مخاوف تبدو لك واضحة من نظرات العيون ورجفة الأيادي عند السلام، بمجرد الكشف عن هويتك كصحفي عند مخاطبة أبناء دولة جنوب السودان بالخرطوم، جميعهم عبروا عن تفاصيل دقيقة ومحزنة ولكنهم اشترطوا عدم ذكر أسمائهم أو الإشارة حتى لمناطقهم الاصلية بالجنوب. لعنة تشظي والأسئلة تدور حول مستقبلهم في السودان بعد الثامن من أبريل المقبل، سيما وأن الإحصاءات الرسمية تشير إلى عودة أكثر من (350) الفاً منهم إلى الجنوب في الوقت الذي يوجد فيه أكثر من (700) الفاً ما زالوا يوجدون في مدن السودان المختلفة، وربما يبدو للملاحظ فوارق واضحة بين الأمس واليوم فيما يتعلق بحركتهم في الطرقات وأماكن تجمعهم، سيما وأن العديد من المهن قد تأثرت ومن بينها المباني، وتجارة الملابس والأحذية، وفي اتجاه آخر بدت حركتهم في وسط العاصمة الخرطوم محصورة في مناطق محددة، من بينها الكمبوني، وسوق نيفاشا، والمحطة الوسطى بحري، ومع ذلك فإن الأعداد قد تناقصت كثيراً عن السابق، وبدت حركتهم في الكثير من احياء الخرطوم تكاد تكون معدومة باستثناء مناطق شرق النيل (الحاج يوسف)، وأحياء غرب أم درمان. منظمة الهجرة الدولية قدرت أعداد الجنوبيين في الشمال بأنهم أكثر من نصف مليون شخص، وقالت انها ساعدت في نقل أكثر من (23) ألفا منهم إلى الجنوب، والمنظمة تؤكد استحالة نقل الباقين قبل الثامن من ابريل المقبل.. ربطت في مخيلتي حديث منظمة الهجرة بمخاوف الكثير ممن التقيت بهم من الرجال والنساء أو الشباب حيث بدا أكثرهم حائراً أمام مواجهة تلك الظروف الطارئة التي فرضتها عليهم التقلبات السياسية بين أبناء الوطن الواحد الذي حلت عليه لعنة التشظي، ليجدوا أنفسهم غرباء في أرض تنفسوا أوكسجينها عند الصرخة الأولى، وخبروا أهلها وعاشروهم حتى لا تكاد تميزهم بألسنتهم إذا لم يقف الواحد منهم أمامك. حِيرة وخوف (الفريد).. تاجر ظل يعمل في بيع الأحذية والملبوسات بالسوق الأفرنجي بالخرطوم لأكثر من (6) سنوات كما حدثني بذلك، بعد إلحاح متواصل وتدخل بعض الوسطاء بيننا اقتنع أن يتحدث إلي ولكن دون كتابة المزيد من التفاصيل عن شخصيته، ويتوقف كثيراً ويهيم بخياله لبرهة من الزمان ليعود ويقول: "والله أنا ما عارف أقول ليك شنو بالضبط لأنو فعلاً أنا محتار، وكتااااااار ممن تناقشنا معهم في مستقبلنا نواجه نفس الموضوع"، ويمضي بالقول: "شوف بصراحة رغم الانفصال اللعين أنا أفضل لي أعيش هنا"، ويصمت ويمسح بيده على وجهه ويقول مجدداً: "أنا هنا في الخرطوم عندي بيت محترم.. وأولادي في المدارس المختلفة، وشغلي زي ما انتو شايفين عندي فيهم معارف وزبائن ثابتين". أردت أن أنقل الفريد إلى واقعه المتخيل في الجنوب حال فرض عليه أمر الرحيل.. تردد كثيراً في الإجابة على هذا السؤال ولكنه قال إن الجنوب يعني مصيرا مجهولا بالنسبة له ولأولاده الذين يدرسون هنا في الخرطوم بمنهج مختلف ولغة مختلفة، بالإضافة لغلاء المعيشة هناك حسبما ذكر، ويقول إنه لا يمتلك سكنا في الجنوب والحياة لا يمكن أن تمضي هناك كما يريدها هو، ويقول إن قدره أن يستمر في العيش هنا في الشمال (السودان) مهما كلفه ذلك، ويستبعد بصورة نهائية خيار العودة للجنوب. غربة وشوق (مايكل، ل) يقول إن العودة للجنوب أصبحت واقعاً لابد منه، ويقول إنه ظل يعمل محاسبا في شركة (معروفة) بمنطقة الخرطوم بحري لفترة طويلة من الزمان دون أن ينتابه أي إحساس بالغربة في يوم من الأيام، ويضيف في حديثه عبارات أخرجها بعد نفس عميق أخذه وأخرج من خلاله الهواء الساخن عبر فيه حيث قال: "أصبحنا غرباء منذ التاسع من يوليو الفات.. وسنصبح غير مرغوب في وجودنا بعد أقل من شهر من اليوم، لذلك لابد أن نواجه قدرنا ونذهب إلى الجنوب". (مايكل) قال إن العديد من معارفه قد عادوا فعلياً إلى مناطق مختلفة في جنوب السودان، وقال إن صعوبات كثيرة واجهتهم عند التوجه لتطبيق ذلك القرار عملياً على أرض الواقع، وذكر من بينها التخلص من الأصول والمباني الخاصة بهم هنا في الخرطوم وفي ولايات أخرى من الشمال، بجانب حديثه عن صعوبات تمثلت في اختلاف الحياة بشكل كبير بين الخرطوموجوبا أو مدن الجنوب الأخرى، وقال إن ذلك طبيعي بالنسبة لدولة ناشئة وخارجة من حرب امتدت لأكثر من خمسين عاماً، - بحسب حديثه-، وأبدى مخاوفه من تأثير التوترات التي نشبت مؤخراً بين الدولتين على وجود المواطنين الجنوبيين هنا في الخرطوم، وبدا واثقاً من أن السودانيين في الجنوب لن يطالهم شيء، وأن أموالهم وأنفسهم في أمان، واستدرك بالقول: "يمكن تحصل حركات كدا هناك لكنها ستكون تصرفات فردية لا تمثل موقف شعب جنوب السودان الذي يحب الشماليين"، واختتم حديثه بالقول: "لكن يا أخوي المعاناة والمشاكل دي فاتورة طبيعية لابد لشعب جنوب السودان من سدادها لبناء مستقبله ومستقبل دولته". هزار وبوليس (عائشة مليك) بائعة شاي بإحدى أحياء أم درمان، تحدثت معها على أني زبون عادي بعد أن طلبت منها صنع كوب من (الكركدي)، وسألتها عن الصعوبات التي تواجهها كمواطنة جنوبية تعيش في الشمال بعد الانفصال فردت على بصوت مرتفع وهي تقول: "شوف يا ولدي والله نحن إتولدنا وإتربينا هنا والحمد لله في يوم من الأيام ما حسينا بفرق بيننا وبين الشماليين"، وتمضي بالقول: "والله بعد الانفصال دا نحن قاعدين هنا الحاجات القاعدة تحصل إلا هزار مع الزبائن لكن ما في أي حاجة". قلت لها ماذا ستفعلين بعد الثامن من إبريل المقبل؟ فقالت إنها ستذهب برفقة زوجها الذي يعمل ميكانيكياً بالسوق الشعبي أم درمان للبوليس لتسجيل أسمائهم وقالت: "نشوف بعد داك هم دايرين شنو نسوي ليهم". فقدان عزيز (ميان كير ألاك) هو الشخص الوحيد الذي لم يمانع من كتابة اسمه او أخذ الإفادات منه بصورة مباشرة، ربما بسبب المعرفة القوية التي تربطنا به بحكم أنه زميل لنا، إذ ظل يعمل في صحيفة (السوداني) لأكثر من سبع سنوات دون انقطاع، حتى الوصول لمحطة الاستفتاء والانفصال.. إنتابتني مشاعر مختلفة ومختلطة أثناء حديثي مع (الزميل) ميان، لكنها الأقدار. عموماً ميان عند حديثه عن خياراته في التعامل مع الأجل المضروب، قطع بقوله: "أنا حأمشي.. حأمشي الجنوب إن شاء الله". ويقول إنه ما زال في الخرطوم بسبب انتظار تسوية مستحقات تتعلق بعمله، واستلام مستحقاته بطرف التأمينات الاجتماعية، ويصف ميان مشاعره الخاصة وهو يقف في آخر محطات المغادرة بعبارات وقف عند اختياره لها كثيراً حيث قال بعد تفكير لحظي: "أحس وأنا أهم بمغادرة السودان بأني أفقد شيئاً عزيزاً من جسمي"، ويستدرك بالقول: "لكن كل ذلك مفروض علينا ولا نستطيع أن نفعل شيئا لأن الانفصال أصبح أمرا واقعا لا نستطيع أن نغير فيه"، ويؤكد ميان أنه لن ينسى علاقاته مع الشمال، ويضيف: "إن شاء الله ستبقى ذكريات جميلة بين الناس". جواسيس جلابة الطلاب بدت قضاياهم هنا في السودان أكثر وضوحاً إذ سمح لهم بالاستمرار في إكمال دراستهم حتى التخرج بحسب ما حدثني أحدهم، ولكن (إيمانويل) يقول إنه على استعداد لمقاسمة الحكومة في السودان نصف دخله مقابل السماح له بالعيش هنا في الخرطوم، ورفض الحديث عن تفاصيل أكثر، ولكن عند الإلحاح عليه قال إنه عاد إلى الجنوب ضمن برنامج العودة الطوعية في أكتوبر الماضي ولكنه لم يستطع العيش هناك بسبب اتهامات تردد لهم بأنهم عبارة عن جواسيس ل(الجلابة)، بالإضافة لعبارات عبّر عنها بلغات أخرى لا يمكن كتابتها على الصفحات بسبب قيود قوانين الصحافة ولوائح أخلاقيات المهنة، قال إن تلك العبارات تردد على مسامعهم هناك بأنهم جواسيس للخرطوم. رغبة جوبا العديد من الجهات الدولية أبدت مخاوفها على مستقبل الجنوبيين في الشمال بعد الثامن من أبريل المقبل، ومن بين تلك الجهات منظمة هيومن رايتس ووتش، فيما يقول المفوض الأعلى للاجئين انطونيو غوتيريس إن معظم الجنوبيين يريدون الرحيل إلى جنوب السودان، بينما يقول رئيس مكتب منظمة الهجرة في الخرطوم جيل هيلكي «إن الراغبين في البقاء في السودان يعيشون في متاهة، إذ إنهم في حاجة إلى مستندات من جنوب السودان لتسوية أوضاعهم، في حين أن جوبا لا ترغب في اعطاء وثائق لأشخاص في الشمال»، ويبدو أن العديد من المواطنين يدركون تلك التعقيدات مما دفعهم للتخوف من الإدلاء بآرائهم صراحة للصحافة وربما تأثير التعقيدات والتصعيد الأخير بين الدولتين أثر على أعداد كبيرة من المواطنين وتركهم لا يجدون الأريحية في الحركة أو الحديث. ما ممكن تسافر لم يكن يتوقع بحسبما قال أن يأتي يوم يغادر فيه مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، بعد أن قضى فيها فترة زادت عن ال(28) عاماً، بدأت منذ بداية العام 1984م، تزوج من خلالها وأنجب ثلاثة من الأبناء والبنات زوج لبعضهم وأوجد للبعض الآخر أعمالاً مدنية وعسكرية.. ألا وهو العم فضل المولى كواج دوت المنحدر من منطقة أويل بولاية شمال بحر الغزال، يقول إنه يتواجد بمدينة نيالا ويصف حالته ب(المُعلّق) في انتظار أن يتم الفصل القضائي في قضية نقابة عمال الشحن والتفريغ، ويؤكد أنه سيغادر الى أويل للحاق بأبنائه عقب نهاية القضية، ويسترجع الذكريات ويتحدث عن واقعه وماضيه ويقول إن نيالا بالنسبة له ذات فائدة عظيمة كمنطقة للسكن والعمل والمعاش، ويبدي إعجابه بكرم أهلها، سيما جيرانه بحي التضامن، ولم يمانع العم فضل المولى في البقاء والاستمرار في العيش بنيالا حال السماح له بذلك، ويقول: "أنا جيت من أويل ولحدي وقت قريب مافي زول عارفني أنا حي ولا ميت طوال السنوات الماضية"، ويضيف: "بنتي ذهبت الى أويل وعادت لبيع معاش زوجها المتوفي وهو كان عسكري". تعقيدات قانونية يبدو أن تعقيدات أخرى تواجه الحكومة السودانية في حسم ملف الجنوبيين، مما دفع بالبرلمان ممثلاً في رئيس لجنة العلاقات الخارجية محمد الحسن الأمين إلى المطالبة بضرورة حسم التعقيدات القانونية الخاصة ببعض الجنوبيين من ذوي الأصل المزدوج من السودانيين بالقانون أو أولئك الذين أمضوا أكثر من خمسين عاماً دون انقطاع في الشمال قبل (1956م) قبيل التاسع من أبريل المقبل، وقال الأمين في تصريحات بالبرلمان، إن الجهات التي أوكل لها النظر في تلك التعقيدات القانونية وإصدار القرارات المناسبة بطيئة في ذلك مما يضر بمصالح اعداد كثيرة من السودانيين تنطبق عليهم الصفات المذكورة، وفي اتجاه ربما تخاطب كلمات الأغنية التي تقول في مقاطعها: قبل ميعادنا بي ساعتين ابيتو انا واباني البين .. اغالط نفسي في إصرار وأقول يمكن انا الما جيت، ربما تخاطب تلك المعاني بعضا ما في الوجدان من حتى. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته