جميل أن توجه رئاسة الجمهورية الدعوة لقوى سياسية للتداعي لمناقشة وضع دستور جديد بعد أن صار دستور 2005 في حكم المنتهي بانفصال الجنوب و الذي كان السابع في الدساتير السودانية منذ الاستقلال، وأصبح لا يلبي أوضاع البلاد الحالية، ولا تطلعات السودانيين لمستقبل زاهر من خلال أوضاع مستقرة ودولة مدنية ديمقراطية موحدة، وحكم رشيد وعادل، واقتصاد مزدهر، سيما بعد الربيع العربي الذي انتظم المنطقة العربية. وحيث أن هناك رغبة في وضع دستور جديد يشارك فيه الجميع ولا يعزل فيه أحد أو كيان سياسي كما ذكر السيد رئيس الجمهورية لدى مخاطبته الجلسة الأخيرة، وأكد ذلك كل المشاركين في الدعوة فإنه من الضروري أن ندلي بدلونا، ونتمنى أن يكون هذا التوجه توجها حقيقياً وليس تكتيكياً للاستفادة من الزمن، كما كان سابقاً الذي كرس تباعداً وصراعات مستمر والمزيد من عدم الثقة، حيث لا تنفذ مخرجات تلك اللقاءات ولا الاتفاقات أو العهود الأخرى المتعددة مع الأحزاب موضع التنفيذ. لاحظ مراقبون واحتج بعضهم أن الاجتماع الذي عقد في منزل الرئيس لم يشمل قوى سياسية معتبرة، ولا نسبة كافية لمؤسسات المجتمع المدني أوالخبراء الدستوريين وأهل الرأي الآخر، حيث غلب على الاجتماع أحزاب كثيرة لم يسمع بها الناس، وأطلقوا عليها تندراً ( أحزاب الفكة) فجاءت مساهماتها في الاجتماع سطحية وأحيانا خارج السياق.!! غني عن القول أن الدساتير السبع التي كتبت وطبقت في السودان منذ الاستقلال تراوحت بين دساتير مؤقتة وضعت لسد ثغرة التشريع، وشكل نظم الحكم الديمقراطي التي قامت سواء كان عقب نيل السودان استقلاله عام 1956 فعقب ثورة أكتوبر 1964 أو مشروع دستور 1968 أو انتفاضة أبريل 1985وكلها وضعت في أنظمة ديمقراطية. وهناك دساتير صدرت في أنظمة غير ديمقراطية مثل دستور 1973 ودستور 1998 و دستور 2005، وللأسف جميع هذه الدساتير لم تلب طموحات الشعب، كما لم تؤد إلى الاستقرار أو الوحدة ولا الحكم الرشيد و النظام الديمقراطي الراسخ والتبادل السلمي للسلطة أوحل مشاكل السودانيين المعيشية، بل تراوحت بين ديمقراطية حزبية ضيقة أو سلطوية قابضة، فشلت جميعاً ولم تنه الدورة السياسية الخبيثة.. هذا إذا استثنينا دساتيراً مؤقتةً أو قوانيناً كانت في حكم الدساتير المنظمة لأنظمة الحكم صدرت قبل الاستقلال، بل منذ اتفاقية الحكم الثنائي عام 1899 وقانون المجلس التشريعي والجهاز التنفيذي الذي نشأت على أساسه الجمعية التشريعية عام 1948 وقبلها المجلس الإستشاري لشمال السودان، وأخيراً دستور الحكم الذاتي لعام 1953، ثم هناك قانون الحكم المركزي ونظام المديريات الذي نشأ بموجبه المجلس المركزي إبان نظام نوفمبر 1958 -1964. معلوم للكافة أن لجميع الأحزاب السياسية السودانية الدور الأساسي فى نسف الدساتير منذ تسليم رئيس وزراء حزب الأمة السيد عبد الله خليل الحكم للعسكر، مروراً بانقلاب مايو 1969 الذي قامت به قبائل اليسار من شيوعيين وناصريين وبعثيين، وأخيراً انقلاب الحبهة الإسلامية في يونيو 1989،، أقول كثرة هذه الدساتير التي كرست الصراعات السياسية غير المجدية والإنقلابات غير الضرورية، وفشل أنظمة الحكم التي قامت على أساسها، دفعت غالب الشعب لعدم الإكتراث بها، وأكثر ما أخشاه ألا ينفعل غالب الشعب بهذا الدستور الذي نحن بصدده فيأتي معزولاً في ظل أوضاع معيشية ضاغطة، فالمواطن يقول أنه لا يأكل ويشرب لمجرد كتابة الدستور، ولا يتعلم أو يتعالج به.. ولكني أقول يفترض في الدستور أن يكون الحاضن السياسي المناسب ويهيئ المناخ السياسي الأيجابي؛ ليكرس الاستقرار والحكم الرشيد والعدل والتوزيع العادل للسلطة والثروة وحسن توظيف الموارد، ويكرس الشفافية ودولة سيادة القانون، فتتوقف الصراعات ويقل الفساد وسوء استخدام السلطة والثروة، ويسهم في استقطاب الاستثمارات بما يكرسه من مناخ إيجابي، وتتمكن الحكومات المتعاقبة التي تجيئ عبر انتخابات حرة وصادقة وشفافة ونزيهة وتتبادل السلطة سلمياً من توجيه الموارد لمكافحة الفقر والبطالة وتحسين الأوضاع المعيشية وتقوية الاقتصاد، أما أن يجيئ الدستور فقط للمزيد من تكريس السلطة والاستمرار فيها دون تغيير وإضفاء الشرعية للنهج السياسي الخاطئ والممارسات الفاشلة وكسب الوقت، فذلك مما يحبط الناس، فلا يكترثون لأي دستور جديد، ومن ثم ينفتح الباب للدورة السياسية الخبيثة، وتكون الثورات السياسية أوالمسلحة هي الطريق الوحيد للسلطة. جميل أن يؤكد السيد رئيس الجمهورية واتفق معه كثير ممن شارك في اللقاء على ضرورة أن يشمل الدستور القادم الجميع في صياغته دون استثناء، ولكن يبرز سؤال مهم ومفصلي هو؛ ما هي استحقاقات ذلك؟ وما هي الآلية للدستور ( الدائم) القادم؟ فالشاهد أن جميع اللقاءات السابقة منذ مجيئ الإنقاذ وكل مؤتمرات الحوار والاتفاقات السياسية مع الأحزاب الشمالية لم تجد طريقها للتنفيذ الحقيقي والصادق والشامل، اللهم إلا اتفاقية نيفاشا؛ لأنها جاءت برعاية وإرادة دولية، وكأن هذه الإرادة الدولية هي أهم من الإرادة المحلية. إن استحقاقات وضع دستور دائم تبدأ بتهيئة المناخ السياسي بقرارات وإجراءات إعادة وتعزيز الثقة بين جميع السودانيين وليس مجرد الدعوة اللفظية أو الأحاديث والاجتمعات الحاشدة، تقال وتقام بالليل فيمحوها النهار، تخضع لإرادة بعض النافذين فى الإنقاذ، لا يريدون وضعيةً سياسيةً مناسبةً وإصلاحاً حقيقياً وتطويراً للنظام بدستور يشارك فيه و يقره الجميع فيلتزمون به، فالشاهد أن هناك قناعة عامة أن مثل هذد اللقاءات هدفها كسب الوقت ريثما تمر عاصفة سياسية هوجاء وأوضاع اقتصادية خطيرة أو لتمرير دستور يكرس المزيد من السلطة والتحايل للتمديد للحاكمين رغم أنف الدساتير السابقة. إننا نحتاج لقرارات سياسية جريئة وصادقة و حقيقية لتطوير النظام السياسي القائم بديلاً عن المسكنات السياسية، وبديلاً أيضاًَ عن إسقاطه تماماً أو استمرار الوضع القائم اللذان يضران بالعملية السياسية برمتها ويكرسان احتقاناً سياسياً وقناعات للمعارضين سياسياً أو بالسلاح في العمل الدؤوب لإسقاط النظام و بالتعاون مع الخارج بدلاً عن الدخول في عملية سياسية إيجابية داخل الوطن يحقق للجميع دون فرز ما يصبون إليه من حقوق كاملة ليؤدوا واجبهم تجاه الوطن والمواطن بالأمانة والكفاءة اللازمة. ولعلي لا أتجاوز الحقيقة إن قلت أن أول مستحقات الدستور الجديد هو تهيئة المناخ السياسي الإيجابي من خلال حوار شامل وصادق مثلما حدث فى جنوب إفريقيا وغيرها لنتصارح لا نتصارع، و لنتبادل الآراء بكل شفافية وصدق، ونستفيد من سابق ممارساتنا السياسية السالبة التي أدت لهذه الدورة الخبيثة، فالحقيقة أننا جميعاً دون فرز؛ حاكمون أو معارضون، أو حتى مستقلون، قد أسهمنا فيما نحن فيه بنسب قد تتفاوت، فلا يدعي أحد أو جهة أنها مبرئة منذ الاستقلال حتى اليوم.. هذا يتطلب مؤتمراً جامعاً للحوار الصريح الصادق و المنتج وليس لإعادة إنتاج الأزمة والإدعاءات والتبريرات غير الصحيحة، ثم يعقب ذلك الآلية التي تؤدي إلى مزيد من بناء الثقة وتعزيزها بواسطة ديمقراطية توافقية من خلال تكريس الحريات العامة وإقامة حكومة واسعة التمثيل، أساسها الكفاءة والحيدة والقومية، وليس المحاصصة الحزبية أو الجهوية أو القبلية، ولا بأس من تمثيل رمزي للقوى السياسية بهدف مشاركة الجميع في الجهازين التنفيذي و التشريعي بعد حل مجلس الشعب الحالي، وتعيين شخصيات جديدة بدلاً عنه من خلال التوافق بين القوى السياسية والمجتمع المدني والعسكري لمراقبة الحكومة الإنتقالية، ولضمان تمثيل الجميع، فإذا اقتنع الناس بذلك فيتعين أن يشارك حَمَلة السلاح والمعارضون حتى نضمن أن تأتي العملية السياسية والوضعية الجديدة مؤهلة لتكريس الاستقرار والوحدة والحكم الرشيد.. ألا نفعل ذلك ونكرس المراوغة؟، فلن أندهش إذا حدث ما لا يحمد عقباه، ويقيني لو استفادت حكومة الإنقاذ من اتفاق التعاون المشترك الجيد الذي وقعه الرئيسان البشير وسلفاكير في أديس أبابا مؤخراً، فيمكن أن يكون مدخلاً لاتفاق وطني في السودان الشمالي ومدخلاً للاستقرار والازدهار، وأتمنى ألا يكون مدخلاً للشيطان فيعتبره بعض المسئولين فرصة جديدة للتحكم من جديد والانفراد بالدستور، فأهل السودان أولى من غيرهم. وبالله التوفيق.