شاء الله، وقدر لي، أن أقضي سنوات التعليم بالمرحلة المتوسطة والثانوية بمدينة بورتسودان الجميلة، ولقد كنا حينذاك نطلق عليها عبارة "ثغر السودان الباسم" نوعا من التمليح والتظرف! وهي في الحقيقة والواقع ليست كمدن السودان الأخرى، وذلك نسبة لتفردها ببعض المميزات الخاصة، ولذا تظل ذكرياتها باقية في النفس، ولن تزيلها عن الذاكرة، أو تمحوها إيقاعات الزمان المتسارعة، أو ضغوط الحياة المعيشية القاسية. هذا ولقد ظل النشاط الثقافي والمسرحي، الذي عاصرناه، وتابعناه بنادي الخريجين بها، عالقاً بالنفوس، فلقد شاهدنا مسرحية "العباسية أخت الرشيد" التي أعدها الشاعر الهادي آدم ومثلها طلاب خورطقت الثانوية، وتابعنا المحاضرات القيمة التي قدمها الدكتور محمد النويهي، مدرس النقد الأدبي، بجامعة القاهرة حيث كان للرجل مساهمات قيمة ودر بارز في تنشيط الحركة الثقافية بالأندية والصحف اليومية، نتيجة لإثارته عددا من القضايا الفكرية والأدبية المهمة، ولقد ساهم في الرد عليه عدد من المفكرين والأدباء، كان من أبرزهم الأستاذ محمود محمد طه، والمعلم عبد الرحيم الأمين، والشاعر محمد محمد علي، كما كان للدكتور النويهي دور مقدر في مناصرة قضايا المرأة السودانية لا سيما أن "الاتحاد النسائي" حينذاك كان حديث التكوين فوقف الرجل إلى جانب رائداته، مؤيداً ومسانداً في صدق وقوة. هذا ومن ذكرياتنا الباقية، تلك الزيارات المتكررة للميناء عبر السنابيك الخشبية، والسباحة في مياه البحر الأحمر بالمواضع التي تقع شمال "الحمام الانجليزي" وممارستنا كرة القدم "بالخور" الذي يقع شمال ورش السكة الحديد، ومنها أيضاً الزيارات المتكررة لحديقة البلدية، حيث كنا نجلس بجوار النصب التذكاري الذي أقيم تخليداً لذكرى زيارة "الملك جورج" لميناء بورتسودان عام 1912م، ضمن زيارة كانت مخصصة لبلاد الهند، هذا ولقد أعاد إلى ذهني كل تلك الذكريات، التقرير الضافي الذي كتبه الأستاذ "عبد القادر باكاش" توثيقاً للوداع الرسمي والشعبي الكبير الذي حدث أثناء تشييع جثمان الفقيد أبو الحسن مدني من منزله، بحي المطار، إلى مقابر السكة الحديد، رغم بعد المسافة بين الحيين، ذلك لأن "حي المطار" يقع جنوب الميناء، وحي السكة الحديد يقع بالجانب الشمالي الغربي من المدينة. هذا ولقد كان الحي الأول قبل عام 1956م، معسكراً لفصيل من القوات البريطانية ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإننا نقول: إن القوات المصرية كانت تعسكر بالمباني التي تقع شرق مباني السجن الكبير، ولقد استخدمت هذه المباني مقرا لمدرسة بورتسودان الثانوية الحكومية، عند افتتاحها عام 1956م، ذلك لأن عنابرها، كانت صالحة ومناسبة لاستيعاب مكاتب المدرسة، وفصولها وداخلياتها العديدة. ومن الذكريات العطرة عن تلك الفترة أننا كنا في وداع القوات المصرية إذ أتيح لنا أن نرافقها، وأن نسير بجوارها، من مقرها حتى محطة السكة الحديد، وهنالك ظللنا نتابع المشهد، إلى أن تحرك القطار بهم في رحلتهم الأخيرة لبلادهم ولقد كان هذا المشهد التاريخي يجيئ تطبيقاً وتنفيذاً ل"البند الثاني" من اتفاقية الحكم الذاتي، وهو البند الخاص "بجلاء" القوات الأجنبية عن البلاد. خلال سنوات وجودي بالمدينة، لم تمكني الظروف من مقابلة الفنان الفقيد "أبو الحسن" ولا التعرف عليه ولكن لوحاته الرائعة التي كنت أجدها بمطاعم ومقاهي سوق "ديم المدينة" قد استرعت انتباهي، وجذبتني للوقوف، عندها متأملاً لا سيما تلك اللوحة الكبيرة التي تجسم صورة "المرأة النفساء" وما عليها من ألوان الزينة السودانية، مثل القطع الذهبية، وأنواع الملابس، ومن العجائب، أن تلك اللوحة بالذات، قد ذكرتني بلوحات الرسام "جحا" وكنت قد شاهدتها بمقاهي أم درمان، في أول زيارة لي للعاصمة عام 1955م، ولذا فقد كنت "أخلط" بين شخصية "جحا" وأبو الحسن مدني، ولم أدرك، أنهما شخصيتان مختلفتان إلا في زمان قريب، هذا ولعل المتخصصين في ميدان الفنون التشكيلية والدراسين لها والمؤرخين لروادها، من أمثال الرائع إبراهيم العوام نمر، يوافقونني في حقيقة وجود هذا التشابه بين لوحات الرجلين؟ رحم الله الفقيد، فلقد استطاع من خلال لوحاته الفنية، أن يعكس البيئة السودانية ويخلدها في لوحات جميلة ورائعة، ولذا فإننا نأمل أن يكرم حين "تأبينه" بإصدار كتاب، يشتمل على التعريف به ويوضح مجهوداته المقدرة، على أن يضم الكتاب عدداً من لوحاته المتميزة، لكي تكون بأيدي المحبين له، والمعجبين به، والمقدرين لعطائه رحم الله أبو الحسن، وأحسن إليه، وأكرمه في دار الخلد، مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، وأن يلهم إخوانه وأهله، وأقاربه، الصبر الجميل، وحسن العزاء. إبراهيم الجاك عجبان شندي مربع 14 شمال