حظيت الرسالة التي حملها نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي دينيس ماكدونو إلى حكومة جنوب السودان بضرورة احترام سيادة السودان ووقف دعم التمرد في النيل الأزرق وجنوب كردفان باهتمام كبير وتساؤلات إذا كانت الولاياتالمتحدة على طريق تغيير سياستها تجاه السودان واتخاذ موقف متوازن بينه وبين جنوب السودان. وفي واقع الأمر فإن مثل هذه التصريحات ليست جديدة، وفي مايو الماضي أدانت واشنطون هجوم الجيش الشعبي على الموكب الذي كانت تقوده الأممالمتحدة ومعه بعض عسكريي الجيش السوداني وهم في طريقهم إلى خارج أبيي. وفي يوليو المنصرم في تصريحات مقتضبة للأستاذ خالد الأعيسر نشرها متزامنة في كل من "الأحداث" و "القدس العربي" قال المبعوث الأمريكي برنستون ليمان إن انتخابات جنوب كردفان كانت مراقبة دوليا عبر مركز كارتر وأنهم نصحوا عبد العزيز الحلو أن يلجأ إلى القضاء إن كان لديه شكاوى حول نزاهة الانتخابات، بل بعد شهرين من تصريحه ذلك اختار ليمان "راديو دبنقا" ليطرح تصريحات أكثر جرأة أن واشنطون لا تؤيد تغيير النظام في السودان بالقوة و لا تسعى إلى فرض منطقة حظر جوي، لأن خطوة مثل هذه تعني الدخول في مواجهة مباشرة مع الخرطوم واستراتيجية واشنطون قائمة على التعاطي مع نظام الحكم في السودان، لا مواجهته. أول ملاحظة على هذا الرصد أنه يقع في خانة التصريحات التي لم تصحبها أي خطوة عملية، ثم إن من الواضح أن الجهات المعارضة التي تستهدفها هذه التصريحات مثل حركات دارفور والحركة الشعبية لم تلق بالا كثيرا لهذه التصريحات بدليل أنها انطلقت لتأسيس تحالف كاودا وأحد أهدافه الرئيسية إسقاط النظام بالقوة المسلحة من بين وسائل أخرى بعد فترة من صدور هذه التصريحات، أي أن احتمال اتخاذها موقفا مناوئا للرأي الأمريكي الرسمي لم يجعلها تتردد في المضي قدما في خططها تلك. هذان خطان مطروحان الآن على الساحة الأمريكية بشأن السودان هل تقوم العلاقة على تطبيع العلاقة بين الدولتين وخوفا من أن يؤدي التنازع إلى زعزعة الدولة الجديدة وربما تقويضها، بينما يرى الناشطون المناوئون أن ضمان سلامة الدولة الجديدة يقوم على القضاء على النظام الموجود في الخرطوم لأنه أس المشاكل. من ناحية أخرى فإن الإدارة الأمريكية على أهمية دورها إلا أنها ليست الجهة الوحيدة التي تقرر بشأن السودان، فهناك مجموعات الضغط والمنظمات المتعددة وعدد منها تجاوز الستين اتخذ مؤخرا مواقف مؤيدة لتحالف كاودا خاصة والسودان أصبح قضية داخلية تهم مجموعات النواب السود والمسيحيين وهؤلاء يشكلون قاعدة انتخابية لا يمكن تجاهلها. ويظهر هذا في أنه في أقل من شهر من تولي بوش الابن الرئاسة زار وفد من الجماعات المسيحية بقيادة شارلس كولسون مهندس فوز بوش في دورتين رئاسيتين كارل روف ليطلب منه أن تضع الإدارة معاناة المسيحيين في جنوب السودان في رأس اهتماماتها، وهو ما فعلته إدارة بوش عبر السنوات الثماني التي قضتها في البيت الأبيض، رغم أن السودان لا يشكل أولوية سياسية أو اقتصادية أو أمنية للمصالح الأمريكية. وتزداد أهمية هذه المجموعات بوجود بعض الشخصيات الفاعلة من أعضاء الكونجرس أمثال فرانك وولف ودونالد باين والنجم السينمائي جورج كلوني الذين يجدون تعاطفا من بعض الشخصيات الرسمية مثل سوزان رايس ومن ثم يدفعون الإدارة باتجاه مواقف قد لا تكون محبذة من قبل الدبلوماسيين المحترفين. وكانت إدارة بوش تفكر في إسناد مهمة مبعوثها إلى السودان بداية إلى الديبلوماسي القديم شستر كروكر قبل جون دانفورث، لكن الرجل طالب أن تلتزم الإدارة بدعمه في مواجهة مجموعات الضغط المختلفة، وعندما لم يحصل على ذلك الالتزام اعتذر عن تولي المنصب. والأمر لا يقتصر على السودان وإنما يعود إلى طبيعة النظام الأمريكي نفسه. ومهمة وزير الخارجية كما كان يقول جيمس بيكر وزير خارجية جورج بوش الأب أن يكون رسول الرئيس لدى الديبلوماسيين، وليس مندوب الديبلوماسيين لدى البيت الأبيض. عند قيام دولة إسرائيل جمع الرئيس وقتها هاري ترومان مستشاريه ليبلغهم قراره أنه يعتزم الاعتراف بالدولة الجديدة فورا، لكن البعض تصدوا له قائلين إن هناك وعدا من الرئيس السابق فرانكلين روزفلت للملك عبد العزيز آل سعود ألا تخطو واشنطون أي خطوة انفرادية قبل التشاور معه، وكان رد ترومان سؤالا عن عدد الأصوات والتبرعات العربية التي ستدخل الانتخابات الأمريكية، وعندما جاءت الإجابة بلا شيء كان قراره المضي قدما في الاعتراف بإسرائيل وألا يلقي بالا بالتزامات سلفه للعرب. هذا الاهتمام بالعملية الانتخابية وجماعات الضغط تصاعد حتى كاد أن يشل النظام السياسي الأمريكي نفسه ويقعد به عن مواجهة قضاياه الحيوية. ففي عام 1973 في مواجهة الحظر العربي للنفط على الولاياتالمتحدة التزم الرئيس وقتها ريتشارد نيكسون بالعمل على تخفيف اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط الأجنبي حماية للأمن القومي. ومن ذلك الحين تعاقب الرؤساء من جمهوريين وديمقراطيين منهم من قضى فترة ومنهم من أمضى فترتين رئاسيتين ولكل سياسة معتمدة تسندها مراكز أبحاث وخبرات مختلفة لخفض الاعتماد الأمريكي على النفط الأجنبي. والنتيجة أن نسبة الاعتماد تلك ارتفعت من 36.1 في المائة في عهد نيكسون إلى 66.2 في المائة على عهد أوباما لأن الرؤساء لا يجرؤون على القيام بالجراحات المؤلمة وأعينهم على الانتخابات المقبلة. السودان ليس في وارد أن يكون له دور على الساحة الأمريكية بما يعطيه ثقلا عند صانع القرار، حتى الجهود التي بذلتها دول عربية أخرى حققت نجاحا محدودا في أفضل الأحوال، هذا بالإضافة إلى صورة السودان التي ارتبطت بالحروب الأهلية وتبعاتها التي تجعل من الصعب إيجاد مدافع عنه، وتظل نقطة جذب للاهتمام الأمريكي كون الولاياتالمتحدة الأكثر إسهاما في العون الإنساني. على أن معركة السودان الأساسية ليست في واشنطون، إنما في داخل البلاد. والسياسة الخارجية في نهاية الأمر انعكاس لما يجري في الداخل. فكل ما يمكن أن تقوم به واشنطون يظل محدودا متى ما تعاظمت اللحمة الداخلية، وهو ما ينبغي أن تتجه إليه الجهود بدلا من التشكي من الظلم الأمريكي المستمر.