لم أتمكن من تلبية الدعوة لحضور الندوة حول الدستور الإسلامي التى أقامها مركز دراسات المستقبل أمس بسبب استجابتي لنصيحة الطبيب الالتزام بالراحة بعد الوعكة الأخيرة. غير أني رأيت ألا تفوتني فرصة التعليق. لقد وصلت الى قناعة كاملة بعد طول متابعتي اللصيقة للحراك السياسي فى البلاد منذ عام 1965 حين طرحت قضية الدستور الدائم فى مرحلته الثانية عقب الاستقلال.. قناعة بمقولة الزعيم البوسني المرحوم علي عزت بوكوفتش حول الدستور حينما سأله أحد الصحفيين عما إذا كانوا سيطبقون الدستور الإسلامي بعد استقلالهم عن يوغسلافيا فقال الحكيم بوكوفتش سنتبع (الدستور العاقل). الدستور هو العقد الاجتماعي لأي مجتمع ووطن وهو الوثيقة الجامعة والقانون الأساسي الذي يشمل القواسم المشتركة والحد الأدنى للاتفاق والتوافق السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع يريد أن يحقق الاستقرار والازدهار عبر الحكم الراشد وسيادة حكم القانون ودولة المؤسسات والممارسة الديمقراطية والمشاركة للجميع دون فرز وإقصاء لأحد أو فئة ويكرس العدالة والشفافية وشكل الدولة ومبادئها العامة خاصة فى الحريات العامة ونظام الحكم والمواطنة كمنشأ للحقوق والواجبات.. الخ.. ليس المهم أن يكون الدستور مكتوبا أو غير مكتوب فذلك حسب تاريخ وثقافة ومستوى الشعوب ولكن المهم أن يكون الدستور (عاقلا) يحقق ما ذكرنا من مبادئ ومدخلات للحكم الرشيد وليس دستورا (ناقص العقل) يقوم على قدم التحكم وساق الاستبداد بالرأي الواحد أيا كان نوعه (علمانيا، إسلاميا أواشتراكيا) فالله لم يشأ أن يكره عباده. للأسف وفى غمرة الصراعات الفكرية والسياسية منذ الاستقلال وغياب العقل وقلة التجربة فشل السودانيون خاصة قياداتهم الحزبية بمختلف أنواعها فى وضع دستور دائم يكرس الاستقرار والوحدة والديمقراطية فالازدهار، وكانت الشعارات والمكايدات السياسية والدورة السياسية الخبيثة هى التى منعت وضع ذلك الدستور. والغريب فى الأمر أن مشروع دستور 1968 كاد أن يصل لاتفاق قومى لولا المماحكات حول ثلاثة قضايا حسمتها تطور الأحداث وتجاوزها التاريخ فقضية الجنوب كأقليم واحد انتهى الى فدرالية فانفصال وميلاد دولة جديدة وقضية الشريعة كمصدر للتشريع لم تعد مجال خلاف وقضية الاعتراف بالحزب الشيوعي الذى حلته الأحزاب بخرقها لدستور 1956 المؤقت لم يعد مجال خلاف سيما فى وقت انقسمت فيه الحركة الإسلامية السودانية بين متحالف لحزب شيوعي صيني وآخر سوفياتي لا يجدان فى ذلك حرجاً!! كل المطلوب الآن هو جلوس الجميع لبناء ثقة من خلال مؤتمر مصارحة ومناصحة ومصالحة تاريخية للاتفاق على القواسم الدستورية المشتركة والحد الأدنى لوضع دستور دائم يحدد شكل الحكم ونظام الدولة ثم التوافق على النظام الانتخابي المناسب حتى ننتقل لمرحلة جديدة يتمكن فيها الشعب أن يعطي ثقته للبرنامج والشخوص والأحزاب التى يراها أحق بإدارة شئونه من خلال انتخابات حرة وصادقة ونزيهة وشفافة..القضية ليست صعبة إذا تسامى الناس فوق جراحاتهم وجعلوا مصلحة الوطن فوق مصالحهم الشخصية والعصبية الحزبية والجهوية والقبلية.. هل نفعلها أم سبق علينا القول؟ حميد.. ضمير الشعب.. رحمك الله رحم الله الشاعر العظيم محمد الحسن سالم حمّيد الذى كانت سكته (بياض النية) وشعره يحرك الوجدان السوداني.. لم يكن حمّيد يسكن السودان بل السودان يسكن فى عقله وقلبه وجوانحه شعرا شعبيا رائعا يعانق النجوم فى السماء ويسبح فى النيل ويتحرك فى الأرض يملؤها حبا وحنانا وثورية. آخر مرة استمعت إليه عندما شرفنا وأكرمنا فى ليلة دعم الثورة السورية بمركز راشد دياب الذى ظل حضنا دافئا للثقافة ومباءة لكل الناس بمختلف مشاربهم وهمومهم (أكثر الله من أمثاله).. رحم الله شاعرنا بقدر ما قدم لوطنه وللأدب والشعر والمسرح..