن تلك القوة الملازمة للفنان هي سلوك، نضالٌ مستمرٌّ دافق، وليست هي، على أية حال، مفهوماً محدداً؛ إنه شكلٌ حقيقيٌّ في الحياة، في الدم والثقافة والفعل الخلاَّق. لهذا تراه، عندما يبدأ يغني، يحتشد بالحياة وعنفوانها وحيويتها، تعتمل في فورانٍ كالدوامة في داخله، وتطلع من خلال حنجرته تلك الأصوات العجائبية الفذة. لا، لا، تلك القوة الموحية العميقة ليست في الحنجرة، لكنها تطلع من خلالها؛ من خلالها وعبرها. نعم، هي قوى غامضة لا شك في ذلك أبداً، لكنها تنتمي للأرض والتربة والماء. ولهذا كله، فإنني أرى أنه من هنا، بالضبط، تكمن تلك الصلة العميقة التي تشتدُّ وتمتدُّ بين الفنان والأرض والوطن؛ علاقة تبادلية، ولكن على مستوى روحي عميق. إن بعض جذور حياته ومعاشه اليومي مرتبطٌ بأوثق رباط بهذه القوى الروحية الغامضة في داخله!
خاضَ وردي نضاله اليوميّ طوال مسيرته الفنية مع هذه القوة العميقة، متخطياً بها إشكاليات عديدة، مُعقدة وشديدة التنوع: مع الشعر والموسيقى والصور والألوان والألحان، وأخذ يخطو بها في رحلة الإبداع، في ائتلافها وسورة حركتها القلقة باتجاه ذروة اكتمالها في الغناء؛ فيدلقه، كالخمر، أو الماء الدافئ على أجسادنا بكليَّاتها، فتدخل تلك الأصوات إلى مسام الجسد، وإلى داخل الشرايين والأوردة، فتبلغ منا أطراف الجسد كلها؛ عضواً فعضواً، وتبلغ القلب لتبقى في داخله وتحتلُّ لها مكاناً مرموقاً في الذاكرة والمخيلة، مُضيفةً على الجسد كله، أيضاً، تلك الألوان المتداخلة المُشَجَّرة، الملونة البديعة، لتحفّها ببريق الروح ومذاقها الحلو.
مرةً كنت أشاهد حفلاً جميلاً في أم درمان. وعندما بدأ وردي يغني مستخدماً كل جسده، أقول كلَّ جسده، وأنا أعني، كل عضلة فيه وكل قطرة دم فيه. كان يُغني (الحنينة السُكَّرة)، تلك الأغنية الخفيفة القديمة، ولكنه غناها تلك الليلة بتوزيعٍ موسيقيٍّ جديد، وبأداء جديد فريد، فإذا الجميع قد تملكتهم تلك القوة الغامضة التي تسري كالرعشة في الأجساد فتوقظها، فتصحو، وتفجِّرُ فيها حيويةً وطاقةً وعنفواناً لاذعاً ملتهباً. كانت فتاة نضرةً كالشروق، بدأت ترقص بإيقاع ذي روحٍ ومعنى؛ ترقص وتُقَطِّع بأصابعها المجرّدة بعض خصلات شعرها الليليّ الطويل؛ تقطعه اقتلاعاً من الجذور. ورأيت أيضاً، شبان كثيرين بدأوا يدقون الأرض بأقدامهم في إيقاعات متواترة، نافرة، متوثبة، يلمسون الأرض بأجسادهم ويفارقونها في ذات الوقت، ويغوصون في الهواء البارد لتلك الليلة الشتائية. كانت تملكتهم تلك الروح العجيبة التي تطلع من دواخل الفنان، حتى أصبحت تلك الجماعات كلها كتلة بشرية واحدة تتحرك بعنفوانٍ وانفعال عاطفيّ قد مَلك عليهم أجسادهم وعقولهم!
كانت النار والرياح والبرق والغيم والمطر جميعها حاضرةً تسري في الناس كالألق والضوء والهواء، وقد تلبستهم روح الفنان وغناؤه، وقد ارتدوا صوت الفنان وروحه معاً! ما رأيت قط، من بعد، فناناً له مثل هذا السحر الطاغي على المستمعين؛ إنها الطاقة الحيوية الدافقة للغناء الخصب الذي يمتلكه هذا الموهوب الفذ!.
إن وردي هذا صنف فريد في خارطة الغناء، نسيج وحده، مجبول على فن الغناء بروح عميقة الإبداع؛ تطلع منه الموسيقى وهي في ذروة اكتمالها، في أنقى جواهرها، ولكنه أيضاً، يجعل منها موسيقى تفقد الخواص العادية للموسيقى؛ أرديتها وفساتينها ومساحيقها، ينزع عنها رتابتها ومهاراتها الحِرَفِيَّة المعهودة بين الناس، يُفكِّك عنها إزارها كله، ويطرحها عاريةً، كما الحقيقة، أمام الملأ، تلتحم بتلك الأرواح البشرية من حوله، فتدخل فيها كالدم الملتهب. ويقف هو وحيداً في مواجهة تلك الجموع، وحيداً، إلا من هذا السحر الغامض الذي يطلع من خلال تكوينات جسده كلها: من الأيدي والأرجل والأصابع والخصر والصدر والصُلب؛ من خلال عينيه وفمه وحنجرته وأذنيه وأنفه! كنت أستطيع أن أرى، بوضوح، رئتيه تمتلئان بالهواء حتى ينتفخ صدره وتتضح عضلات عنقه ويقف شعر رأسه متماسكاً كأشواك القنافذ، وتندلق الأصوات المتعددة كرذاذ الدم وسط الموسيقى الدافئة، وهي تلتحم في عناقٍ متداخل مع الكلمات والأضواء والظلام وأنفاس الناس. أبداً ما رأيت غناءً مثل هذا!.
منذ بدء مسيرته الفنية، واستناداً إلى موهبته الضخمة، وعبقريته الفنية الفذة؛ رَفَضَ أن يُقيم هياكله الفنية على أبنيةً قديمة، ما قَنِعَ قط، أن يعتمد على موروث الغناء كي يقلده في أغانيه! وبدأ يشرع في خلق الجديد؛ يسعى إليه بكل أدوات الخلق وإمكانيات الولادة، وعبر مخاضاتٍ عسيرةٍ ودروبٍ عميقةِ الشروخ مليئة بجهد الدموع وتعب الذاكرة؛ كان يقتصُّ من ذاته نفسها، ومن أطرافها الأكثر حيوية وحياة، أدوات وأزاميل وأوتار ذوات شجى ودفء، ليجعلها كالمهد لأغانيه وموسيقاه، لهذا خرجت أغانيه وهي تعطي الناس، كل الناس بلا استثناء إحساساً بالطزاجة غير معهودٍ تماماً، له خاصية وردةٍ حديثة الخلق، خاصية معجزة. وينتج في النهاية فناً رائعاً وحماساً طاغياً للفن الجميل!.
عندما يبدأ في الغناء وتندلق الموسيقى الباهرة في وجدان المستمعين؛ وفيهم الرجال والنساء، والشيوخ، والفتيات والصبايا الجميلات، والكهول أيضاً؛ يرددون بوَلَهٍ حقيقيّ (الله الله يا وردي) (عظيم، عظيم، عظيم) و (الله يخليك يا وردي) و(عشت يا رائع). كلمات، ولكنها أنَّاتُ وَلَهٍ وتَوَجُّد، تصدر من القلوب، يقولونها بانجذابٍ روحيٍّ عميقٍ ما شَهِدت مثله إلا في حلقات الاستماع لتلاوة القرآن الكريم بأصواتٍ عظيمةٍ لعبد الصمد أو الحُصري أو صديق أحمد حمدون. لحظات فيها من الروح أكثر مما فيها من الواقع، يكاد المستمع أن يُفارق فيها دنيا الناس الأرضية هذه، ليصعد إلى ذرى سامقات في الكون الفسيح. أهو الوجد الصوفيّ إذن؟ على التأكيد فيه بعض ذلك، وكثير من حقائق الروح، ولكنه أيضاً مغروس بجذوره الحية، كاملة العافية، في تربة الواقع الراهن. إن مادته الإبداعية غنية، خصبة وموحية، جزء نادر من إبداع العالم وحيويته وتوهجه. إن تلك المواد، المقذوفة كالشظايا النارية، في وجدان الآخرين لحظة أداء الأغنية أمام الجمهور، تستدعي حضوراً بهياً تكاد تلمسه وتبصره أمامك لهذا الفن المتجسد كاللوحة شديدة البهاء أمام ناظريك! هي رؤية الفنان وإبداعه يطلع هكذا، كأعمدة الضياء، تقف كلٌّ منها وتنغرس كالدبابيس الحادة في وجدان الناس. وهو أيضاً تواصلٌ وحضورٌ متبادلٌ يجعل من الفن رديفاً للحياة، ولكن في جانبها المضيئ الملتهب ذي العنفوان والصخب والإيقاع المستمر الذي يمسك بالكلمات من أعناقها الخُضر، فيُدخلها في عمق الصوت، ليلتحم بدفءٍ وعافية، في قلب الأغنية ذاتها!.
ظلَّ شعبنا، لما يقارب نصف القرن، ينجذب لغناء هذا الفنان وموسيقاه. وطوال هذه السنين الطوال، ومع مطلع كل صباحٍ جديد، ولدى كل أغنيةٍ جديدة يؤديها، فإنه يحيا، ويصحو، وتنبعثُ فيه تلك الروح العميقة الغامضة، فيبدأ هديل وجدانه يتواتر في صخب الحياة، وتمتلئ الشرايين بدماء الخلق الجديد والروح الجديدة للعمل الفني. إن ذائقة السمع لدى بنات وأبناء بلادنا، ظلت طوال مسيرة الفنان ترتبط برباطٍ وثيق، لكنه سريّ وغامض، كالملح والرمل وشذى العطر، إلى تلك الأغاني بالذات!.
إن ارتباط أغانيه وأناشيده بالتربة والخصب وتراث الشعب ووجدانه الفني لا جدال فيها؛ فعندما يُغني مثلاً نشيد (وَطَنَّا)، ويبلغ قمة أداء الأغنية، ثم يأتي لمقطع قصيدة محجوب شريف الرائعة:
(وَطَنَّا البِإِسمَك كَتَبْنَا وْرَطَّنا،
أَحِبَّك، مكَانَك صميمَ الفؤاد،
وفي حضرة جلالك يَطِيْب الجُلُوس،
مهذَّب أمامك يكون الكلام).
يجلس متربِّعاً فوق تربة المكان أو فوق الخشبة، وقد شاهدته مرات عديدة وهو يُقبِّل تراب وطنه؛ ما فعلها من قبله أحد، هكذا أمام الجميع، وفي ظنِّي أن ولعه الأسطوري بالحرية، وطلبه المستمر الذي لا يفتر للديمقراطية لأبناء وطنه، وسر كراهيته العميقة للديكتاتورية، تصدر من بؤرة هذا الرباط الوثيق جداً، بين روح الفنان وموهبته العظيمة وتراب وطنه.
قلت مرةً لأحد الأصدقاء: إن في دم الفنان كثيراً من التراكيب الكيميائية للتراب السوداني! نظر إليّ هذا الصديق وقال لي: (إن في قولك هذا بعض الحقيقة). وقطعاً ليست صدفة، أن يختار وردي قصيدة علي عبد القيوم ويلحنها ويؤديها لحظة انتصار الشعب ونهوض الوطن:
(أيُّ المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها!
أيُّ الأناشيد السماويات لم نشدد لأعراس الجديد بشاشةً أوتارها).
وقد أصبحت منذ سنوات عديدة أنشودة الشعب السوداني قاطبة؛ رمزاً لسيادته وحريته واستقلاله! ولا زلت أذكر أن المظاهرات السياسية لمعظم الأحزاب والنقابات والاتحادات الطلابية وندواتها السياسية والفكرية، كان هذا النشيد يصدح كما الطبول الأفريقية وتمتلئ به الأجساد السودانية السمراء في تجمعاتها تلك بحبٍّ ووَلَهٍ يتداخل ويتشابك مع روح الشعب ووجدانه. إنه يُوقظ روح الشعب الوثَّابة، يُضفي عليها أثواب العافية كلها، ويكسوها بالجلال ليضعها من بعد أمام مصائرها. صيرورةً متناميةً في دراما الحياة وحيويتها وخصوبتها!.
فنان حقيقي بقامة هذا الزمان، إنه ملاكٌ من الرخام والنغم والشذى والسحر، يمتلك مقدرات فنية متفجرة ومتطورة، تسري فيه كنيران البراكين مُلتهبة ومضيئة ومتوقدة. حركته الفنية تمتد على ساحات رملية مُذَهَّبة، ومهد من الرؤى والمخيلة الجميلة المدهشة، سجادة من الفن مرصعة بالألوان جميعها في تداخلها واختلاطها البديع.
موسيقارٌ هو ولكن بقامة قديس. وملحنٌ خالقٌ للَّحن بمقدرات غير عادية وغير مألوفة. يقرأ الشعر العظيم ويتعامل مع مفرداته اللغوية وصوره وتراكيبه كأعظم النقاد، ويكتب الشعر بالنوبية والعربية التي يتقنها بشكل مُدهش. إنه، وبأغانيه، يرفع أغصان الحب والحرية فوق سماء وطنه، ويقضي في ذات الوقت، وبقوة الغناء الوردي، على البؤس والشقاء البشري لأبناء وطنه وبناته!.
القصيدة تكون عادةً شعراً جميلاً فقط، ولكن عندما يغنيها فإنه يُدخِلُ فيها نَفَسَاً من السحر والوجد والعنفوان؛ إنه يُعَمِّدها بماء الحياة الوردي ليجعلها قصائد محبوبة بشكلٍ روحيٍّ عميق. إن صراعه عبر مسيرة حياته لأجل إحراز هذا الانتصار وإيصال أغانيه للذرى العالية استدعت منه أحياناً أن يأخذ شكل المقاتل العنيد، الصلب الجوهر، والواقف على شفير الجرح والنزيف؛ يلامس الموت ويحيا لدحره والقضاء على رؤياه الداكنة المظلمة في الحياة. إن أغانيه وأناشيده وموسيقاه تُوحِّد الحواس الخمس للإنسان مع جوهر الإبداع فيها، ويخلق منها أجساداً حية، عفية، نابضة بالدم والشوق، وتختزن في دواخلها طاقةً عظيمة للحب لا تنفد، ولكنها لا تنفكُّ خارج إطار الزمن؛ إنها تطلع في الحياة لكي تضيئ وتحيا وتكون!.
والأغاني كما الناس تشيخ وتهرم وتذوى وتموت! وفي ساحة الغناء توجد أغانٍ لا حصر لها ميتة، أو هي تعيش دورات احتضارها المحتوم! ولكن وحدها أغانيه لها خاصية الحياة، تستعصي على النسيان وتبقى في وجدان الأمة وذاكرتها الجماعية؛ تلامس حافات الوجود كالضوء يعيش الحياة في أشد اللحظات التاريخية إظلاماً وكآبة، وحزناً! إنها إذ تبقى ضوءاً فهي أيضاً تَهِبُ الحب والفرح وإرادة الحياة نفسها للإنسان السوداني.
كم من الأغاني أعطاها تلك الطاقة الروحية العظيمة، ألبسها أردية الحلم، وأكسبها الرؤية المضيئة بالمستقبل، خلع عليها مقدرات الدم الحار العفى وإرهاصات العافية والنمو، جعل منها عرائس ملونة تمتلئ بالخصب الولود وبالوعد والبشارة، جعل منها ألف ألف وجه للحب والشوق العظيم للعشق والحياة والنبالة.
أبداً ما جَرَحَ أيَّاً من تلك الكلمات التي غناها بلحنٍ نشاز، أو تَوتَّرٍ في علاقاتها اللغوية أو اتساقها النغمي؛ ما جعل قط لأيٍّ منها تنافراً مع مهدها الموسيقي وألحانها التي وضعها لها! وردي خالق نغمٍ ومبتدع رؤيا وطاقة حلمٍ في تلازم الكلمات، ولدى اختياره لها، يضع لها شوقاً وحباً وشذى؛ يكسوها بقيم الفنّ العظيم فتخرج للناس وكأنها قد وُلِدَت من جديدٍ على يديه وعبر رؤياه ومخيّلته المبدعة!.
الكثير من شعراء بلادنا تمنوا لو يغني وردي قصائدهم! وإني أعرف بعضهم ظلَّ ينتظر عمره الشعري كله لكي يشهد ميلاداً حقيقياً لإحدى قصائده، من هذا الرحم الخصب للفن العظيم! ولم يظفر بتلك الأمنية العزيزة، العميقة المعنى والدلالة، رغم قربه الشخصي من الفنان الموهوب! فقد كانت الكلمات والكتابات المبدعة تمسُّ أوتاراً مشدودةً في دواخله، وتبدأ ضجيجها وصخبها في أعماق الفنان، فيظل يعاني آلام الخلق وعذاباتها المحرقة حتى يخرجها من دواخله طفلاً للحياة يولد بين الناس ويعيش الحياة:
(نحن اتنِين بنتقَاسَم هُمُوم الناس،
عَشَان الناس بَعِزَّك يا أعزَّ الناس).
إنه يُلامس المشهد الثقافي للشعب على اتساعه وتنوعه وامتداداته، ولكنه يُعايشه بوَلَعٍ عميق، ويصادق الحساسية الفنية العظيمة لشعبه؛ يكتشف فيها الغضب النبيل والشجن العميق؛ لواعج الحزن ومكامنه المحرقة ذات اللهيب، يخلق من تلك القيم جميعها حساسية جديدة ولكن من خلال دراما الأغاني والأناشيد، يجعل منها أشكالاً حية. ويقضي على تلك الخطوات المُهينة للهروب من الحياة ومن الصراع، من الواقع المعاش الذي يعيشه لحظةً بلحظة، مع أمته ووطنه، في أشكاله اليومية العادية وغير العادية!.
لقد أدخل وردي في تراثنا الغنائي ووجدان أمتنا أضواءً جديدة: أعطى دهشةً جديدةً ومعانٍ للحب مبتكرة. مرةً قال لي أحد مواطني البسطاء وكنا نستمع لإحدى أغنياته: (إن وردي أعطانا خبزاً دافئاً، أكثر من أية حكومة وطنية)! وفهمت! فقد كان يعني خبز الحياة الطازج الدافئ كدماء العافية في البدن العفي. أعطى لوطنه سماءً جديدة ورياحاً وأرضاً خضراء؛ أعطى الوطن خريطةً جديدةً ملونةً وبديعةً للحب والعشق؛ أعطى أبناء وبنات السودان، وهم في سني أعمارهم الغضة كالورود الحية، رحيق الحب وتوهجه ولمعانه ومعناه النبيل! أعطى الفتيان مناديل ملونة، والفتيات ضفائرهنَّ وعطورهنَّ الفواحة ذات العبوق!.
إن الصوت الفذّ أعطى صداه كاملاً، أعطى نبرات وأصوات وموسيقى جديدة، أعطى شعبه كلّه عناوين جديدة للحب والشوق والعشق النبيل، وأعطى الإنسان في وطنه دماء العافية وإرادة الحياة؛ وهبنا جميعاً معمدانية النار والحب التي يتقدَّسُ خلالها الغناء والعشق السوداني في أطوار حياته المجيدة.
نوباتيا أو مهدُ الأغاني
(خُذي النُّعاس وخبَّئيني في الرواية والمساء العاطفيّ، وخبَّئيني تحت إحدى النخلتين، وعلميني الشعر، قد أتعلَّمُ التجوال في أنحاء (هومير)
قد أُضيفُ إلى الحكاية وصفَ عكا، أقدم المدن الجميلة،
أجمل المدن القديمة، علبةً حجريةً
يتحرَّك الأحياء والأمواتُ في صلصالها كخلية النحل السجين،
ويُضرِبُون عن الزهور ويسألون البحر عن باب الطوارئ كلما اشتَدَّ الحصار.
وعلميني الشعر؛
قد تحتاج بنتٌ ما إلى أغنيةٍ لبعيدها:
(خذني ولو قََسْراً إليكَ،
وضَع منامي في يديكَ).
ويذهبان إلى الصدى متعانقين
كأنني زوجت ظبياً شارداً لغزالةٍ
وفتحتُ أبواب الكنيسة للحمام).
(من جدارية محمود درويش)
إلى الجنوب من وادي حلفا، في أحضان النيل والجروف والنخيل، حيث الهواء نسمات رقيقة كالغلالة ترتمي على وجه المكان، في ذلك الملكوت الأرضي عاش الفنان وردي؛ في ذلك المكان تجد أن للعصافير لغةً، وللنهر لغة، وللجروف والنخيل والعشب لغةً وشذىً، والليالي تحتضنُ تلك الحيوات فتضعُ إنسانها في عمقِ أحضانها الدافئة، فتحميه من البرد والزمهرير. للمكان هنالك لغة الجذور الأولى؛ للمكان رائحة النوبيا، وله شَجَوِيَّة الأغاني مشرقةَ البهاء في الروح! يكاد الإنسان يلتحم بالمكان؛ بترابه وتاريخه في جميع أوقاته وأيامه بلا انقطاع! المكان والتراب والتاريخ تجدهما في الناس أجمعين: تراهما في العيون والملامح، في السحنات السمراء، وفي الشعر الأسود اللامع الطويل، الناعم كما الحرير ملمساً ورؤية!.
وتجدهما أيضاً وأيضاً في العشق الخرافيّ المجنون الذي يحتويه وجدان الإنسان النوبي وفؤاده السمح السمات. أيكون ذلك بسبب من صفاء المنبع ورقَّتِه وسماحته ونبله، أم هو تراكمات الأزمات السحيقة وذوبانها في الروح ذاتها؛ تراثاً ومعنىً وذاكرةً حافلة بالطلاوة وندى الأيام وبهجتها؟ أم يكون هو بسبب من السلالة نفسها تحتضن هذا العبق الفواح؟
هو شيئ من ذاك كلّه يسكن أفئدة النوبة ويَسِمُها بميسَمِ الغموض والسحر فتبدوا كالماس (النوبيا): سحرٌ يدخل في عمق الروح، في جوهرها، يطلع منها عبق التاريخ ورائحته وشذاه الغامض كالنيران المقدسة في المعابد القديمة. هي رؤيةٌ مُكتَمِلةٌ في الحياة ولكنها مضمَّخةٌ ونديانةٌ بالعبير في شجوية الروح الأخيرة! لعلها هذه الجذور العَفِيَّة في التربة هي التي تمسك بالروح النوبية وتشدّها إلى التراب والأرض! ومنها هي بالذات من هذه الينابيع العميقة الغور في الوجدان الإنساني يطلع الشَذَى والحب والدفء ودفق الحنان المُزهر في احتفالية البهاء النوبي!.
(النوبيا) هي هذا الجوهر؛ جوهر المكان وروحه، وهي، كذلك أيضاً، جوهر الإنسان النوبي وروحه! يقول الشاعر النوبي كمال عبد الحليم، ابن أرقين العظيم، في قصيدته (مقاطع على جدار الوطن) (1):
(تَعَلَّمتُ أسعدُ في صحوة الآخرين،
فكلّ النساء مرافئ، وكل الرجال شجر!
ولكنني الآن شِعرٌ حزين.
فالعَرَاجِيْن نوبية،
والعَصَافير نوبية،
والطريق إلى عاشق الفؤاد الحزين؛
فوق جسرٍ مِمَن الرَّاح ينكرني بعد حين،
لغةٌ صَلَبَت شِعرَها فوق زيف المديح،
الهجاءُ النسيب،
كيف تُكمل مشوارها نحو طابية الشمس،
نحو صريح مرايا الوطن؟
عَرَبٌ ساعةَ الحَصْد
نوبيةٌ والسهام قَلَم
يا حقول الألَم
أورقي في شراييننا فرحةً لا تَتِم
بيننا وطنٌ يستطيل،
بأغنية تستحيل، وعاصفةٌ من عَجَم؛
لغةٌ يا وطن!).
(1) من مخطوطه ديوانه تحت الطبع.
هي النوبيا، هي النوبيا! نقول (النوبة) ونعني بها تلك الهوية التي تتلازم فيها وتكتنِزُ داخلها دلالات عديدة: العِرق واللغة والجغرافيا والحضارة معاً. ولعله من المعلوم، وفق الحيثيات العلمية التاريخية، إن النوبة هم أهل السودان الأصليون، وأن لهم في التاريخ حضارات عظيمة وعميقة الدلالة، وتُشكّل هذه الحضارة والتاريخ المهد الطبيعي لتاريخ السودان القديم. ولقد جاء أقدم ذكرٍ للاسم (نوبي) أو (نوبيين) في رواية ذكرها المؤرخ أرتو تينس (275- 194 ق.م)؛ حيث ذكر، كما تقول د. سامية بشير دفع الله: (إنها قبيلة كبيرة تسكن غرب النيل، بين مروي القديمة وبين انحناءة النيل في الدبّة ودنقلا) (1).
(1) مقالة (التعريف بتاريخ السودان القديم – سامية بشير دفع الله – مجلة الدراسات السودانية –العدد (1) المجلد العاشر أبريل 1990م
والنوبة حاميِّون، كالمصريين القدماء والأثيوبيين والبجا، ويتكونون من أربعة عناصر رئيسية هي: الكنوز والفاديجا والمحس والدناقلة. وكانت أرض النوبة ضيّقة تُحيطُ بها الصحراء الكبرى شرقاً وغرباً، وتحاصرها صحراء العتمور جنوباً، فتعزلها هذه الصحارى عن بقية العالم عزلاً تاماً. كما أن الجزء الذي تحتلّه أرض النوبة من نهر النيل تبرز فيه حواجز صخرية عديدة تُعرَف بالشلالات. وقد مرت على أرضهم حضارات عديدة؛ كالفرعونية والإغريقية والرومانية والإثيوبية والعربية والتركية. والنوبة هم أكثر الأعراق حُضوراً في تاريخ السودان، وأكثرهم إثارةً للجدل، خاصة في أبعاد حضارتهم وعلاقتهم (بالنوبا) في جنوبي كردفان ودارفور من غرب السودان. ومن المعلوم أن النوبة ينقسمون اليوم، من حيث لغاتهم، وبحسب الأحكام العامة لعلم الأصوات، إلى ستة أقسامٍ هي: الدناقلة والمحس والسكوت وأرض الحجر والفاديجا والكنوز. (ويستطيع المحس والسكوت وأرض الحجر والفاديجا التواصل اللغوي، في حين لا يستطيعون ذلك التواصل مع الدناقلة والكنوز اللذين تكاد تتطابق لغتهما) (1). وعلى التأكيد فإنه توجد أيضاً بعض الفروق اللغوية بينهما هنا وهناك!.
(1)فى بيان دينامكية التعبير غير النوبي في السودان – مدخل لتجربة الشعر النوبي – مخطوط للشاعر ميرغني ديشاب.
كانت الهجرة النوبية الكبرى إذن في بداية الستينات من القرن الماضي خَضَّةً عنيفةً للإنسان النوبي؛ مسَّت منه شِغَاف الروح ذاتها، فسَكَتَ صوت المُغني النوبي ردحاً من الزمان، وعاد المُغني مرةً أخرى يفتح في دروب الإبداع النوبي دروباً شاقَّة، عسيرة في تقدمها وخشنة، إذ هي تنهض بشرف محاولة تعبيد تلك الدروب والمسارب المضيئة. أما فعل الهجرة فقد امتدَّ تأثيره ليُحَوِّل الغناء النوبي برمَّته إلى غناءٍ باكٍ حزين، يُذَكِّر بالأرض والتراب ويحنُّ إلى العودة إلى تلك الديار؛ حيث التاريخ النوبي كله يرقد فوق التراب وتحته وتختلط فيه، ويذمّ الأرض الجديدة التي هاجر إليها النوبة. وقد أصبح ذلك الفعل تحوّلاً في (موضوع) الغناء النوبي، ولا يزال حتى اليوم الغناء في موضوع الهجرة من أحبّ الغناء إلى نفوس النوبة!.
لقد عرف النوبة الغناء (كيري Kere) منذ أَمَدٍ بعيد، وكان غرض الشعر نفسه هو غناؤه، حتى إننا نجد أن الشعر المُنشأ في اللغة النوبية كان يتقيَّد بأبعادِ قوالبِ الغناءِ المستقرَّةِ من ألحانٍ وإيقاعٍ على أساس أن دور الشعر هو أن يُغنَّى وفق مضامينٍ بعينها، حتى لقد غلب شأن الُحب وأحزان الهجرة على ذلك الشعر. ولكن، إلى وقتٍ معلوم، سيأتي فيه المجددون بمضامين وأساليب وتراكيب وصور جديدة مبتكرة. يقول محمد وردي في بعض شعره النوبي الذي يغنيه:
الوطن (1)
أيّها الحزين يا وطن، كم أحبك؛
ماثلاً أمامي حتى الموت،
شَكَّةُ الشوك فيك، حتى صهدك
باردٌ إذ أسير أيها الحزين.
وطني، يا ذا الرائحة الزكية،
يا ذا الماء الزلال،
يا ذا الليل الأعمى بشمسك الساعية،
يتذكرك البعيد عنك، ويقاتل الباقي فيك كي يبقى،
أيها الحزين،
ينام فيك ملء الجفن،
ويُطعَمُ الطيب.
الخيرُ بين يديك،
والشرُّ يُنسَى فيك؛
تخفّ أحمالنا، همومنا عنَّا فيك!.
لا شيء غالٍ إذا أردته،
هذي روحي
أيها الحزين.
مُحبك الذي يتغنَّى بك
من يَتَمَرَّغُ في ترابك
ولدك!.
ها هو قد جاء فأتِهِ ساعياً أيها الجبل،
وأنت يا طين الجزيرة أَشْرِق بالفرح،
يا (سَاب)، الذي يتوسَّطُ البلد، اشهَق قمحاً،
ويا مُضغَةَ الحزن الخاثرة في الجوف
اجترحي حُزنك!.
كونى لوناً آخر في الأحشاء،
وثَلجَاً على وجه (نلوه
أبيض متضاحكاً.
أيها المركب: تداعَ شرقاً وغرباً،
وابدأ غناءك أيها العاشق،
واضبط الإيقاع أيها الفتى،
ويا صبية: ابتَدِعي الاندلاق في الرقص.
أيها الحزين يا من كالجلكوز في عروقي،
النابت في القلب،
أذكرك؛
أذكر حتى بطن نَخلِكَ،
وطينك المشقوق.
أذكر طيورك الرائحة الغادية،
ونباتك طَيِّبَاً وخبيثاً،
أيها الحزين).
(1) ترجمها عن النوبية الشاعر ميرغني ديشاب.
هذا إذن هو بعض حديث الفنان عن الوطن؛ دخولٌ مضيءٌ إلى ذاكرة الوطن عبر تاريخه وقيمه وثقافته ولسانه أيضاً، ومن هنا يستطيع وردي أن يؤكد أنه قد أتى في الخمسينيات للإذاعة وكان غرضه هو (نشر الأغنية النوبية لا احتراف الغناء العربي)(1). إن أول أعمال الفنان كانت نوبية (سَكُوتِيَّة) ألَّفها في عام 1958م؛ استخدم فيها ذلك اللحن النوبي مُضَافاً إلى نَظمها النوبي أصلاً فكانت (ملاك):
(1) مشوار وردي (3) – الصحافة العدد (2623) – 25/ مايو2000م.
(لِيْل اللِّيْل، لِيْل اللِّيْل
يَا مَلاَك الله لِيْل الليل، وآي أنا).
ولكنه يمضي في تجاربه البديعة فيُدخِلُ روح هذه الأغنية الروح النوبية للغناء في ملامح وسِمَات أغنية (بلدي يا حبوب) العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.