في السودان اصبح الكثير من المبدعين خارج شبكة معرفة الناس بهم وذلك ليس بسببهم ،بل بسبب طشاش الشبكة العامة وانتفاء التقاليد الاعلامية في مقدار ومدى تسليط الضوء على المبدعين، وباختصار هذا هو الزمان الذي تحدث عنه الشاعر"هذا زمانك يامهازل فامرحي قد عُد كلب الصيد في الفرسان"! واذكر عند رحيل الفنان عبد الدافع عثمان نشرت خبرا في صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" عن هذا الحدث وفوجئت برسالة وسؤال في شكل استنكار "عبد الدافع عثمان يعني منو"؟ وقبل عدة ايام انتقل الى الرفيق الاعلى الشاعر عبد الله شرفي فمرّ رحيله على معظم الناس –مرور الكرام- رغم ان الجميع يعرف اغنياته وعلى رأسها"بعد ده كلو كمان بتبكي". ومن المواقف العالقة بالذاكرة أن الفنان محمود علي الحاج جاء الى الاذاعة ذات مرة للقاء الاستاذ معتصم فضل لتسوية موضوع يخصه ،لكن لم يتعرف عليه احد بدءا من الاستقبال وحتى سكرتارية مدير الاذاعة لم تتعرف عليه مما حز في نفسه كثيرا ،ويمكن ان يغفر للناس عدم معرفة المبدعين في صورهم واشكالهم ،خاصة الرواد البعيدين عن الاضواء ،لكن ترتقي المشكلة الى درجة الكارثة اذا لم يتعرف الناس على ابداع المبدع ،بل الاكثر مرارة من ذلك نسب أعماله للمقلدين الذين يعتدون عليها ادبيا وماديا ويقتلونها في الاداء، ويكسبون من جراء ذلك الملايين في الوقت الذي لا يجد صاحبها الاصلي الحد الادنى من الثناء والتقدير ،بل حتى معرفته! الاسباب التي تقود الى هذا الواقع كثيرة ،لكن ابرزها يجسده بيت الشعر الجاهلي "ونجهل فوق جهل الجاهلين" ولا يخفى على احد ان المؤسسات الاعلامية والابداعية تفتقد الى الخبراء العارفين باقدار المبدعين ،وتشهد انقطاعا مخلا في الاجيال وكثير من الزملاء – ولا ابريء نفسي منهم - لايعرفون مقادير المبدعين ،كما ان الاذاعة والتلفزيون لهما دور كبير في هذه التجهيل لانهما لايقومان بتعريف البدعين عند بث اعمالهم وفي كثير من الاحيان يعجب الناس باغنية تبث عبر التلفاز او الاذاعة دون ان يعرفوا الفنان الذي يؤديها، ناهيك عن شاعرها وملحنها . الأمر الاخر يقع فيه المبدعون انفسهم ،حيث يتصف معظم مبدعي بلادي بالزهد الشديد في الاضواء واحتقار الذات المبدعة في زمن اصبح فيه الترويج فنا له اصوله واسسه المهنية ، وربما يضاف الكسل الى هذا الملف أو ضيق ذات اليد أو انتشار العادات السالبة في التعامل مع الامور الجادة. وفي نفس الوقت يملأ الفراغ الانتهازيون وعديمو الموهبة وتنتشر الشللية والمحسوبية ،يضاف الى ذلك انتشار اجهزة البث الرقمية الحديثة عبر الشبكة العنكبوتية وهنا يتم البث دون اي التزام مهني لذلك يختلط الحابل بالنابل. وخلاصة الامر إننا نفتقد للتوثيق الصحيح والشامل سواء كان ذلك في اجهزة الاعلام المختلفة أو في مختلف دروب حياتنا الخاصة والعامة، والاقصاء والتجاهل الذي يحدث للمبدعين تكون نتيحته الحتمية مخالفات واضحة فيما يخص حقوق الملكية الفكرية وهزائم معنوية تتسبب في دعم تيار الاحباط الذي يجرف معه الحوافز المادية والمعنوية وهي الزاد الضروري لرحلة اي مبدع.