يدور حديث كثير عن ضرورة وجود دستور جديد خلفا لدستور 2005 بعد أن انفصل الجنوب وأصبح من الضروري وضع دستور للمرحلة المقبلة وليس ترقيع الحالي. وسواء جاء هذا الدستور انتقاليا كما يريد البعض لحين قيام انتخابات عامة جديدة أو الاتفاق على دستور دائم يتفق عليه الجميع فهذا متروك للحوار حوله بحرية وجدية كاملة فالدستور هو فى جوهره عقد اجتماعي بين كافة مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وطبقات المجتمع الاقتصادية. يجب أن يضعه ويتواثق عليه الجميع دون فرز حيث يشكل الإجماع الوطني الركن الركين فيه. والدستور- أي دستور سواء كان مكتوبا أو غير مكتوب - هو الحاضن السياسي والأطار القانوني لكل مرتكزات الشعب والقواسم المشتركة فيه، فهو الذى يحدد المبادئ الموجهة للدولة وطبيعتها وهو الذي يحفظ الحقوق ويحدد الواجبات التى هي تنشئ المواطنة وليس أي انتماء آخر فى ظل نظام مدني وهو الذى يبني الأساس للحكم الرشيد والممارسة الديمقراطية الصحيحة والتداول السلمي للسلطة وسيادة حكم القانون والفصل بين السلطات الثلاثة (تشريعية وتنفيذية وقضائية) ويفصلها ويكرس الحريات العامة وينظم الحياة العامة وهو الذى يكرس العدل فى توزيع السلطة والثروة وهو الذى يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها والنظام الأداري للدولة ..هذه وغيرها من مواد دستورية هى التى يحتاجها أي مجتمع متحضر اليوم حتى لا تسود فيه شريعة الغاب وتتحكم فيه قهرا قوة على أخرى وإلا أصبحنا نعيش فى مجتمع لا ضابط ولا وازع ولا نظام. هذا كله صحيح ومطلوب ومرغوب من الدستور ولكن ينشأ هنا سؤال أساسي: هل مجرد وضع دستور انتقالي كان أو دائم هو الذى يحقق الاستقرار والازدهار والحكم الرشيد أم هناك متطلبات ومدخلات سياسية وفكرية هى التى تأتي في المقام الأول حتى قبل الشروع فى وضع الدستور؟ الشاهد أننا فى السودان قد قمنا بكتابة حوالي سبعة دساتير جلها انتقالي وأخرى ادعت الأنظمة التى وضعتها أنها دساتير دائمة ولكنها سرعان ما (انتقلت) بمجرد ما ذهب نظام وجاء آخر أو بتغيير الأوضاع السياسية حتى داخل النظام نفسه.. من المؤكد أننا نحتاج قبل الدخول فى عملية وضع دستور أن نتعظ بتجاربنا السابقة ويتعين علينا أولا أن نكرس الثقة بيننا جميعا ونتجاوز حالة الخوف المتبادل بين جميع القوى السياسية فهذا الشعور هو الذى جعل جميع دساتيرنا السابقة مجرد عبارات وأوراق سرعان ما نخرقها عند أول خلاف فكري أو سياسي أو إحساس أو ظن خاطئ بأن الآخر يتآمر عليه فإما ننقلب عليه ونبعده أو نثور ضده ونطيح به ويكون الدستور أول ضحايا التغيير ومن ثم تتكرر الحماقات. إننا فى حاجة أولا الى تكريس الثقة بيننا ونودع الى غير رجعة المكايدات السياسية ونكرس ثقافة السلام الاجتماعي والسياسي واحترام الآخر ونتعلم كيف ندير التنوع القائم وكيف نمارس الديمقراطية الصحيحة الراشدة ونفهم معنى وثقافة الديمقراطية ومغزى الحرية حتى لا نفرط فيها. وليتحقق ذلك فنحن فى حاجة ماسة أولا لمؤتمر للمصارحة والمصالحة مثلما حدث فى جنوب افريقيا ونكرس التراضي وافتراض حسن النية فى الآخر ثم بعد ذلك نعمل على الاتفاق على القواسم المشتركة والحد الأدنى من الاتفاق على طبيعة وشكل النظام وضبط المصطلحات وبهذا نرسي قواعد متينة للدستور ونتواثق على إخلاقيات إيجابية للممارسة السياسية.. دون ذلك فمهما كتبنا من دستور انتقالي أو ادعينا أنه دائم فسرعان ما تدور علينا الدائرة. وهل بعد تمزيق الوطن واستمرار الحروب الأهلية من فائدة فى دستور أيا كانت طبيعته وشكله؟