كان قريبا منهم...كان قريب من القلب! بقلم/ د. مبارك بشيرُ فاتحة: يا مُحمدْ....... صوتُك العملاق فوقَ الارض والنخلِ وتحِت التُرب معطاءُ تَمددّ فتوجّد مِلثما شئتَ توجّد! لك في قلبى وقلوَبَ الناس مَهد فتوجّد! كبساط المجدِ مبسوطاً على الريح تمدّد وتمدّد..... وتمدّد! سطع الناس شموساً في سماء القحطَ واليأس وغنّوا يا صديقَ العُمر شوقاً للبشارة صوتك العملاقُ يزجيها اشارة للذى ينتظر الانسان في السودان لما يثمر البرق ثماره فتوجّد....وتمدّد...وتجدّد وتوحد، بالذى يأتى مجيداً، وجديداً عِمْ صباحاً، يا مُحّمد عِمْ شتاءً ثم صيفاً وخريفاً.. وربيعاً يتجدد يا مُحّمد، يا مُحّمد، يا مُحّمد "على عبد القيّوم" (1) النساء في ساحة الموت، كالازهار في الحديقة. جئن لوداعك...دونما استئذان، من أحد. أىّ أحد! متى كانت تلك "المراسم" الواجبة، وقفاً على الرجال؟! النساء في تمام زينتهن، يرتدين أزياء شتى لا تخلو من حشمة ووقار. رهبة الموت، كانت تطوف...تطوف. النساء، حضرن وداعك علناً، وعلى رؤوس الاشهاد! يا محمد...يا محمد...كن كالأزهار في الحديقة، تحولت مقابر فاروق، التى تتوسط المدينة "الخرطوم في حفلك السماوى الاخير، الى "تظاهرة" بغير دعوة من احد، وهكذا دوما، حزينة حزينة، "دايما تسافرى بلا تصاريح السفر".. آه،.. يا سُهد النساء الحبليات صباح التاسع عشر من فبراير، الفين واتناشر...كان الرجال معصوبى العيون، يرخون ستائر الدمع، على نواصى المقبرة "ورجعت خليت الدموع يرتاحوا منى ويترلوا"!...آه، يا عصافير الخريف...! (2) كان قريبا منهم .... زمرة اصدقائه، مبدعين وغير...ربما كانوا من فصيلة القياثر والمزامير....وربما كانوا معشر المتلقين. أو من المؤلفة قلوبهم على محبة الوطن، الغارق في الاحزان...."ولا الحزن القديم انتى...." وربما كانوا من غمار الناس. حسبه، مقولة، تزعم ان "رجل الشارع العادى.. غير عادى"..غير عادى جدا. يشهد اكثر من عمل فنى كيف استطاع ذلك "المغنى المستحيل"، تحويل تلك الكلمات البسيطة التراكيب، السهلة الخاطر/ التى يتواتر الخلق على مداولتها، في حياتهم اليومية، تحويلها الى اعمال مدهشة، للحد البعيد. النساء الثكالى، كالازهار في الحديقة. "كان وجه الموت مشهورا على حد السلاح، والفتى السمح المحيا، اشرقت عيناه طهرا كالصباح...."كان قريبا منهم...! (3) كنا طلابا في مبتدأ دراستنا، ب"الجامعة الأم" ...زمانئذ! كنا، مثل كثيرين، من رفاق جيلنا، نحلم بكتابة الشعر في عيون "الحبيبات الجميلات المستحيلات"، وتغيير النظام المدرسي والمناهج القديمة، والمقررات المجازة، منذ زمان طويل، واثراء الحياة الجامعية، بديلا للصراع والاحتراب. كنا نحلم، اضافة، بتغيير "الوضع القائم"..ليمتد الحلم، بامتداد الافق، الذي ران على الكون، ذاك...وربما من وهج الصبا، وقتذاك، الى "تغيير العالم" باسره. المصادفات السعيدة، كيف تُرى الحنة يا الهى؟ دعانا محمد على...كابتن محمد على عبد الله "كدرمة" الراحل الشهيد كبير القباطن، فيما بعد، كان قريبا منه بينهما من اواصر فوق الوصف. بيت "محمد على" على مقربة من داخليات الجامعة.... في الجهة الشمالية الغربية لحى المطار... وكانت "الميرى" زمانئذ تهدى منسوبيها من شاغلى الوظائف الانيقة، تلك البيوت الانيقة ذان الحدائق. وكانت "سودانير" في غاية الانضباط والالتزام، والسمعة العالية السنام. جمعنا كابتن "محمد على" "ذلك الفارس حياه الغمام"، بمحمد وردى كان نهارا رائعا، يتحلله تعارف مستدام. "اى الاناشيد السماويات، لم نشدد لاعراس الجديد بشاشة اوتارها"!.. في ماتم "محمد على" بمنزله بحى الرياض، جلست على مقربة من محمد وردى طوال النهار. كان النهار مثقلا بالفجيعة المباغتة. كان الاصدقاء يمشون جيئة وذهابا، على "وتر مشدود" وكانت المعزيات ينثرن على الثياب روائح الفقد الجميل. وكان وردى اشقى الناس جميعا، برحيل "محمد على" الفجائي كان عزيزا علينا جميعا...نعم...نعمين...غير انه كان بالنسبة لوردى .."اعز الناس"..كان قريبا منه! (4) كتب "الشاعر" في سنوات "الفقد العام"، بوح "نشيده الخاص"..."انشد وداعها السهاد/ قبل حلول الفاجعة/ قبل هبوط الليل بالاخوان والشظايا/ قبل مطالع الصباح، حيث لا تنام شهرذاد/ خوف دبيب الموت في افئدة الضحايا!/ مكان تهبطين.../ يلتقى الانسان خله الوفى/ زمان تهبطين.../ تبدا الشمس مسارها اليومي/ ويهبط المساء في دمى/ وفي الكواكب المجاورة/ ثم لا يكون في القلب/ سوى غرامك البهى/ فارتحلى كما تهوين في العيون والحقائب المسافرة/ مكان تهبطين تلتقين بى/ زمان تهبطين، تصبحين لى/ اذن تماسكى بجانبى/ ولا تسافرى!"هل غادر الشعراء من...!؟، والمغنون ببابك...وانت ايها "الملك المغنى" مسجى على مفاصل السرير الخشبي، فوق الوسائد الملونة، ملتفا بعلم الوطن..."وطنا البى اسمك كتبنا ورطنا" محمولا على الاعناق..."كما كنت دوما" محفوفا بتكبيرات الرحمن....والتهاليل والمواويل المناديل الملوحة...كما كانت" الى حبيب بعيد" و..." تانى قام واحد جميل في بلدنا مات" لا يا عزيزنا الحردلو..."تانى قام اجمل جميل في بلدنا مات"...كان صباح الاحد دافئا، على غير العادة في خاصرة الشتاء...كان الصباح صحوا كما ضمير الشعب "ايمانا وبشرى"!. دوت "صافرة الاسعاف" ايذانا بالرحيل.. الرحيل العظيم، ابتداء مقابر الملك في استقبال الملك آخر ملوك السودان القديم!وانت...انت محمولا على اكتاف الرجال..."اكل الاكتاف حديد المسئولية"...مجدولا على دموع النساء الهواطل على امتداد الوطن في خارطته القديمة"، لا تنقص شبرا واحدا، على الرغم من زلزال التاسع من يوليو في العام الراحل، صباح الخير ....ايها الحزن...."يا مرمى تحت الشمس زى غيمة ضلية". في موسم الهجرة الى الجنوب. يصطحب اهل شمال الشمال القادمين على،متون القطارات والحاملات واللوارى في متاعهم مع "الزوادة" وثمار النخيل والشهادات المدرسية يحملون تذكاراتهم القديمة عميقا في الذاكرة. المثقلة بالدعوات والتعاويذ والاغانى والطنابير "التصحى الكانو نايمين". في انتشارهم الموضوعى، بحكم المواطنة في كافة ربوع السودان القديم "في الوسط والغرب والجنوب" (الذي رحل جنوبا) رغم ان الشاعر الفحل محمد طه القدال مع عقد الجلاد اوصانا بتفادى المطبات العاطفية في الحزن القديم....فصدح (انا ما بجيب سيرة الجنوب)....... اهل شمال الشمال بغنوا "فوق عديلهم" وفق المزاج الشاعرى على عبد القيوم "ووحياتك بشم ريحة الجروف مغسولة بى لهب القناديل، واشوف شفع باشروا للقميرة التايهة دورين بالمناديل، يلعبوا فوق تلال خديك مرجيحة ضفيراتك" بسيماتك!" كان الراحل على عبد القيوم، قريبا جدا جدا، من ذاك "المعنى المستحيل" والفنان الذكى يحتفى كثيرا بالشخوص المبدعة، واصدقائه من الشعراء والكتاب والعلماء والموسيقيين والمهنيين، شريطة ان يكون للوطن الجميل في عيونهم الق، وان يكون لهم (في خدمة الشعب عَرق) عندها تتحول لقاءاته معهم، الى جلسات استماع وتفاكر ومثاقفة ومشروعات لاعمال ابداعية جديدة، من هنا ومن هناك.. نمت في دواخله بزور الموقف الاجتماعى المواكب لمسيرة (البلد الكبير بالحيل) زمانئذ في حالاته المختلفة، بين قطبى الصعود والانكسار "على عبد القيوم" كان قريبا منه ، لدرجة الهام القصائد التى تطلع من القلب...تماما. (6) كان..."كبساط المجد مبسوطا على الريح...تمدد.." على اركان المعمورة..وهكذا تاتى اختياراته الفنية و الاجتماعية، على نحو مختلف، غنى لمدارس مختلفة من الشعراء. حفل بستان "وردى " طليلة مسيرته الابداعية بالورد والازاهير في تنوع متعمد،...ربما تنوع الوطن المتعدد الثقافات والمناخات... ربما!...من السهل البسيط والممتنع...حتى الاغانى ذات القوام السمهرى والاناشيد التى غدت جزاءاً غاليا في التاريخ الثقافي والاجتماعى للسودان المعاصر. كان الوطن قريبا منه، وظل حتى رحيله ليلة الثامن عشر من فبراير، قريبا من القلب! "نواصل"