المكان كان يضج بترانيم الرحيل..والمشاهد هناك كانت تحفل بالكثير من التقاطيع الحزينة..ف(سوق نيفاشا) الذى اصبح رمزاً وملحماً بارزاً ضمن خريطة (السوق العربي) المصغرة..هاهو يلملم اطرافه ويستعد للرحيل، بعد أن انقضت المدة التى منحتها الحكومة للجنوبيين بالبقاء وتوفيق الاوضاع قبيل الرحيل لدولتهم الجديدة (جنوب السودان)، ولعل ابرز تعليق سمعناه ونحن نتجول ب(سوق نيفاشا)-الذى تمت تسميته على اتفاقية السلام الشهيرة-كان من احد الجنوبيين الذين قال لنا وعلى عينيه بقايا حنين قائلاً: (ارفض ان اتحدث..لأنني بصراحة لست في بلدي..) وصمت قليلاً قبل ان يواصل في حسرة: (وبصراحة..انا لحدي ماقطعت التذكرة بتاعتي دي مامصدق الحاصل دا)..!! يوم الرحيل: السوق يوم الرحيل، كان اشبه بسرادق للعزاء، فمعظم الباعة من ابناء الجنوب غطوا بضائعهم استعداداً للرحيل، بينما بقى بعضهم واضعاً يده على خده في حيرة ربما تحكي بالضبط ماآل اليه الحال هناك، وفي بداية تجوالنا التقينا بالشاب (اوميت نيكانق) والذى قال بأن معظم اصدقائه سافروا قبيل انقضاء الفترة الزمنية المحددة، واضاف: (حقيقة سوق نيفاشا انتهى منذ اعلان انفصال الجنوب ولم يعد مثل السابق، لذلك لامعنى للبقاء هنا)..وقال: (انا اعمل هنا منذ اكثر من عشرين عاماً، درست خلالها كل المراحل الدراسية)..وصمت قليلاً قبل ان يباغتنا بسؤال مفاده: (معقولة يااخوانا..بعد السنين دي كلها يقولوا لينا امشوا..والله بالجد صعبة علينا). دم واحد: (استيفن جوي) بائع للملابس الرياضية قال انه ومنذ اعلان انفصال الجنوب تغيرت الاوضاع في السوق، نسبة لعودة كثير من الجنوبيين لجوبا، ولارتباط المهن هناك بالسوق بالجنوبيين سواء كانوا زبائن ام تجاراً، واضاف (استيفن) انه بصراحة لايتمنى العودة للجنوب، لانه ببساطة قال (انا عايز آكل عيش)...قبل ان يستدرك بسرعة: (سوداني..شمالي..او جنوبي..كلو دم واحد). مسمار اخير: ويرى (تيت اطوب) بائع الاحذية بالسوق ان امر عودتهم للجنوب هو يقع ضمن بنود يتوجب تنفيذها في السياسة مابين الدولتين، ويضيف: (لو قالوا لينا اقعدوا بنقعد..ولو قالوا امشوا كمان ماعندنا حل غير نمشي)، ويؤكد (اطوب) على الافادات السابقة بإنهيار سوق نيفاشا منذ اعلان الانفصال، وقال ان انتهاء المدة المحددة لتوفيق الاوضاع مثلت المسمار الاخير في نعش ذلك السوق الشعبي الكبير. نموذج مختلف: نموذج مختلف وجدناه اثناء تجوالنا بسوق نيفاشا وهو لمواطن شمالي يدعى (حامد الحاج) وهو من مواليد الجنوب وعاش حياته تقريباً كلها هناك، وعن وجوده في الخرطوم في الفترة التى يغادر فيها الجنوبيون، قال: (انا جيت راجع الخرطوم بعد اعلان الانفصال وانا حالياً بالسوق لاتفقد اوضاع ابن احد اصدقائي ويدعي (ملواك)، وتمنى (حامد) ان يعود للجنوب مرة اخرى والتى عاش فيها معظم حياته. نتاج طبيعي: (دمديل موسى) قال ان مايحدث في هذا اليوم هو ناتج عن سياسات واتفاقيات، واضاف انه مثلما يغادرون الشمال، بالمقابل سيغادر الشماليون الجنوب، وإذا ماطلب منهم استخراج اقامات او خلافه، فالامر كذلك ينطبق على الشماليين هناك، واعتبر (دمديل) ان مايحدث هو افرازات سياسية بحتة يدفع ثمنها المواطن سواء كان شماليا او جنوبيا. حأعمل رايح: (سليمان) احد الذين استنطقناهم خلال الجولة قال بأنه سيستغل وجه الشبه مابينه وبعض القبائل الاخرى للبقاء في الخرطوم ولن يعود للجنوب وقال: (الناس كلها بتقول اني مابشبه الجنوبيين، عشان كدا انا ناوي (اعمل رايح)، ولن اجدد اقامة..ولن اعود..فأنا قضيت عمري كله بالشمال ومسألة العودة للجنوب صعبة شوية..!!). التزامات وتعاقدات: (مفروض الناس تشاورنا قبل ماتأخد القرارات دي).. بهذه العبارة ابتدر احد الجنوبيين بالسوق النقاش، واضاف ان هنالك بعض الجنوبيين لايستطيعون المغادرة بهذه السرعة بحجة ان لديهم كثيرا من الالتزامات والتعاقدات التى يتوجب انهاؤها، واضاف: (انا شخصياً احتاج لشهر حتى اوفق اوضاعي..واصدقكم القول ان مسألة ان يتم التعامل معي كأجنبي تؤرقني بشدة). نفس النشاط: بعض التجار بالسوق من الجنوبيين كشفوا في تصريحاتهم للسوداني خلال جولتها هناك انهم يعملون بنفس النشاط والحيوية التى اعتادوا عليها، ونفى عدد منهم تأثرهم بما يحدث، بإعتباره امراً سياسياً بحتاً لاعلاقة لهم به، لكن عددا منهم اعترف بأنهم يجب ان يرضخوا لتلك السياسات التى هي في الاصل مسودات اتفاق مابين حكومتي الدولتين. اب وأم: (اونس واني) حكى عن العلاقة بين الشمال والجنوب ووصف السودان بأنه (الاب والام) لكل المواطنين، وقال بأن مايحدث حالياً يشبه تماماً انفصال الاب عن الام، مما يعني ضياع الابناء، واضاف ان الشمس والقمر ارتبطا منذ القدم، والشمال والجنوب علاقتهما تماماً مثل الشمس والقمر لذلك فسيظلان دوماً على تواصل وعلى حميمية وود برغم افرازات السياسة.