باغت الناس برحيله العنيف وهو النسيم الشفيف وفوح أريج الأزاهر وهمس نخيل الشمال.. رحل لا كما ترحل في الغروب أسراب القماري ولا كما يرحل الحمام.. وهو الذي ترجى الحمام أن يسوقه معه حيثما تكون الحبيبة.. وهل الحبيبة عند حميد غير الوطن العريض؟ "سوقني معاك يا حمام سوقني محل ما الحبيبة قريبة ترد السلام" رحل رحيل النسور الكواسر من ذرى الجبال إلى السفوح فمن بعده لليتامى والفقراء وأبناء السبيل؟ ومن بعد للبسطاء من أبناء بلادنا الطيببين القابعين في جروفهم والواقفين في سرمدهم الأثير، وقد كان يمنيهم بزمان جديد؟ "يا وقعة الواقفين هناك يا وقفة الواقعين هناك يا آفة الوطن الوطن الجريح اشمعنى لا وصلك ونى لا افة الزمن المشيح قدرت رويحتى تيقنا كدينا في الثرى في رجالك ما فينا زولا ما عرف ساوين عصا الأشواق مرق عربا نهاتي بيك والزنج تتمناك عتق رحل حميد مقتلعا ذاته من الحياة الدنيا اقتلاعا دمويا منهل باغته الموت الذؤام وهو يجد السير صوب الخرطوم لحضور تدشين ديوان رفيق عمره الشاعر الفذ السر عثمان.. ما الرحيل وما الغياب وما الموت الذؤام: (وخير كراكة بتفتح حفير وتراقد الركام ولا بالدبابة البتكشح سعير الموت الذؤام) وهكذا يكتب ولكن ليس بالدبابة وحدها يكون الموت الذؤام.. فان لمن الردى كان فوت الموت بعض المستحيل.. وهكذا تذهب ايها الشاعر الفذ، فما الرحيل وما الغياب.. وما الوطن... ترحل والعالم يمضى.. والحال بمعنى... ووعدك للكادحين يبرق ويومض ثم يخبو... ثم يومض من جديد: (ومنهما كان الريح حصادا بفضل النجم البقاوم في السقوط نخل الفقارا خوفى من تلحق رفيقك يا بريق نجم الحيارى لا شرف فجر السهارى من زمان يا صحوة طلعك غصة في حلق الصحارى حتى شال النجمة فرعك دودى زى وهج البشارة قلنا يا سعد المواسم عودك المليان جسارة عودك الفجرى المصادم بالبصيرات والبصارى) وداعا حميد.. أقام الوطن وانت في برزخك البعيد للعزاء فيك سرداقا يتنادب فيه البسطاء التعازى وفي القوم اركان مدرستك الشعرية الذين وقفوا معك يكتبون الشعر خالصا لوجه الكادحين من كل حدب وصوب.. يحملون بعدك الراية وانت بعيد... محمد طه القدال بقامة الضهارى والبوادي (ما ضهبت اقول لقيتك وإنتى في كل الخواتم والمياتم والنجمات والعواتم ما حزنت اقول بكيتك نحن في حزن المخاليف والمفتي المطاليق الفرح جاييك وعد غنوة اولاد التحاربك السعد ولا البعد البعد ولا السعد كنتى في ليل الخواي نهاتى بنيات الطواى تحاكى حقليب السعى الجنيات خلو جحرك ريح يضوفى وعين مزرزرة من شقا الفرح المراى يا ديارى الوين انى تور عفين الشين انى) ثم ذاك صفى عمرك السر عثمان الطيب.. شاعر بقامة الوطن... امطر في فقدك ما تبقى له من رصيد في الدموع: (الحفير شوف عينى يبكى معاي يكابر دمعو جدول جاري لي بيتكم مجاور قال لي وين طول ماك ظاهر) كيف استأثر بالله السر عثمان الطيب بالسيل الهادر من الحنية والرومانس: (شوفى الزمن يا يمة ساقنى بعيد خلاص دردرنى واتغربت واتعذبت ورينى الخلاص ساقنى القدر منك بعيد لأزاى كاس جرعنى كاس يا يمة يا فيض الحنان الما كمل يا يمة يا بدرى البشع دايما يهل يا يمة يا نور الصباح وكقين يطل واشرى يا زينوب ولدك في بحور الشوق كتل محروم من الحب والمحنة وراك همل بتذكرك يا يمة في الدقش النسايم يهبهبن قايمى الصباح متكلفتى وشايلى الحليلى على المراح والساعة ديك يادوبة ديكنا بدأ الصباح والطير صغارو يغردن جبتى اللبن ب انشراح) وذاك رابعكم ينتحب وانت تخرج اقتلاعا ياحميد أزهرى محمد علي: (يا مشرع الحلم الفسيح انا بينى ما بنيكم جزر تترامى والموج اللديح كملتو ما كمل الصبر تتلاقى في الزمن المريح ميعادنا في وش الفجر) لي بالشعر بعض إلمام وبمدرستكم تأمل ودهش عتيق فإن رحل حميد حمل القدال والسر عثمان وأزهرى من بعده الراية: (من باتو شارع اصلك وكل الدروب معطونة لى اخر الوجل كيف استبيح كل الحواجز وادخلك من بين مسامك ادخلك من أى قاسم مشترك وشبه التشابيه ادخلك ونتلاقى نهرين من نتسامى واشتتها وابدالى من حيث انتهت عندك خواتم الانتهاء) التحية لذكرى حميد الراحل رحيل والوعول الجارحة والتحية لأركان مدرسته الشعرية وقدال والسر وأزهرى.. وحميد الذي باغتنا بالرحيل عشنا على اشواقها واحتواها الأفول وهكذا الأيام تمضي.. ونسأل الله لحميد الغفران والقبول.