السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سواكن .. المدينة البيضاء .. بقلم: محمد أحمد عبد الرحيم الحيرابي -الرياض
نشر في سودانيل يوم 05 - 09 - 2012

تقع مدينة سواكن على الساحل الغربي للبحر الأحمر , وتقبع في حضنه الدافئ الذي كان مسرحاً للصراعات الدولية على مدى قرون طويلة , لكونه حلقة وصل فريدة بين الشرق و الغرب .
وكل من حط رحاله فيها نعم بالمأوى الآمن , والملاذ الطيب اللذين تتحقق بهما كل المآرب . فإن كان البحر الأحمر حلقة وصل بين الشرق و الغرب . فقد اكتسبت سواكن هذه الصفة , فكانت بحق حلقة وصل بين المليون ميل مربع وما يليه من البلدان الأخرى والعالم الخارجي الشرقي منه والغربي . بل كان لها طابعها الخاص من دون بقية المدن السودانية . وكثيراً ما تجاذبتها أطماع الإمبراطوريات المختلفة , فظلت لمدة ليست بالقصيرة محرومة من تبعيتها لوطنها الرؤوم حتى تحقق ذلك عام 1865م.
وكانت تفد إليها السفن التجارية بشتى أنواع البضائع , فتحملها قوافل سفن الصحراء إلى مختلف بقاع السودان , وتعود محملة بالخيرات الطبيعية , كالعاج ( سن الفيل ) , وريش النعام , والصمغ , وعسل النحل , والسمسم , وما إلى ذلك من المنتوجات المتوافرة في تلك البلاد ؛ لتأخذها السفن التجارية , وتعود بها إلى بلاد العالم الخارجي .
ويعود تاريخ أول سفينة تجارية رست في ميناء سواكن إلى عام 1422 م , وكانت قادمة من كلكتا , وهذا الأزدهار التجاري جعلها ذائعة الصيت , وبلغت شأوًا بعيداً عن الشهرة , فقصدها التجار والحجاج والسياح والرحالون . ويكفيها شرفاً أن كتب عنها من لم ترها عيناه قط مثل الرحالة بروس . الذي وصف ازدهار تجارتها وصفاً دقيقاً , لكثرة ما كان يسمعه عنها من الآخرين . وقد ضمن ذلك فيما كتبه عن رحلاته عبر الأعوام 1768م و 1773م , وصدق من قال : إن الأذن تعشق قبل العين أحياناً . فإن كان قد كتب عنها من لم ترها عيناه فحق لي أن أجرؤ على الكتابة عنها ؛ لأنها مسقط رأسي ومرتع صباي , وفوق هذا وذاك فأنا شاهد عيان على بقية باقية من مدينتها وحضارتها وازدهارها الآخذة في الاضمحلال ؛ لعلي أكافئها على بعض ما أسدته إليّ من جميلها . فهي سادت ثم بادت . وتلك سنة الله في أرضه وصدق من قال :
وإذا نظرت إلى البلاد رأيتها *** تشقى كما تشقى العباد وتسعد
سواكن : أسماء وألقاب أم روايات وأساطير ؟
مدينة سواكن تحيط بها أغلبية عظمى من سكان البجا , وهم قوم لهم لغتهم الخاصة ( البداوييت ) بالدال المعطشة كما هو الحال في حرف ال P الإنجليزي , وهي في مجملها تستخدم فقط أربعة عشر صوتاً من أصوات الحروف العربية , فدرجوا على تسميها أوسوك Osauk , والهمزة والواو اللذان في بداية الكلمة هما أداة تعريف للمذكر تقابلها في العربية ( ال ) التعرفية . وتجدر الإشارة إلى أن أداة التعريف للمؤنث هي حرف ( التاء ) تماماً كما هو في اللغة العربية . وعليه كلمة ( أوسوك ) تعني السوق , وهو اسم على مسمى ؛ لأنها حضارتهم وسوقهم الذي لا بديل له عندهم . وفيما عدا ذلك فاسم سواكن يطول الحديث عنه ؛ لأنه تكثر عنه الروايات والخرافات والأساطير التي تناقلتها الألسن كابراً عن كابر , وخلفاً عن سلف , وسنعمد هنا إلى اقتباس بعض هذه الرويات لكونها نماذج لما علق منها باسم المدينة على النحو الآتي :
* إحدى الروايات إلى أن أحد ملوك الحبشة أهدى سبعين جارية إلى سيدنا سليمان عليه السلام , فأبحرت بهن السفينة الشراعية من مصوع , وكانت أول المرافئ التي حطت بها طلباً للراحة والاستجمام , مواقع ميناء سواكن الحالي . ثم أقلعت بهن السفينة ميممة إلى ميناء العقبة , ومن هنالك تواصلت الرحلة براً إلى بيت المقدس , وعند الوصول ألجمت الدهشة ألسن الجميع , إذ ظهرت آثار الحمل عليهن وعند سؤالهن أقررن بأنهن قد وطأهن الجن في سواكن . فأمر سيدنا سليمان بردهن إلى الموقع الذي حدثت فيه هذه الفعلة الشنعاء ؛ لتكون إقامتهن فيها أبدية كما أمر أن يكون ذلك الموقع سجناً لمردة الجن , فأصبح هذا الحدث تتناقله الألسنه , وعندما يسأل السائل عن مرتكب هذه الجريمة المنكرة يأتيه الرد بقول : ( سواها الجن ) , أي ؛ فعلها الجن . وبكثرة التكرار والترداد تحرفت العبارة وأصبحت ( سواجن ) حتى انتهت بها عملية التحريف والتزحيف إلى سواكن . ويذكر بعض المؤرخين أن قصة الجواري والجن لم تكن مع سيدنا سليمان عليه السلام , وإنما كانت مع خسرو ملك الفرس .
* أما الرواية الثانية فتذكر أن جماعة من أهل اليمن في عهد ملكتهم الكبرى بلقيس أرسلوا سبعاً من الفتيات الجميلات هدية إلى سيدنا سليمان عليه السلام , فرست بهن السفينة المقلة لهن في موقع ميناء سواكن الحالي للراحة والاستجمام , ومن ثم واصلت مسيرتها إلى بيت المقدس و وعندما وصلت إلى الغاية المنشودة ظهرت عليهن بوادر الحمل فوضحن أن ذلك من فعل الجن فسمي الموقع ( سبعة الجن ) وبمرور الزمن تحولت العبارة إلى سواكن .
* ومما ذكر أيضاً بهذا الصدد أن الدكتور بلوس ذكر أن البطالسة الذين حكموا مصر خلال رحلتهم في البحر نزلوا في موقع سواكن , وأطلقوا عليه Dimen Evanglias وتعني في لغتهم ( ميناء الأخبار السعيدة ) , أو ميناء بشائر ومن غرائب المصادفات أن يطلق اسم ميناء بشائر على موقع تصدير النفط السوداني , الذي أنشئ مؤخراً شمال سواكن , ويبدو أن الأوربيين تعودوا وصف الأماكن التي تأتيهم منها الخيرات بالسعيد . وذلك تعبيراً عن فرحتهم وسعادتهم بما يأتيهم منها من خيرات لا وجود لها في بلادهم , مثل : البخور والبهارات , وغيرها . وعندها طاب لهم المقام في مواقع سواكن , وتحقق لهم تقوية لتحصيناتهم أقام الإنجليز عام 1866م في سواكن سوراً طويلاً يحيط بها كثير من المصالح الاقتصادية لكثرة ما يرد إليها من السفن التجارية , ويخفف عنهم مكابدة التعب والأسفار , فكانوا يعودون بمتطلباتهم من سواكن إلى الغرب , حق لهم أن يسموها بميناء الأخبار السعيدة , أ, ميناء البشائر .
* في عهد الخديوي إسماعيل باشا ازدهرت سواكن كما لم تزدهر من قبل , حتى أصبحت تلقب بعروس البحر الأحمر , وذلك وفق ما ورد في كتاب " رحلة إفريقية " ويذكر داكسترو الذي مر بها عام 1541م أنها أغنى دول التجارة في الشرق , ولا يضارعها - في نظره - إلا ميناء لشبونة البرتغالي . والفضل ما شهدت به الأعداء .
* ومما ذكر أيضاً بهذا الصدد أن هناك من يذهب إلى أن كلمة سواكن في اللغة الهندية تعني "المدينة البيضاء" . وتلك حقيقة مشاهدة في وحدة لون مبانيها وشدة بياضها .
وكما هو واضح مما سبق أن كل ما ذكر عبارة عن روايات و مزاعم لم تثبت بالدليل القاطع , والبرهان الناصع . ومازالت تجد عند العوام الاهتمام والتداول . فأصبحت جزءًا من التراث الثقافي للمدينة . وحتى يتحقق تفسير ذلك بالصورة العلمية عن طريق البحث الجاد , أحسب أننا لا نملك إلا أن نسوغ ذلك بالقول المأثور : ( إن الأسماء لا تفسر ) , وما أحسب ذلك إلا من قبيل خداع النفس للنفس . والإتيان بالتفاسير والمسوغات لما نعجز عن إدراك كنهه , ومعرفة حقيقته . فمهما يكن من أمر ففي ذلك مدعاة للمثابرة ومتابعة البحث الموصل إلى الحقيقة, وإزالة هذا الغموض الذي مازال يكتنف اسم ثغرنا الحبيب .
سواكن : الموقع والتضاريس
تقع سواكن على خط العرض الشمالي 7 َ19 ْ , وخط الطول الشرقي 20 َ37 ْ , وهي محاطة بعدد من موانئ البحر الأحمر التي تبعد عنها بمسافات متفاوتة ؛ فميناء السويس يبعد عنها نحو 720 ميلاً شمالاً , وميناء مصوع يبعد عنها نحو 280 ميلاً جنوباً , كما يبعد عنها ميناء جدة نحو 200 ميل شرقاً , وأخيراً ميناء بورتسودان نحو 40 ميلاً شمالاً أي ؛ ما يعادل 65 كيلاً . والأخيرة هي عدوها اللدود . وضرتها التي سحبت البساط من تحت قدميها . دافعة بها إلى غياهب الاضمحلال والإهمال والنسيان . وبؤرة هذا الميناء ومرتكزه الحضاري وقلبه النابض جزيرة صغيرة لا يزيد محيطها على ميل ونصف الميل ويفصلها عن البر الغربي المسمى ( القيف ) ما يربو على الأربعين متراً . ويوثق لنا هذه الحقيقة ما ذكره ابن بطوطة عند زيارته لها ( .. من أن الماء كان ينقل من القيف إلى الجزيرة عبر المراكب (الفلوكة) .. ) . ولتيسير أمر الاتصال بين سكان الجزيرة وأهل القيف تم بناء جسر عرضه 8 أمتار في عام 1879 م ... ) .
فالجزيرة كانت موطن الحكام وعليه القوم ووجهائهم . وموقع مباني الشركات والجمارك . والفنادق والبنك الأهلي , أما القيف فهو موطن عامة الناس , ولذلك كانت الجزيرة ثغر الميناء الباسم والواجهة الجميلة التي تقابل القادمين إليها . وهذا ما أعطاهم انطباعاً جميلاً . وترك في نفوسهم ذكريات لا تنسى , إذ زينت بالنوافير والفوانيس والحدائق والملاعب .
ومن حيث تضاريس المدينة , يمر بها الخط الكنتوري الخامس ، بمعنى أنها ترتفع فوق مستوى سطح البحر بخمس أقدتم0 وفي أقصى الغرب تمتد سلسة جبال البحر الأحمر شمالاً وجنوباًفي توازٍ مع ساحله ، وهي بمنزلة خط لتقسيم المياه خصوصاً في منطقة سنكات،وأركويت،ومحطة صمد، وأودروس إذ تنساب ميه الأمطار على طول هذا الخط في إتجاهين متعاكسين تناناً ناحيت الشرق والغرب0 فالمتجهة شرقاً تصب في سواحل البحر الأحمر،أما المتجهة غرباً تصب في شواطئ نهر عطيرة عبر خةر عرب وغيره من الأودية0
وهذه السلسلة فيها قمم يربو إرتفاعها على ثلاثة آلاف قدم0 وإذا أدركنا أن إرتفاع المدينة فوق مستوى سطح البحر لآ يزيد على خمسة أقدام نستطيع أن نتخيل شدة إندفاع السيول نحو البحر0 فهي سيول مدمرة تصيب الناس بالخراب متى ما ترك لها الحبل على الغارب0 والبوابة الرئيسية للمدينة تقع قبالة أحد الأودية الكبرى ، وهذا يعرضهالخطر داهم فتمت المسارعةببناء جسر على هذا الوادي وسمي ( بجسر الشاطة ) فتمكنوا بذلك من إصطياد عصفورين بحجر واحد كما يقولون0
أولاً: أصبحت المدينة في مأمن من مخاطر السيول التي نتج منها دمار شامل عام 1905م ، وتمكنوا من تخزين كمية كبيرة من ميه الأمطار تكفي لمدِ المدينة بمياه الشرب العذبة قرابة أربعة أشهر أو خمسة0
ثانياً: أصبحت الأطماء المحجوزة مصدراً للخصب والزراعة0 وأصبحت توفر جزءاً لا يستهان به من الإكتفاء الذاتي للمدينة من الخضروات والفواكه والأعلاف0 فإن كانت مصر هبة النيل كما يقولون ، فلا عرو أن تصبح سواكن هبة جسر الشاطة0
فجسر الشاطة ببعد نحو كيلين من البوابة الرئيسية0 والشخص الذي تسنح له فرصة تسنم ظهره ن وهو متجه نحو الشرق ، يرى العجب العجاب من المناظر الطبيعية الخلابة0 فهو يرى المدينة بأسرها أمام ناظرية ، كأنه يطل عليها من علِ، ويستطيع أن يتبين معظم معالمها الرئيسية 0 والجازب لنظر المتأمل زرقة البحر الدكناء في إمتدادها شمالاً وجنوباً خلف مباني المدينة الشديدة البياض ، وناطحات سحاب زمانها0 فهو منظر بديع يرى من خلاله زرقة البحر التي تنداح شرقاً لتلتقي في الأفق البعيد مع زرقة السماء ويرى البسحب أقرب ما تكون إلى البحر، بل وبعضها يلامسه ملامسة خيالية ، فيزداد المنظر روعة وحسناً0 وهذا المنظر يصل إلى ذروة روعته قي الصباح الباكر عند بزوغ فجر كل يوم جديد0 إذ يبدد ضوء الشمس ظلمة الليل ، ويبدأ معالم الأشياء في الظهور رويداً رويداً0 ومن ثم يطل قرص الشمس الذهبي من وراء الأفق تدريجياً وكأنه حسناء تطل من وراء خدرها على إستحياء0 وسرعان ما يرتفع قرصها ، ويستوي فوق الأفق وتسقط أشعتها على سطح البحر فتنعكس منه لآلئ بيضاء متلاحقة ، تتحرك مع تحركات الأمواج الهادئةوالمتالية التي يحدثها نسيم البحر العليل0 فيجد المتأمل نفسه أمام منظر رائع يبعث الراحة والسرور في النفس وكانه أمام لوحة إلكترونيةتتغير بين الفينة والأخرى ، فتبارك الله أحسن الخالقين0 وفي ليلة الرابع عشر من كل شهر عربي ، وبعد مغيب الشمس مباشرة يحل قرص القمر محل قرص الشمس باعثاً نوره الهادئ الذي يبعث في النفس المشاعر والعواطف الفياضة0 ولا شك إنها ليالِ يحلو فيها الأنس والسمر0
وأما إذا إلتفتَ من هذا المقع يمنة أو يسرة فإنك ترى أحياء المدينة خرج السور الأثري فتشاهد حركة الناس المنتشرين في كل الإتجاهات سعياً لكسب قوتهم اليومي0 فسكان تلك الأحياء هم في واقع الأمر في منولة بين المنزلتين من الناحية الإجتماعية 0 فهم لا حيلة لهم لمواكبة الحياة الحضرية التي يمارسها أهل الأحياء الموجودة داخل السور ؛ لأنهم لا يتحملون زيادة الرطوبة المجودة عندهم لقربهم من البحر والتي تصيبهم ( بالكتمة ) بين الحين والآخر0 ويكرهون شم رائحة الأسماك المقلية0 وفيهم من لايقدم على أكلها البتة إعتقاداً منهم أنها ميتة ، فقصرت ثقافتهم الدينية عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أحلت لنا ميتتان ودمان ) والسمك إحدى الميتتين0 وبما أن الشئ بالشئ يذكر ، تجدر الإشارة أننا رأيتا الشركات التي تكتب على الأسماك المعلبة ( ذبح على الطريقة الإسلامية ) ويضاف إلى ذلك ، الحرج الذي يمكن أن تسببه لهم الكثافة السكانية من إختلاط نسائهم بالأجانب ، فهم لهذه الأسباب مجتمعة آثروا أن يستمتعوا بالنسمات العليلة بعيداً عن الرطوبة ويبيس الماء 0
والأم من ذلك توافر مساحات كافية لإنشاء زرائب الأغنام ، التي تدر عليهم الغذاء و الكساء , إذ يقومون بغزل الصوف والشعر لصناعة مستلزماتهم الأثاثية من شمائل و أبسطة. فالمتأمل لهذه الأحياء يمتع ناظريه بمروج خضراء لا نهائية الإمتداد , و يجذب انتباهه في الصباح الباكر أسراب متلاحقة من الأغنام المتسارعة إلى المراعي و السارحه وراء الكلأ حتى سفوح الجبال , لتعود في المساء و هي ممتلئة الضروع بالخير الكثير سعيا إلى الحصول على العلف و الماء اللذين تعودت أن تفوز بهما عند عودتها . و هذا النشاط الأخير يعكس سمة من سمات المجتمع البدوي الذي لم تطاوعه نفسه بالعودة إليه للسياحة في أرض الله الواسعة بحثا عن الماء و الكلأ. وكما أسلفنا , فهم يكونون مجتمعا بين الحضر و البدو, و لا شك أن قربهم من المجتمع الحضري يعينهم على اقتباس عاداته و تقاليده بمرور الزمن , فيخرج الله من أصلابهم أمة متحضرة : لأنهم لا حيلة لهم للإمتناع عن إرسال أبنائهم إلى الكتاتيب و المدارس .
الماء: الرخيص وجوده و الغالي عدمه
عانت مدينة سواكن ما عانت من الشح في توافر مياه الشرب . و قد بذلت السلطات المتعاقبة قصارى جهدها لتوفير الماء , و أقدم من تعرض لذكر هذه المشكلة الرحالة العربي ابن بطوطة 0 (1303م-1377م) و عندما سنحت له زيارتها عام 1352م أبدي ملاحظته بقوله :( 000 وصلت جزيرة سواكن , التي لا ماء بها , و لا زرع و لا شجر , فالماء يجلب إليها في القوارب من القيف , و فيها صهاريج ماء يجتمع فيها ماء المطر 000)
و فيما يأتي نستعرض الجهود المبذولة لحل هذه المشكلة :
* عهد دولة الفونج (السلطنة الزرقاء ) 1508م – 1820م زارها الشيخ عجيب المانجلك بن عبدالله جماع سنة 970م /1560م , فأمر بتجهيز حفير لتجميع مياه السيول , كما أمر بحفر آبار في منطقة الغولة جنوب المدينة , و هي المنطقة التي يشغلها الآن مستشفى المدينة .
* العهد التركي (العثماني ): تم الغزو التركي لمصر عام 1517م بقيادة السلطان سليم الأول . و لأهمية مدينة سواكن لتأمين الطريق التجاري إلى جنوب شرق آسيا , أخذ زمام المبادرة لزيارتها عام 1520م, وأمر بأخذ التدابير اللازمة لحل مشكلة المياه . ففي عهد أحمد ممتاز باشا , الذي أصبح عليها في مايو عام 1865م تم بناء سدود منها جسر الشاطة الذي يبعد عن البوابة الرئيسية قرابة كيلومترين . وفي عام 1870م أقام سدا في منطقة أركويت التي تبعد ثمانية عشر كيلومترا , و حفر ترعة ينقل بها الماء إلى المدينة , و ذلك وفق ما نشر من أخبار في جريدة الوقائع المصرية . و تواصلت جهود الأتراك بهذا الصدد , فتم حفر الآبار خلف جسر الشاطة , كما تم بناء خزانات أسمنتية أسطوانية الشكل بارتفاع ثلاثة أمتار تجمع فيها المياه و تنساب في مواسير تحت الأرض إلى خزانات خلف باب شرق السودان , و من هناك تنقل بالدواب إلى المنازل .
* الحكم المصري البريطاني ( الحكم الثنائي 1889م-1955م) بدأت جهودهم من حيث انتهى الآخرون , فزادو عدد الآبار الكائنة خلف الجسر , و أدخلوا خدمة جديدة عبر الطاقة الهوائية , فأقاموا مروحة حديدية فارهة الارتفاع بأعلى منطقة الجسر , و أقاموا (خزانا ) لرفع المياه , يعمل بفعالية حركة المروحة التي تحركها الرياح أنى كان اتجاهها . و أقيم خزان علوي تجمع فيه المياه لتنساب عبر المواسير إلى الخزانات خلف البوابة . و بعد احتدام الصراع بين القوات البريطانية و القوات المهدية بقيادة الأمير عثمان دقنة , و احتلاله منطقة الشاطة , لجؤوا إلى إقامة محطة لتحلية البحر على إحدى الجزر القريبة من الكرنتينة , التي كانت تعرف (بالكنداسة) , و مازالت آثارها باقية حتى الآن .
*الحكومات الوطنية (1956م- 2005م) : تعاقبت الحكومات الوطنية على سدة الحكم من دون أن تعيرهذه القضية أي قدر من الإهتمام , فطواها النسيان , و أصبحت مصادر المياه أثرا بعد عين , ووصلت المشكلة إلى ذروتها , فاضطر المسؤولون إلى جلب المياه إلى سواكن من بورتسودان بالفناطيز (وايتات الماء) , و كانت هذه الأزمة مما استوقف الحكومة الولائية في البحر الأحمر حيال أزمة المياه المتفاقمة , فسارعت ببناء سد هندوب الذي يبعد تسعة عشر كيلومترا شمال غرب المدينة ,و جلبت مياهه إلى المدينة , و أردفت ذلك ببناء ((سد قوب )) في جنوب غرب المدينة , و على بعد أربعة و عشرين كيلومترا , فكان أكمل من سابقه من حيث الإعداد و التجهيز , بدعم سعودي سخي , و مساهمة مقدرة من كل من هيئة الموانئ البحرية , و جمعية عيون الحياة الخيرية. و مواصلة لسرد جهود الحكومة الحالية في هذا المجال يلوح لنا في نهاية النفق أمل كبير , إذ شنفت آذاننا في الآونة الأخيرة أخبار جلب المياه العذبة من نهر النيل عند مدينة عطبرة , و قد قرأنا في الصحف السودانية عن مشروع نقل مياه النيل من عطبرة إلى بورتسودان , و اكتمال إجراءات عمليات توقيع هذه الاتفاقية بين الحكومة السودانية و الشركة الصينية العالمية للبناء و التشييد , و هو خط يبلغ طوله من مبتداه في عطبرة إلى منهاه في بورتسودان 470كم , بتكلفة إجمالية بلغت 345مليونا من الدولارات ؛ لتوفير 100 ألف متر مكعب من المياه . و لاشك أنه خط تعلقت به الآمال كثيرا لجلب الري و النماء لسكان المنطقة , و هي آمال ظلت تراودهم منذ مدة طويلة , و سيمر الخط على القرى و المدن الواقعة بين عطبرة و بورتسودان و تحديدا أرياب ( منطقة تعدين الذهب ) و درديب , و هيا , و سنكات , و جبيت , و سواكن , لينتهي به المطاف إلى بورتسودان , و الخط مدعوم بمضخات لتسريع انسياب المياه إضافة إلى محطات ضخمة لتنقية المياه في كل من عطبره و هيا و سنكات و جبيت و سواكن . و مربط الفرس عندنا مرور هذا الخط بمدينة سواكن ليسدل الستار على مشكلة أزمة مياه الشرب متى ما تم تنفيذه , و نكتب بأحرف من نور خاتمة تلك القصة المأساوية التي بدأت منذ عهد الرحالة العربي ابن بطوطة لتنتهي في عهد حكومة الإنقاذ من 1352 إلى 2005م , فإن تحققت بالفعل تصبح نهاية تسر النفس , و تثلج الصدر , و تريح البال , و تجعل أهلها يتنفسون الصعداء لتتسع صدورهم للإقبال على مناشطهم الحياتية , مساهمة منهم لبناء السودان الجديد .
أما بالنسبة إلى مدينة سواكن فقد حلت مشكلة , و بقيت أخرى , و هي مشكلة جسر اشاطة – المذكور آنفا – فهي , وإن أشفت غليلها بتوافر مياه الشرب , فسيظل محدقا بها خطر السيول الجارفة , التي تترصد بها ريب المنون , و نأمل أن تتبع الحكومة الولائية مشروع نقل المياه العذبة بمشروع صيانة جسر الشاطة , و دعمه ببناء حفير في منطقة الآبار بأعلى الجسر , و بذلك يتم درء الخطر و توفير المياه و الأطماء المتجددة ؛ ليعود أهل المنطقة إلى سابق عهودهم في توفير الاكتفاء الذاتي للمدينة من الخضروات و الفواكه , و بذلك تعود إلى المدينة طمأنتها و هي تستقبل عودة سكانها الذين سبق أن غادروها , فتعود إليها نضارتها و إزدهارها , لتعود إلى مركزها الأول من الازدهار و النماء و الشهرة . و خلاصة القول - و بما أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح – لابد أن يعطي هذا المشروع الأسبقية القصوى , و هذا قليل من كثير مما يمكن أن يقدم لعروس البحر الأحمر , و ثغرها الحبيب .
سواكن : أسوار و قلاع و حصون
موقعها الإستراتيجي على الطريق التجاري الموصل بين الغرب والهند و الشرق الأقصى جعلها عرضة لأطماع مختلف الإمبراطوريات , التي لا حيلة لديها لتأمين هذا الطريق إلا بتكديس العدة و العتاد , و تجييش الجيوش الجرارة , ليس هذا فحسب , بل ما من إمبراطورية أحكمت سيطرتها على سواكن إلا و جعلتها قاعدة لأساطيلها الحربية , و الفترة الممتدة بين القرنين الحادي عشر و الثالث عشر عرفت عند المؤرخين بكثرة استخدام القلاع, لدرجة أنهم سموها ( بعصر القلاع الذهبي ) , فكانت القلعة مدينة داخل مدينة , وأصبحت تبنى بحجارة ضخمة , و صارت تشتمل على جميع المرافق التي تتطلبها المدينة الحربية من مساكن لإيواء القادة و الجند و العاملين فيها إضافة إلى المطابخ , و دور العبادة , و اسطبلات الخيول , و مخازن المؤن و العتاد و العدة و صهاريج المياه , إلى غير ذلك مما كان يحتاج إليه المقاتلون المحاصرون لمدد طويلة .
و من لا يأخذ بهذه الاحتياطات تدور عليه الدائرة عند مواجهة العدو . و لله در الشاعر الجاهلي المعمر زهير بن أبي سلمى الذي عجمت عيدانه الحروب و التجارب حيث يقول :
و من لم يذ عن حوضه بسلاحه *** يهدم و من لا يظلم الناس يظلم
و في التاريخ الحديث أقرب مثل لاستعدادات الحرب , و اقتناء أحدث تقنياتها جيش الإمبراطورية البريطانية التي لقبت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس , كناية عن سعة انتشارها , و هيمنتها على كثير من الأقطار في شتى أنحاء العالم . و هذه الإمبراطورية , على الرغم مما كانت عليه من القوة و اليأس و الجبروت , و المقدرة على إخضاع الآخرين , عثرت بها قدمها في سواكن , التي مرغت كرامتها في التراب بما لم يكن في الحسبان , من قبل مجاهدي الثورة المهدية الأشاوس
, بقيادة قائدهم المغوار الأمير عثمان دقنة . و قد درجت على تسميتهم بالدراويش استخفافا بهم و بأسلحتهم التقليدية , و اعتدادا بإمكاناتها و استعدادتها الحربية , التي كانت على أحدث طراز من تقنيات ذلك الوقت , و غاب عنها قوة الإيمان , التي تغمر النفوس , و تتقد في قلوب المجاهدين , لتجعلهم أبطالا أفذاذا لا يهابون الردى في سبيل الفوز بالجنة . غفلوا عن تلك المعاني الإيمانية , فكسرت ثنايا جيشهم الجرار المتمثلة في مربع الجيش البريطاني , الذي اشتهر بهذا التكتيك . و يا لهول ما لحق بها من عار بتدمير جيشهم على علو مكانته القتالية , و حداثة أسلحته من قبل , من كانوا يعتقدون أنهم شرذمة الدراويش . و ذلك ما اعترف به شاعر إمبراطوريتهم روديارد كبلنج في قصيدته التي أسماها " الفظي وظي " fuzzy wazzy أي : " المحارب ذي الشعر الأشعث , الذي لم يكن له عندهم أي وزن في سلم درحات الرقي و التقدم , فمرغ أنوفهم في التراب , و غصت حلوقهم بالمرارات , ودارت عليهم الدوائر , فالأيام دول بين الناس , و من سره زمن ساءته أزمان , و ليس لنا إلا أن نؤمن على القول المأثور : ( و الفضل ما شهدت به الأعداء ) .
ومما جاء في هذه القصيدة التي ترجمها المؤرخ محمد صالح ضرار : ( لأنك و إن كنت قد خسرت أعدادا أكثر منا إلا أنك هشمت المربع ) , فالاستعلاء و الجبروت و العزم الإنجليزي الأكيد على دحر فلول دراويش المهدية , - على حد زعمهم – جعلهم يتخذون من سواكن قاعدة حربية , و بنوا حولها الأسوار و الخنادق , و استدعوا الجيوش من مختلف مستعمراتهم , كالهنود و السيخ و غيرهم , حتى ضاقت بهم المدينة فاضطروا إلى إقامة معسكراتهم خارج المدينة .
و يبقى السؤال , إذا كان العدو الذي يواجهونه شراذم من الدراويش على حد زعمهم , فلم كان كل هذا الجهد ؟ و لعلها التجربة العلمية في اللقاء , التي أثبتت لهم عكس ما كانوا يعتقدون , فأدخلت في قلوبهم الرعب , فانعكس ذلك على تحصيناتهم الكثيفة , فأصبحت المدينة محصنة بأسوار من وراء أسوار , و بقلاع من وراء قلاع . فعلوا كل ذلك تفاخرا و انتصارا للأسد الذي اتخذوه رمزا لإمبراطوريتهم , و فات عليهم أن يتذكروا قول القائل :
لا تحقرن صغيرا في مقاتلة *** إن الذبابة تدمي مقلة الأسد
و تحقيقا لنصر كان يدغدغ أحلامهم تركوا بصمات واضحة من تحصينات المدينة , التي ما زالت آثارها وأطلالها باقية حتى اليوم .
و تقوية لتحصيناتهم أقام الإنجليز عام 1866 م في سواكن سورا طويلا و مدعوما بخندق يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم . كان طوله ثلاثة أميال تقريبا , و إرتفاعه قرابة أربعة أمتار تقريبا , و بسمك يقارب ثلاثة أمتار , و فتحت فيه خمس بوابات لمراقبة الداخلين و الخارجين حتى لا يندس الثوار وسط المواطنين , كما أقاموا عددا من الطوابي التي يؤمها نفر من الجند حفاظا على الأمن , و بسطا لهيمنة السلطة القائمة .
و أسماء تلك البوابات على التوالي من الشمال إلى الجنوب هي : البوابة الشمالية , و بوابة الأنصاري , و بوابة كتشنر ( سميت بإسمه تخليدا لذكراه , لأنه تولى بناء السور , و عرفت فيما بعد بباب شرق السودان ) , و بوابة أندارا , و بوابة الأمير محمود بك أرتيقة , و بوابة المحلج .
أما القلاع فتنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : منها كان ملازما للسور , و هي على التوالي من الشمال إلى الجنوب قلعة اليمين ,* و قلعة الأنصاري , و قلعة سوداني , و قلعة طوكر , و قلعة العرب , و قلعة إسفنكس ( أبو الهول ) و قلعة المحجر .
أما القسم الآخر: فقلاعه تبعد نحو ميلين , أو ثلاثة أميال خارج المدينة , و هي مدعومة بالعدة و العتاد و فرق من الجنود ؛ لمجابهة العدو قبل وصوله إلى المدينة , و ترتيبها على التوالي من الشمال إلى الجنوب قلعة هندوب , و قلعة تاماي , و قلعة الفولة ؛ إضافة إلى ذلك كان أسطولها الحربي على أهبة الاستعداد , يبعث بالأنوار الكاشفة على الامتدادات المحيطة بسواكن , استجلاء للموقف , و حذرا من الهجمات المباغته التي أرقهم بها ثوار المهدية .
وازدهار سواكن و شهرتها ليس مبعثهما الازدهار التجاري , و شراء سكانها , و عيشهم الرغيد , الذي كانت توفره تلك الحراسات , فبلغت شأوا بعيدا في الشهرة , كما ذكرنا آنفا . سواكن : معالم و آثار
مرت على سواكن معظم الحضارات , و تنافست على إعمارها , فانعكست تلك المنافسات على طراز البناء الذي اتسم بكثير من الفنون المعمارية , و أبرزها الطراز الإسلامي , الذي يزين معظم معالمها بالرسومات و النقوش , و خطوط الآيات القرآنية البارزة , و نقتبس بعض تلك المعالم على النحو الآتي :
*وكالة الشناوي : وهي أهم معالم المدينة قاطبة، لأنها مركز الحركة التجارية، ,محور أنشطته الأساسية0 وتجدر الإشارة إلى أن هنالك إلتباساً واضحاً بين مبنى الوكالة ومبنى القصر وكلاهما للشناوي0 فالمبنى الأول يقع في القيف خارج الجزيرة ، أما الآخر فموقعه داخ الجزيرة ، وقد إتخذه صاحبهمأوىً لإسرته ، وداراً لإكرام الضيوف0 أما الوكالة التي أطبقت شهرتها الآفاق ، فبناها الشناوي الذي كان وكيلاً للخديوي المصري في سواكن0
ومن المعلوم أنً الإدارة المصرية كانت وثيقة الصلة بسواكن ، إذ تولت إدارتها والإشرافعلى تجارتها وجباية جماركها لمدد ليست بالقصيرة0 وبما إنه ( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ) كان لابد أن يكون مبنى ممثل الخديوي المصري ( أد المقام )على حد قول الإخوة المصريين، فكان ذلك ما حدث بالفعل0 فأصيح المبنى رزنامة تقويمية تألفت من أربعة طوابق وشغلت مساحة لا تدانيها مساحة أي مبنى من المباني الموجودة بالمدينة حينذاك0 فلا غرو أن تكون الوكالة مكونة من 365غرفة0 فهو مبنىَ تمركزت فيه تجارة الوارد والصادر0 وكان مستوعباً لكل الأنشطة التجارية للمدينة ، من مكاتب إدارية ومخازن وسكن العاملين0 فكان واسطة العقد حيث تحفظ وارداتها التي تجلبها مختلف أنواع السفن ن فترسل إلى الداخل بواسطة قوافل سفن الصحراء0 فكانت الوكالة مناخاً لتلك القوافل ، ومرفأً للسفن لتفريغ حمولتها الواردة وشحنها بحمولات الصادر0 فأدت خدماتها على أكمل وجه ، فوافق شن طبقة0
وعوداً على رحاب سعادة الشناوي الذي تشير الروايات إلى أنه كان يبيت ليلة في كل غرفة من غرف الوكالة فينتهي العام بمبيته في آخر غرفة ليعاود الكرة مرة أخرى مع بداية العام الجديد\0 فتلك رواية لابد من تحكيم العقل والمنطق إزاءها0 فهي مرفوضة ن وخصوصاً إذا علمنا أن للرجل قصراً داخل الجزيرة مع بقية قصور الذوات ، فلا حاجة له إلى أن يستنكف عن جيرة الوجهاء وعلية القوم ليجاور العوام ن وبقلق مضجعه بالضجيج والجلبة الناتجين من حركة البضائع الدائبة في مختلف جنبات مبنى الوكالة0
فذلك منوال نسج عليه الرواة والحكواتية ، فأحكمواحبكته لتحلوا الرواية وتجد القبول عند العوام0 وأخشى ما نخشى أن يكون من بينهم من يعتقد أنه كانت له زوجات بعدد غرف المبنى ، ولله في خلقه شؤون0 فمبعث تلك الرواية أنَ أهل سواكن انفتحت عليهم الدنيا فعاشوا في رغد من العيش بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، فاورثهم ذلك حب زينة الحياة الدنيا من المال والبنين والقناطير المقنطرة نت الذهب والفضة ن فانفتحت عليهم فتنافسوا فيها كل يريد أن يكون لة الفضل على الآخرين0
وأزيد القارئ الكريم بيتاً من شعر منوال الرواة الذين سمعناهم يقولون إن تجار سواكن من ثرائهم الفاحش وغناهم المطغي كان لا وقت لديهم لعد العملة المعدنية ، ولذا كانوا يكيلونها كيلاً كما تكا ل الغلال0 وذلك زعم مردود عليهم إذا علمنا أنَ التجار الهنود وغيرهم كانت لهم عصا السبق في إختراع العداد الأول (الأبكس ) لإجراء العمليات الحسابية ، فتبقى الحقيقة ناصعة من دون لبس أو غموض ، وما الروايات التي سمعناها عن الإسم منا ببعيد0
*مدرسة سواكن الأميرية : هذا معلم من معالم النور ، وفي أثناء البحث عن بياناته عثرت مصادفة على مرجع غاية في الأهمية وهو كتاب (ملامح وذكريات من مجتمع البحر الأحمر ) وهي ذكريات جميلة تعود بالقارئ إلى ثلاثينيات القرن الماضي ، وأن المؤلف نعلم مخضرم0 كان ميلاده في سواكن فشب وترعرع في حاراتها ووسط فصورها ، وتلقى يدايات تعليمه في مدرستها العريقة0 والأهم من ذلك كله أنه شاهد عيان على هذا الصرح التعليمي الذي نحن بصدد الحديث عنه 0 فهو في واقع الأمر قد تتلمذ لأساتذة هذه المدرسة ثم عاد إليها معلماً ودرس فيها بعد أن تلقى تدريباته التربوية بنعهد بخت ةالرضا ، ثم عاد إايعا تارة أخرى مشرفاَ تربوياً وموجهاً لمعلميها وذلك قبيل إحالته إلى المعاش في عام 1989م ، ألا وهو الأستاذ الجليل علي أبو محمد منيناي – أطال الله في عمره – وليت الآخرين يحذون حذوه0
أسست هذه المدرسة الإدارة المصرية سنة 1313ه / عام 1895م , وذلك التأريخ كان مكتوبا على واجهتها بالخط العريض , و مدرسة سواكن الأميرية هي من أول المدارس السودانية , و أول مدرسة في الشرق , تقع على بعد خطوات من ساحل البحر الأحمر بعيدا من أماكن الجلبة و الضوضاء , كالأسواق , فتتغشى روادها نسمات عليلة من تلقاء البحر , و يسمعون الصوت الرتيب لتكسر أمواج البحر على الساحل , وترتفع أصوات التلاميذ المتناغمة فيتجلجل صدى أصواتهم داخل الجدران المدرسية المغلقة , و كأنهم في سفينة , ولكنها ليست ككل السفن , بل هي سفينة النور و الرشاد تمخر بهم عباب بحر العلم .
فإن كان في مبنى وكالة الشناوي إضافة جديدة على المباني التجارية , ففكرة مبنى المدرسة نالت نصيبها من الروعة , فهي تتكون من طابقين , و كل مساحة المدرسة ضمت تحت مظلة سقف واحد , و مكاتب المدرسين , و فصول الدراسة محصورة في الجانب الشرقي , و جميع نوافذها تطل على البحر فتستمع الأبصار بالمناظر الجميلة , و تطيب النفوس بالنسمات العليلة , فموقعها رائع و فكر بنيانها و طرازها أروع .. كانت المدرسة تضم المرحلتين الابتدائية و المتوسطة , وجلبت إليها المناهج و المناهج و المعلمين من مصر , أمثال : ماضي أبو العزائم , و علي الجارم , و آخرين . و الذين يكملون دراستهم فيها , كانوا يذهبون إلى أسوان للامتحان لنيل الشهادة الابتدائية المصرية .
أما في عهد السودنة (تعني شغل الوظائف التي كان يشغلها الإداريون الأجانب بكوادر وطنية) فنذكر ممن أدوا فيها الخدمة الوطنية , الأستاذ حسن نجيلة , والأستاذ أحمد سليمان الماحي , و ممن تخرجوا في محرابها التعليمي الرئيس الأسبق إبراهيم عبود , و البجاوي الفريق أحمد محمد أول قائد للقوات السودانية المسلحة , و الأستاذ عبد القادر أوكير , و المؤرخ محمد صلح ضرار, و غيرهم كثير ممن كانت لهم أدوار قيادية بارزة في خدمة الوطن .
و هنا تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ حسن نجيلة , صاحب المهنة المزدوجة ( الصحفية و التعليمية ) , نقل إلى تلك المدرسة مديرا لها في مطلع عام 1944م . فأثار حفيظة نفسه الظلم الواقع على عمال المحلج الذي كان يملكه الخواجه الإغريقي ( إلياس دباس ) , فانبرى لذلك بكتابة مقال ضاف في جريدة الرأي العام دفاعا عن حقوقهم , و تحدث عن حيثيات المشكلة التي حصرها في كثرة ساعات العمل , و قلة الأجور , فنتج من ذلك زيادة لأجور العمال الذين أسعدهم ذلك غاية السعادة , فشكروا له سعيه , و سموه نصير العمال .
و قد تم نقل المدرسة إلى بورتسودان الشرقية . و حري بنا في هذا المقام أن نذكر أن أول وزير للمعارف في ذلك الحين زار ميتة سواكن تنفيذا لقرار نقل المدرسة إلى بورتسودان , فانبرى له عمدة المدينة محمود بك عثمان أرتيقة قائلا : " سواكن عبارة عن دجاجة كبيرة جميلة , شبعتم من أكل بيضها , و ذبحتموها , و نتفتم ريشها , و أكلتموها , ورميتم عظامها لنا " و ذلك تعبير صادق عما كان يجيش في نفسه من مرارة الأسى و الحزن لمفارقة الوطن , و اعتراض صارخ على نقل مهام ميناء سواكن إلى بورتسودان , و حق له ذلك ؛ لأن مفارقة الأوطان من أصعب الأشياء على النفس الإنسانية .
سواكن : اعمار و مبان و سكان
معالم مدينة سواكن كثيرة , و لا مجال لحصرها في هذه العجالة , لقد اشتهرت بقصورها الشامخة , ومبانيها الضخمة , التي بنيت وفق الطراز العربي الإسلامي , و تم بناء بيوتها في أواخر القرن الثامن عشر و أوائل القرن التاسع عشر , و قد استخدم في بنائها الصخور المرجانية المستخرجة من عمق البحر بوصفها مواد للبناء , إذ لم تبن مدينة غيرها في العالم بهذه المادة , لصعوبة الحصول عليها , فأضاف ذلك إليها خصوصية و تميزا من هذا الجانب, كانت مبانيها فخمة وباسقة يراوح ارتفاعها بين ثلاثة و أربعة طوابق , و كانت تزينها من الداخل المشربيات و الرواشين , والأبواب الخشبية متقنة الصنع , و الزخارف و النقوش , و الرسومات , و خطوط الآيات القرآنية البارزة , وكأنها متاحف لا مساكن . و خير نموذج لذلك قصر خورشيد باشا الذي بني عام 1770م . و بدأت وزارة الثقافة و الآثار السودانية في ترميمه ؛ تمهيدا لتحويله إلى متحف دائم , و عن القصور نذكر منها – على سبيل التمثيل لا الحصر – قصر الشناوي , و قصر عمر عبيد , و عمارة السيد علي الميرغني , و عمارة محمد بك أحمد , وآل باكاش محمد كيل , و آل الكابلي , وآل صيام , و آل جيلاني رجب , وآل باحيدر , وآل العمودي , وآل الصافي , و آل البربري , و كثيرين غيرهم .
و قد أثثت هذه القصور بأثاثات مستجلبة من الهند , و بورما , وسيلان , التي تتميز أخشابها بالجمال و المتانة , إضافة إلى التحف النادرة , و السجاد الفاخر , الذي استرعى انتباه زوارها من السياح الأجانب , الذين أعربوا عن إعجابهم بما لم يشاهدوا مثله من قبل , إضافة إلى القصور كانت توجد دور للعبادة منها المسجد الحنفي , و المسجد الشافعي الذي أمرت بتشييده الملكة شجرة الدر , و ذلك علاوة على الكنيسة التي بنيت ليؤدي فيها الجند المسيحيون عباداتهم , إضافة إلى المرافق الخدمية الأخرى , مثل البنك الأهلي المصري , و مبنى المحافظة , و مبنى الجمارك و بوابة غردون المدخل الرئيس إلى الجزيرة .
*و من الآثار الصامدة في القيف خارج الجزيرة المحلج , و السجن المركزي الذي كان سجنا حربيا بناه الأتراك , ثم اشتراه في الثلاثنيات محمد السيد البربري , الذي سبق أن قدم من السويس لتنفيذ خط السكة الحديد . فاشترى السجن , و حوله إلى مدبغة لصبغ الثياب بعد أن جلب له العمال من مصر . وفي مطلع الخمسينيات باعه ابنه عباس إلى الحكومة الوطنية حينذاك ليتحول إلى سجن مركزي ليسجن فيه الأفراد الذين ثبتت إدانتهم في أحداث عام 1955م .
و هناك مركز ( أبو هداب ) للتراث الشعبي , وهو قرية سياحية و بوتقة شاملة , جمع فيها تراث المنطقة بجهد شخصي مقدر من السيد محمد نور هداب – ابن المنطقة و رجل الأعمال , و أحد خريجي مدرسة سواكن الأميرية , و المشارك في إدارة خدمات المينة على مدى الحكومات السابقة – فأنشاء هذا المتحف , و أتخذ نموذج باب شرق السودان مدخلا له , و نأمل أن يجد العون المادي من مواصلة مشواره لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا التراث الذي كاد أن يندثر .
أما عن التركيبة السكانية و تعدادها , فالأغلبية العظمى من سكان الشرق من البجا الذين يبلغ تعدادهم الآن 7% من مجمل سكان السودان , أي قرابة ثلاثة مليين نسمة وفق آخر إحصاء , فكان لهم حضور مستديم في سواكن عبر مختلف العصور السابقة . أما التركيبة السكانية في مدينة سواكن فتشتمل من هم من أصول هندية , و فارسية و مغربي , و عربية , و تركية , و شنقيطية , و بخارية , و إغريقية , و حضرمية , و مصريه , و حجازية , و غيرهم . و الكثافة السكانية للمدينة تزداد مع فترات ازدهارها , و تنخفض في فترات الضعف ة الاضمحلال التجاري وفق الظروف السائدة , و لا توجد إحصاءات منتظمة , و لكن هناك إشارات عرضية إلى ذلك .
ففي عام 1869م كان تعداد السكان يراوح بين ثلاثة آلاف و أربعة آلاف نسمة , وتشير بعض المراجع إلى أ، التعداد السكاني بلغ ثمانية آلاف , ثم ازداد إلى ثلاثين ألأفا في فترات الذروة و الازدهار , و في عام 1940م انخفضت الكثافة السكانية إلى أربعة آلاف نسمة , ثم ارتفعت تارة أخرى إلى 50 ألفا , و من ثم انخفضت إنخفضت انخفاضا مريعا إلى 950نسمة فقط , و هي الفترة التي تلت نقل خدمات ميناء سواكن إلى ميناء بورتسودان , و تبع ذلك فترات تأزمت فيها مشكلة مياه الشرب , و صارت تجلب من بورتسودان , و عندها صار سكانها ينزحون عنها . أما الآن فالكثافة السكانبة آخذة في الازدياد زيادة مطردة مع تنفيذ مشروعات إحيائها , التي شملت افتتاح ميناء عثمان دقنة , ونقل زرائب تصدير الأغنام إليها , و تجهيزات رصيف تصدير الغاز , و تجهيزات رصيف تصدير الغاز , و رصف طريق سواكنطوكر .
سواكن ذكريات و مشاعر
صب دمعي وأنا قلبي ساكن *** حار فراقك نار يا سواكن
الجبابرة ألهبت تثور*** بقيادة دقنة الجسور يا سواكن
آثارك في كل حين يا سواكن *** ذكرى دايمة للخالدين يا سواكن
لما أصابك جور السنين يا سواكن *** هجرنا العش الأمين يا سواكن
هذه بعض أبيات من أغنية شعبية يترنم بها أهل سواكن , ممن تراكمت على نفوسهم الأحزان, و ما من شاعر موهوب مرهف الحس حباه الله ملكة قرض الشعرإلا و تغنى بجمالها , و تشبب بطيب معشر أهلها , و هم كثر نتقي منهم الدكتور الطبيب محمد عثمان الجرتلي , و الشاعر الملهم مبارك المغربي طيب الله ثراهما .
والشاعر مبارك المغربي لا يمكن أن يجهله أرباب الاهتمام بالشعر السوداني ؛ لأنه من المبدعين .
و قد عمل ضابطا في مصلحة السجون حينا من الدهر , فساقته خطا الوظيفة إلى السجن العمومي بسواكن , فمتع ناظريه بحسن مناظرها , و سعد بطيب معشر أهلها , وطاب له المقام ، وفجأة ينصرم حبل الوصال الذي ربطه بتلك الغانية التي كان يكن لهل الودوالمودة ، على أثر جناية من جنايات العمل الوظيفي، وهو قرار نقل شهادة أخر صرفيةالتي لاحيلة له معها سوى تنفيذ النقل0 فغادرها إلى بلد لم يكن بالغه إلاَ بشق الأنفس0 فيدور الزمان وتمر الأيام سراعاً ليعود إليها تارةً أخرى زائرا ، فهاله منظر البؤس الذي طغى على ملامحها وملامح ىثارها الباليةً0 فنقبضت نفسه ، ولامس الحزن العميق نياط القلب ، فما كان من شيطان شعره إلاً أن يخرج من قمقمه ليطير محلقاً على عنان السماء ، ميمماً وجهه شطر وادي عبقر ويعود إليه بقصيدة أسماها (ذكرى سواكن ) نقتطف منها الأبيات الآتية :
حي الطلول البالية *** واسكب دموعك غالة
هذي سواكن قد بدت *** مثل العروس الباكية
إني وقفت على البِلى *** أرثي الذرا المتداعية
هل من جديد مشرق *** يحيي الرفاةالفانية؟
ويعيد مجداً قد *** مضى إذا العزائم ماضية
فاذكر على مر الزما *** ن شعور نفس وافية
لو يفتدى ذاك الترا *** ثفديته بحياتيه
قد شفني وجد بها *** ولها بذلت فؤاديه
فسرعان ما تناقلتها الألسن واصبحت تنشد في المدارس وعلى وجه الخصوص مدرسة سواكن الأميرية0 فكان وقعهاطيباً على نفوس أهلها المكلومين0 وأنا أندب حظي العاثرة إذ كان سماعي لبعض ابياتعا سماعاً عارضاً إذ شا ءالله ألاَ أكون من ضمن من تلقوا تعليمهم في تلك المدرسة0
ومنذ تلك اللحظة بدأت مشوار البحث عن القصيدة الكاملة ، واسم شاعرها المبدع حتى أتحفني بعقدها النضيد – مشكوراً مأجوراً ربيب سواكن الأخ الشاعر إبراهيم شلية فله مني الشكر والتقدير0 وبقي أن أذكر أن هذه القصيدة سيقوم بنحتها على لوح من الرخام فنان بورتسودان المبدع أبو الحسن الريح لتودع قي مركز أبوهداب للتراث البجاويي
محمد أحمد عبد الرحيم الحيرابي
الرياض
سونا سايقاً
[email protected]
نقلاً عن مجلة الفيصل # 380 صفر 1429÷ = فبراير –مارس 2008م ص ص 76 – 93
ومعذرة لحذف الصور لأسباب فنية 0


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.