كرة القدم، هذه اللعبة الشعبية.. يحبونها ولكنهم يصفونها "بالمجنونة" ولا أدري من فيهم "المخبول".. ويقال إن الاسم أتى من طبيعة اللعبة غير مأمونة العواقب والنهايات.. لا يهدأ بالها إلا بعد صافرة الحكم الأخيرة معلناً نهاية المباراة. كانت بدايتي مع الكرة مثل كل الأطفال الذين في مرحلة سنية معينة "يشوتون" ما يلاقونه أمامهم.. وكانت حتى "كرة الشراب" عصية لندرة الجوارب في مجتمع العمامات والجلابية والمركوب.. وكثيراً ما تكون "مثانة" الأبقار من نفايات سوق اللحوم مخرجاً ويمكن أن تؤدي الغرض.. وأحياناً يصنعها الترزي من "قصاقيص" مهنته. بدأت علاقتي الحقيقية معها من خلال "المنازل الرياضية" وهي مجموعات رياضية في المدارس الوسطى عادة تسمى بأنهار السودان أو الأبطال التاريخيين، كان "منزلنا" السوباط وكنا محظوظين بأن يكون المشرف على الرياضة البدنية بمدرسة كسلا الأهلية الوسطى في نهايات خمسينات القرن الماضي أستاذ الأجيال والمربي الكبير، الأستاذ الزين حامد "عمل بعد ذلك ملحقا ثقافيا في سفارتنا بموسكو وناظرا لمدرسة كسلا الثانوية ورقيباً لمجلس الشعب نائباً عن دائرة كسلا في الديمقراطية الثالثة "اتحاد ديمقراطي"..كان أستاذ الزين أستاذا للرياضيات ورياضياً من الدرجة الأولى مبرزاً في كل ألعاب القوة "وبيان بالعمل" في لعبة الحصان والمتوازي والقفز بالزانة ,والوثب والمارثون وغيرها من رياضات ذلك الزمن الرزين. اخترت "حراسة المرمى لطولي ونحافتي.. ولكن علاقتي الجدية بدأت بمدرسة وقر الإعدادية.. وكدت أن أفارق اللعبة للأبد، عندما اقترح دفعتي وصديقي بابكر عراقي "الصحفي المتقاعد عنوة واقتداراً" حتى صار ملكاً للإعلان في السودان من خلال تقلده منصب رئيس قسم الإعلان في دار الرأي العام، اقترح بابكر أن نقيم مباراة مسائية اختار لها الليلة الثانية عشرة من طلوع القمر.. دهنا الكرة باللون الأبيض ووضعت "رتاين" مكان راية الكورنر.. كما دهنا "العارضات" حتى يمكن تمييزها من على البعد، بدأت المباراة وأنا أحرس المرمى الشمالي واستمرت المباراة وسط دهشة الطلبة ومواطني وقر التي لا هي قرية ولا هي بندر، قبل نهاية الشوط الأول استدعيت الحكم بعد أن تقدمت حوالي عشرين ياردة من أمام المرمى مستخدماً بطارية طورش عندما حضر الحكم مستفسراً سلطت ضوء البطارية بالقرب من العارضة حيث "تكوم" ثعبان ضخم متأهباً للاعتداء.. أطلق الحكم صافرته معلناً نهاية المباراة قبل نهاية شوطها الأول ومعلناً اغتيال حلم صديقي عراقي بإقامة مباراة ليلية في وقر.. وقتها كان استادا واحدا في السودان يستقبل المباريات الليلية هو استاد الخرطوم.. هذه المدرسة قدمت للسودان الشاعر إسحق الحلنقي والتشكيلي العالمي أحمد عبد العال والبروفيسور السر العراقي وغيرهم من المبدعين في محالات مختلفة ترافقنا أنا وعراقي إلى مدرسة النهضة العربية بالأبيض وجامعة القاهرة فرع الخرطوم وفي "كار" العمل الصحفي منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، بل ترافقنا إلى رحلات صحفية خارجية لم تغب عن الذاكرة. "كرتان أصفران" أبرزهما لي الحكام في مسيرتي القصيرة في دنيا الكرة، الأول من الحكم المشهور ببدانته وصرامته صاحب الكريزما الذي يهابه اللاعبون بمدينة الأبيض، المرحوم "الجيلي سعدابي" . كنا قد أخطرنا بمباراة منتصف النهار لفك اللاعبين الموقوفين لمواجهة الدوري بكروت نظيفة.. جئنا مباشرة من "أمير القش" للاستاد حيث ارتدينا شعار "نادي شيكان" خارج الاستاد، لم أعبأ كثيراً بأصول زي لاعب الكرة القانوني.. دخلت إلى الملعب والفنلة تكاد تصل حافة "السروال" أما الشراب فكان "مطوطواً" بالقرب من الكدارة "حذاء الكرة" وبدون "الشنكار" الذي يحمي ساق اللاعب.. ولم أهتم بسحب الشراب إلى أعلى حتى أصير لاعباً محترماً.. بمجرد تجاوزي خط الملعب أشهر الحكم "الجيلي سعدابي" الكرت الأصفر في وجهي،قبل ان تبدأ المباراه ... لم أحتج على القرار لأنني كنت مدركا لمخالفتي، ولكنه نزق الصبا. أما الكرت الآخر فاستقبلته في مدينة بارا "أم نيماً لاقى" دعانا إليها الأستاذ عبد الله حولي الأستاذ المحترم بمدرسة النهضة العربية. لم أجلس أمامه تلميذاً لأنه كان معلماً بالمرحلة الإعدادية وكنت وقتها بالمرحلة الثانوية.. للأستاذ عبد الله حولي بصماته في المدرسة إذ كان مسئولاً عن المناشط مثل الإذاعة المدرسية والرياضة والفنون وكنت واحدا من المشاركين فيهم مع صديقي بابكر عيسي مدير تحرير "صحيفة الرأية القطرية" دعانا الأستاذ حولي لمنازلة فريق "الوحدة" بمدينة "بارا" حيث استقبلونا واحتفلوا بنا وأكرمونا وقدمنا في الليلة التي سبقت المباراة حفلاً ساهراً أعادهم إلى أيام "نادي الصبيان" وهي أندية لعبت دورا كبيرا في العديد من المدن السودانيه وكان لبارا سهم في ذلك النشاط الشبابي من خلال أندية الصبيان التي كانت منتشرة في البلاد أيام الزمان الزين. كنا أربعة حراس لمرمى مدرسة النهضة، الأربعة يلعبون بالدرجة الأولى.. المرحوم أحمد دول. المرحوم عصمت عبده موسى.. المرحوم ود المقبول وشخصي، قرر المدير الفني لفريق المدرسة مشاركتنا الأربعة.. عندما جاء دوري لحراسة المرمى كان الثيرد باك عبد المطلب جيمس والاستوبر المرحوم مكي ميرغني وهما من أمهر المدافعين في الأبيض وكانا من أصدقائي الخلصاء ويلعبان معي في فريق الفصل الدراسي.. كانت المباراة من جانب واحد، تقدمنا فيها بأكثر من خمسة أهداف ولم يكن هناك داع للتشنج.. جلسنا ثلاثتنا في خط ستة نتجاذب أطراف الحديث ونستعيد ذكريات شقاوة المدرسة.. أفسد حكم المباراة جلسة الأنس الظريفة، بإبراز الكرت الأصفر لثلاثتنا ونهضنا لمواصلة المباراة التي انتهت بثمانية أهداف مقابل لا شيء. فريق مدرسة النهضة في ذلك الوقت يضم أكثر من عشرة لاعبين من الممكن إشراكهم في منتخب المدينة والفرق التي تواجه النهضة كانت تعرف النتيجة مسبقاً.. قبل اللعب في دار الرياضة كنا نلعب لفريق الأولمبي الذي يعتبر أشبالاً لفريق الأهلي، رأت الإدارة تصعيدنا للفريق الأب وكان معي كل من المرحوم عبد المنعم chinees وبلال ودقينو وعباس ركس.. الثلاثة الأخيرون نهوا حياتهم الرياضية في مريخ الأبيض.. أما أنا فظللت احتياطياً مكاني الكنب لحارس المرمى الدولي "أحمدو العملاق" الذي كان يتلقي الكرة بيد واحدة.. كان أحمدو حارساً فارهاً استفدت منه كثيراً في المباريات القليلة التي كنت أشارك فيها ومن التمارين الشاقة التي كان يركز عليها المدرب الدولي "أحمد جادين" ومن الكرات الصاروخية التي أتلقاها من اللاعبين مثل "كمال قدم الخير" لاعب أهلي مدني والأبيض والمشهور بتسديداته القوية وغيره من نجوم أهلي الأبيض آنذاك وجاء انتقالي إلى فريق شيكان لأصير الحارس الأول بدلاً من الاحتياطي الأول ولا زلت مشجعاً ومريداً لنادي الأهلي الذي فتح لي الطريق حارساً بين الخشبات. في الكلية الحربية كنت حارساً أولاً مع أصدقائي ودفعتي الحراس معتصم من أهلي مدني ومحمد هاشم خانجي من الهاشماب وكان للنجيل الأخضر لملاعب وادي سيدنا المنتشرة بين المبنى الرئيسي والنهر والتدريب القاسي عسكرياً ورياضياً أثر كبير بعد أن كدت أن أعتزل بعد إصابتي ضمن مشاركتي مع نادي الكفاح بالخرطوم بحري،قبل دخولي الكليه الحربيه . -وأواصل-