*مدخل أول درج "الأنواك" على تسمية المولود الأول "أوجولو" والثاني "أوموت" والثالث "أوبانق" *مدخل ثان أتانى والخوف بعينيه يحمل وزر الصورة المقلوبة فقد جاء "أوجولو" بمعيتي قبل ما يقارب الثلاثين عاما من "فشلا" العاصمة الإدارية لقبيلة الأنواك التى تقع في ركن قصي في الجنوب الشرقي من السودان الذي كان ، بالقرب من نهر أكوبو.. تعتبر الحاضرة الثانية بعد توريت من حيث رائحة الموت والغدر والدم. كانت من المناطق الساخنة في الحرب القذرة.. حملتني إليها الأقدار قائداً لمجموعة القتال التى كانت ترابض فيها.. لا تصلها العربات لوعورة الطريق ويخشاها الطيران لتعرضه لصواريخ سام المحمولة في الكتف.. جعل منها المتمردون أحد أماكن سياحتهم القتالية يحاصرونها من وقت لآخر وتبقى صامدة بفضل بسالة الجندية السودانية.. هناك إلتقيت بالصبي أنجلو ورفيقه أقوا ومعهم ما يقارب من الستين من الصبية في عمرهم، فقدوا أهلهم وقراهم بسبب الحرب، ترتعد فرائصهم عند ذكر اسم كاربينو.. قصدها بعد هروبه من بور وكانت إحدى أضلاع المثلث الدموي بور- البيبور- فشلا- منطقة إنفتاح الكتيبة "105" المتمردة التى اشعلت التمرد الاخير من بور. الصبي أقوا إختاره نائبي في القيادة الرائد عبد الله المشهور بالهنقر.. سموه الهنقر منذ أن كان جندياً في المدرعات لبسطة في الجتة وطول في القوام وهو أم درماني من أبناء أب روف، ترعرع على شط النيل بعد لقيا النيلين في مستهل رحلته في إتجاه الشمال، شاطئ أب روف كان متنزهاً لسكان حي أب روف والأحياء المجاورة وحتى مكي ود عروسة وحي السوق والركابية، هناك بدأت علاقة الهنقر بالنهر حيث برع في صيد الأسماك بأنواعها ولم يصده عمله بمدرعات الشجرة من ممارسة هوايته في صيد السمك.. بعد أن تقاعد الهنقر، سكن جبل الأولياء، و"سعى" قارباً يسترزق منه، أما الصبي أقوا الذي وفد معه إختار سلك الجندية بعد أن شب عن الطوق ولقي حتفه في أول مأمورية بجنوب السودان الذي كان.. ترى ما الذي دفعه لإختيار حتفه شهيداً بعد أن رأى بعينيه ويلات الحرب عندما كان صبياً يعمل مع الهنقر في فشلا الدامية. "2" ضاق بنا الحال ولاح شبح الجوع بعد أن بدأت الوعول هجرتها جنوباً نحو المرتفعات الكينية.. الحيوانات ذات الأظلاف تخشى الخريف في مستنقات الجنوب وتخشى الطين الذي تسوخ في طينه أظلافها فترحل بالفطرة جنوباً لنبقى أمام أمر واقع بعد أن كانت مورداً وافراً للبروتين الحيواني للجند في المناطق النائية التى يصعب تشوينها إذا هطلت الأمطار يتبعها الرماة من الجند تحت الحراسة وينالون في "الطلعة" الواحدة ما يقارب الثلاثين في كل مرة.. يتبعهم الصبية كحمالين يأتون بها للمعسكر حيث نتناول كبادها نيئة وترتفع رائحة الشواء في المكان دخاخين.. دخاخين.. وتنوء الحبال المعلقة بين الخنادق بالشرموط الوفير. المصدر الآخر للغذاء كان النهر القريب.. يتم تأمينه أولاًَ بقوة مقاتلة بعدها يرمون الشباك المصنوعة محلياً ويسحبونها ذاخرة بكل أنواع السمك.. تبعث رائحة السمك في "الهنقر" فورة من النشاط تستعيد له أيام شط أب روف فيتفنن في طهيه في الفرن المنحوت في قنطور "الأرضة". بين قناطير الأرضة والجند علاقة حميمة تفوح منها رائحة الخبز.. يخبزون دقيق التعيينات "التموين" ويضيفون له الخميرة ويتناولونه طازجاً عندما يريدون الخروج من دائرة العصيدة وذلك حسب موقف التشوين من الدقيق.. وللهنقر أيضاً باع كبير في ذلك فهو طاه ماهر ومقاتل جسور حمل وسام الشجاعة اكثر من مره، تعلم منه "أوجولو" أولى دروس الطهي الذي صار يجيده بعد أن جاء إلى كسلا ودخل مدرسة الميرغنية الغربية، نفس المدرسة التى تلقيت فيها تعليمي منذ منتصف خمسينات القرن الماضي.. إختاره الناظر أن يكون "ألفة" عموم المدرسة إعتباراً لسنه ودماثة خلقه ونظافته وانضباطه الذي جناه من بقائه مع العسكر بين خنادق القتال . ليس ذلك فقط بل كان يجيد تعبئة خزن الذخيرة أثناء الاشتباك.. يقبع أسفل الخندق ويؤدي عمله بمهارة غير عابئ بالشظايا التى تتساقط حوله وشبح الموت الذي يخيم في المكان.. ويأخذ معوله بعد إنتهاء القتال ليسهم في ستر الشهداء وأكثر من ذلك شارك في عملية "عزة" التى تم لها التخطيط باحترافية شديدة.. شارك في العملية حمالاً للذخيرة والهاونات الصغيرة وجلب الماء من النهر خلال التقدم نحو الهدف داخل الحدود الأثيوبية كانت إغارة خاطفة على معسكر "تيدو" الذي يمثل منطقة حشد لمحاصرة فشلا عند بداية الرشاش حيث يصعب نجدتها بسبب الظروف الطبيعية. كان كبيرهم آنذاك السلطان أقدا بن السلطان أكوى.. لكل منهما، الابن والاب بصماته على تاريخ القبيلة السلطان أقدا، سلطان الأنواك آنذاك من أكثر الشخصيات الجنوبية التى لفتت إنتباهي ومازال يلوح في خاطري كلما طافت ذكرى تلك الايام بشرها وخيرها، وليس بعد الحرب شر. فالذين يزيدون نيرانها حطباً لم يطأوا جمرتها الواقدة، كانت الحرب في تلك الفترة قد تصاعدت وكانت المنطقة مسرحاً ساخناً لفصولها الدامية، فقد عرفت "فشلا" كحاضرة لقبيلة الأنواك التى يعيش 60% منها داخل الحدود الأثيوبية في محافظة "هيلابابور" والمحافظات الجنوبية المتاخمة لها ويعتبرون أنفسهم من مواطني أثيوبيا والسودان.. معاً.. إلا أن سلطانها "أقدا" تمسك بسودانيته وظل في عاصمته "أوتالو" داخل الحدود السودانية بالقرب من المركز الحكومي في "فشلا".. وظل قابضاً على السلطة السياسية والروحية بين أبناء قبيلته.. سلطاناً عليهم.. يتربع على إرث قديم منذ ايام والده السلطان أكوى وجده قيلو. كان "أقدا" سلطاناً والهاً في آن واحد.. لا يمشى أمامه أحد تقديساً له.. ويحبون على أربع عند المرور أمامه أو الإقتراب منه.. لا يحادثه أحد قبل مسح وجهه بيده بعد تمريرها على أقدام السلطان.. وعند تنقله من مكان لآخر, يتبعونه بقافلة مخفورة بحرسه الشخصي وجنده وخدمه، يحملون متاعه وحاجياته، لأن الدواب لا تعيش هناك بسبب ذبابة التسي تسي وعندما يحين ميعاد وجبة السلطان أثناء سفره، يبنون له كوخاً على عجل ليأكل داخله حتى لا يراه أحد وهو يأكل.. ونفس الشئ عندما يقضى حاجته، أما مريسته الخاصة، لا يذوقها أحد من العامة ولكنه يجود بها لضيوفه. سأعود للسلطان في حلقتي القادمة ولكن بقى "لأوجولو" بضعة أيام يصير بعدها أجنبياً تحظر بقاءه القوانين والاتفاقيات الشائهة.. عندما جاء والخوف بعينيه متأملا الصورة المقلوبة ، استعدت الشريط مقلوباً بصوره المتداعيات ، تتسلسل صورة الصبي المحارب والتلميذ النابه في الشمال.. وبطل الكاراتيه والمأمون على المال والعقاب منذ نصرانيته إلى دخوله الإسلام قبل أكثر من عشرين عاماً على يد أبونا الشيخ الطيب ود المرين.. عندما أردنا توثيق ذلك في محكمة القضارف سأله القاضي عن إسمه الجديد وكنا قد أعطيناه اسم الطيب تيمناً بالشيخ العارف بالله ود المرين وعندما سأله القاضي عن اسم ابيه أشار إليَّ فأخبره مولانا بانه يحق له تغيير إسمه ولا يحق له تغيير إسم والده فوقفت مستأذناً المحكمة وطلبت من القاضي بأن نجعل الاسم الأول الطيب بعد أن هداه الله للإسلام على أن نحتفظ باسمه الأصلي ثانياً وبعده اسم والده فصار إسمه الطيب.. أوجولو.. أو موت وهكذا حمل إسماً إسلامياً تيمناً بشيخ عظيم مع الإحتفاظ بإرثه القبلي المتمثل في أسماء الأنواك التى لا تشاركها فيه قبيلة أخرى من جنوب السودان.. بعد ما يقارب الثلاثين عاماً قضاها الصبي المحارب في الشمال سنداً لي في تربية أخوانه واخوته "ابنائي" لم تطأ قدماه فيها ثرى الجنوب هناك حيث لا يعرف أباً أو أما أو أسرة سوى إنتمائه الكسلاوي.. وحيث يمازحه أبناء المدينة وينادونه ب"أنجلو العظيم" عرفاناً بأدبه وكرمه ووفائه ودأبه في عمله الذي ترقى بسببه "كمنده" لأحد أهم المصانع في منطقة الباقير وتزوج وتصاهر مع إحدى قبائل غرب السودان التى إحتفت به أيما حفاوة فالطيب اسم على مسمى لم يصادفني إنسان في صفاء نفسه ومروءته وأمانته ووفاءه ووطنيته الصادقة.. الآن "يربط في عفشو" إستعداداً لمغادرة الشمال الذي نشأ وترعرع فيه لتنفجرفي قلبي وتصفعني في وجهي مأساة إنسانية لم تخطر ببال ناس "ساس يسوس" وهم يكتبون أقدار وطن ما خبروه جيداً.. ولا سبروا أغواره الغميسه . وأواصل