تمثل زيارة سلفا كير الحالية الى الصين التي يفترض أن تنتهي يوم السبت المقبل الفرصة الأخيرة والوحيدة على المستوى النظري للمجتمع الدولي ليتدخل بصورة مباشرة بين السودان وجنوب السودان ومنع اشتعال حرب شاملة، وهي حرب يمكن أن تستمر الى عشر سنوات وبكلفة قد تتجاوز المائة مليار دولار كما في تقديرات وردت في تقرير موحد لأربع منظمات من جنوب أفريقيا والولاياتالمتحدة وأوروبا صدر في العام 2010 والسودان يتهيأ لأجراء الانفصال. التقرير وضع أربعة سيناريوهات لم ينطبق أي منها في واقع الأمر على ما يجري حاليا على الأرض، لكن الأقرب اليها سيناريو وجود نزاع متوسط الحدة بين البلدين. وهدف التقرير الى اثارة الانتباه ولفت الأنظار مبكرا ومن ثم دفع المجموعة الدولية الى التساؤل اذا كانت ستقوم بما يلزم لتجنب صراع بهذا الحجم. نصف الكلفة الاقتصادية أو نحو 50 مليار دولار ستكون من نصيب الدولتين ونتيجة لخسائر أو ضياع في الميدان الاقتصادي وتحديدا ما يتعلق بالناتج المحلي الاجمالي. ويتوزع بقية المبلغ على ما يمكن أن يصيب دول الجوار من خسائر مما يعطي الصراع بعدا اقليميا الى جانب ما ستتحمله المجموعة الدولية من عمليات اغاثة انسانية وفاتورة قوات حفظ السلام. التركيز على الصين يعود الى الحقيقة التي بدأت تتجلى بصورة واضحة من ضعف التأثير الغربي عموما والأمريكي تحديدا على مسار الأحداث في البلدين خاصة جنوب السودان، الأمر الذي يثير الدهشة بسبب العلاقة القوية بين الطرفين. ويكفي أن الرئيس باراك أوباما اتصل شخصيا بسلفا كير في الثاني من أبريل طالبا منه ممارسة ضبط النفس وعدم الانجرار وراء العنف ووقف الدعم للتمرد في جنوب كردفان والتوصل الى اتفاق في ملف النفط. ولم يستغرق الأمر أسبوعا ليتصرف سلفا عكس ما طلبه أوباما بالضبط ويدخل في مغامرة هجليج. من جانبها تتمتع الصين بوضعية تؤهلها للقيام بدور أكثر أيجابية، لو أرادت ذلك فعلا، وذلك بسبب استثماراتها الضخمة في الصناعة النفطية على جانبي العمليات الأمامية والانتاج ومرافق العمليات النهائية من خطوط أنابيب ومصاف، والأثنان يتوزعان بين البلدين فالاحتياطيات في الجنوب ومنفذ التصدير في الشمال. من ناحية ثانية فإن السودان قبل الانفصال شكل مصدرا مهما للواردات الصينية من النفط الخام بلغت نحو 6 في المائة من أجمالي وارداته، لكن تلك النسبة تزداد أهمية كونها تأتي مباشرة من شركات صينية، الأمر الذي يوفر تأمينا أضافيا مقارنة بالامدادات الأخرى التي تشكل نسبة أعلى وتأتي من دول أخرى مثل أنجولا لكن عبر شركات غربية. على ان بعض التقديرات المتاحة تشير الى تراجع في حجم الصادرات النفطية عقب الانفصال وبنسبة تصل الى نحو 40 في المائة كما حدث في فترة يناير الماضي، وهو الشهر الذي أعلنت في نهايته جوبا انها ستوقف انتاج النفط نهائيا. علاقة بكينبجوبا ظلت متوترة ولم تتجاوز ظلال ومناخات الحرب الأهلية، حيث اعتبرت جوبا أن بكين هي الحليف الرئيس للخرطوم، وذلك رغم زيارة سلفا كير الأولى الى الصين في 2007 وافتتاح قنصلية في جوبا في العام التالي وتأسيس علاقة بين الحزب الشيوعي الصيني والحركة الشعبية. ووصلت حالة التوتر هذه قمتها عندما طردت جوبا مدير شركة "بترودار" في فبراير الماضي لاتهامه بالتعاون مع الخرطوم على حساب جنوب السودان. زيارات المسؤولين الصينيين من وزير الخارجية الى المبعوث الخاص الى البلدين لم تحقق نجاحا يذكر في حلحلة بعض القضايا العالقة خاصة ملف النفط، وهو ما يعود بصورة رئيسية الى الثوابت التي تقوم عليها السياسة الخارجية الصينية مثل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان التي تتعامل معها. دعوة الرئيس الصيني هو جنتاو لرصيفه سلفا كير لزيارة بكين جاءت في وقت حرج للغاية أثر التطورات التي وصلت الى أحتلال هجليج وما تبعها من اعلان السودان انه لن يتفاوض مع الحركة الشعبية مجددا الا وفق شروط معينة. و لاتقتصر أهمية الزيارة على التوقيت فقط بسبب الأحداث الأخيرة، وأنما تأتي من ناحية أخرى وقد مضت قرابة ثلاثة أشهر على قرار جوبا وقف انتاج النفط الذي بدأت آثاره في الظهور على مستويين: إن التعاطف والدعم الذي حظيت به الحركة الشعبية من العواصمالغربية طوال سنوات القتال وحتى إبان مفاوضات السلام وتطبيق الاتفاقية لم يترجم في شكل ملموس إبان ضائقتها الاقتصادية الحالية، وأهم من هذا ان خيار الحركة في البحث عن خط بديل لنقل صادراتها النفطية الى الخارج أصبح يصطدم بعقبة التمويل من ناحية والأمن الداخلي من ناحية أخرى، وهي العقبة التي أقعدت شركة توتال الفرنسية عن حفر حتى بئر واحدة في منطقة امتيازها في ولاية جونقلي المضطربة رغم مضي خمس سنوات على انتهاء النزاع مع شركة النيل الأبيض لصالحها. أما في مجال التمويل فإن الأتصالات التي جرت مع عديد من الجهات في الولاياتالمتحدة وأوروبا وآسيا وآخرها زيارة باقان أموم الأخيرة الى جنوب أفريقيا أواخر الأسبوع الماضي خلصت الى ضرورة تشكيل كونسورتيوم مالي، وهو ما يحتاج الى ضلع أساسي فيه يؤمل أن تكون الصين. ومن هنا التركيز على الزيارة واذا كانت بكين راغبة في القيام بهذا الدور وفوق هذا تسخير خبرتها لانشاء الخط الذي تحيط بها مصاعب لوجستية عديدة. هل تخرج بكين من عباءة عدم التدخل في الشؤون الداخلية التي حكمت سياستها الخارجية طويلا لتقول لسلفا كير ان أي أستثمار يتطلب حالة من الاستقرار والسلام وانه من الأوفق له استخدام خطوط الأنابيب التي بنتها الصين في الشمال والاتصال بالخرطوم لثنيها عن قرارها الأخير بعدم السماح بمرور نفط الجنوب عبر ميناء بشائر، أم تسعى الى صيغة تلبي بها طلب جوبا؟ وربما يكون في معالجة الاقتراح القديم بتوفير قروض بمبلغ مليار دولار لتمويل مشروعات للبنية التحتية في جنوب السودان ما يعطي مؤشرا على ما تعتزمه بكين. لكن يبقى في الأساس القول ان أهمية العامل النفطي للسودانين بالنسبة للصين في تراجع، وأهم من ذلك هل هي راغبة في تحمل العبء كدولة كبرى أم لا؟