من يعيشون بعيدا لا يملكون الكثير من الخيارات، ليست قاعدة ثابتة بكل تأكيد وانما هي حالة او حالات تفرضها الجغرافيا والاقتصاد في بلدان بعينها يمكن وصفها بالشاسعة من حيث المساحة والضعيفة من حيث توزيع الثروة وانتشار الخدمات. فالمرء ابن بيئته، يحبها ويلتصق بها ، يعطيها وينتظرها الرد بالمثل او اقل. لكن العلاقات من هذا النوع ليست بسيطة كما يبدو فهناك كم هائل من التعقيدات الاقتصادية والثقافية والسياسية والنفسية. ما جرني لكل هذا فيلم "قصص من الحدود" المعروض ضمن مهرجان الجزيرة للافلام التسجيلية. والفيلم انتاج اندونيسي يروي جانبا من واقع الحياة في القرى البعيدة المحاددة لماليزيا في جزيرة بورنيو التي يتقاسمها البلدان. لم يتأخر الفيلم في طرح الاسئلة ومساءلة الجغرافيا والتاريخ في محاولة لفهم معاناة شريحة من الشعب الاندونيسي وجدت نفسها مضطرة لدفع ثمن بعدها عن المركز ووقوعها في ظل اداري طويل لا توجد اية مبادرة حكومية جادة لتقصيره. تذكرت مصطلح الظل الاداري وهو بدعة او قل اجتهاد سوداني بامتياز انتهى الى تقصير شكلي وهذه قصة اخرى. وسط طبيعة غنية ووعرة التضاريس يعيش قرويون يعتمدون على بيع منتجاتهم في ماليزيا القريبة والمتطورة مقارنة بمناطقهم على الاقل. لا يكف القرويون عن عقد المقارنة بماليزيا ولماذا تنعم قراها بالخدمات. لا احد في العاصمة جاكرتا البعيدة يحفل بهكذا مقارنات، وهنا مربط الفرس. هنا يظهر الراوي الرئيس في الفيلم ، المعلمة الوحيدة في المدرسة الوحيدة المخصصة لاطفال عدة قرى ، تبدو الاكثر تشددا وغضبا وهي توجه نقدها للحكومة وتمطرها بالاسئلة. جاءت المعلمة من قرية في وسط البلاد تفصلها عن الحدود رحلة نهرية تستغرق اثنتي عشرة ساعة وسط منحدرات وشلالات حادة. لا تخفي المعلمة شعورها القومي وهي ترى طلابها يتسللون من المدرسة مفضلين الهجرة الى ماليزيا والعمل هناك. تتحدث المعلمة عن سوء معاملة الماليزيين للعمال الاندونيسيين، لاسباب اقتصادية محضة ، فلو ان اندونيسيا الغنية بالنفط اهتمت بتنمية الارياف لجنبت شعبها هذا الشعور المقيت بالحاجة هذا ما ارادت المعلمة قوله. ليست المعلمة وحدها هي من يمثل الخدمة المدنية في تلك البقاع ، فهناك ممرض جوال يطوف القرى الواحدة تلو الاخرى لتقديم الحد الادنى من الخدمات الطبية. هي الحدود اذن ، امكنة يسكنها القلق والخوف ، وينشط فيها المهربون والمغامرون ، وتزدهر فيها التجارة المشروعة وغير المشروعة. هي الحدود او الخطوط التي رسمت في غير صالح الناس وحاجاتهم احيانا ،وعلى النقيض من تاريخهم في احيان اخرى. نجحت بعض الدول في تحويل حدودها الى مراكز ازدهار ، امنتها وامنت جانبها بالتالي، فالحدود لا تعطي اذا لم تأخذ اولا، والمعني بالأخذ هنا، مستويات معقولة من التنمية والخدمات وكثير من الامن. "قصص من الحدود" فيلم يذكر بكثير من الثنائيات المتضادة التي تحكم هذا العالم، مثل المركز والاطراف والثراء والفقر والقرب والبعد والتنمية وعدمها الخ الخ. فلكل بلد حدود وقصص، ولا نحتاج كسودانيين الذهاب بعيدا لأخذ العبر بشأن الحدود.